“ما الذي يحدث؟ آه، لا يزال هناكَ الكثير من الوقت حتى الموعد.”
أصبحَ تنفسها غير منتظم وسريع.
حتى في لحظة مواجهتها للشيطان، كانت هادئة، لكن الآن، كانت خائفةً لدرجة لا تُطاق. كانت ترتجف خوفًا من أن تفقد الهديّة الثمينة التي منحها إياها ليون.
“سيدتي؟”
“ماذا أفعل؟ كيف يمكنني…”
“قالت جدة القرية إذا شعرتِ بالألم، تعالي. هيا إلى القرية!”
حثّها الفتى على الذّهاب، وسحبَ ذراعها، لكنها، بينما كانت مبللة بالعرق البارد، هزّت رأسها فقط.
مهما فكّرت، لم يكن بإمكانها نزول الجبل بهذا الجسد.
أدركَ روبين ذلكَ أيضًا، فدار حولها قليلاً، ثم قّرر أن يذهب لإحضار جدة القرية واختفى في غمضة عين.
* * *
“آه، آه!”
كم منَ الوقت مرّ؟
في كهف عميق في الجبال، حيثُ لا أحد لمساعدتها، كانت المرأة تزحف على الأرض، و هيَ تصرخ من الألم.
انتظرتْ وانتظرت، لكن لم يأتِ أحد.
جسدها المرهق لم يعد يطيعها. النّار التي كانت تحترق ببريق كبطلة العالم و محبوبة الجماهير بدأت تخبو.
في اللّحظة التي أدركت فيها نهايتها، واجهتٍ المرأة أخيرًا المشاعر التي تجنبتها طويلاً.
‘أشتاق إليكَ، ليون…’
‘أريد الركض إليكَ الآن.’
صوتكَ الخافت الذي يتردد في أذني، دفء جسدك، أشتاق إليهما لدرجةٍ لا أطيقها.
لستُ بخير على الإطلاق.
فِي الحقيقة، لا شيء بخير.
لكنني كنتُ أكذب دائمًا وأقول إنّني بخير. لأنني إن لم أفعل، كنت سأركضّ إليكَ بجنون. كنت سأنسى ثمن اللّعنة وألقي بنفسي في أحضانكَ.
“هاه، تماسكي…”
لن تتمسكَ بأمل زائف بالعودة حية. بدلاً من ذلك، ستؤدي واجبها الأخير.
جرّت جسدها الثقيل و أمسكتْ بالسّيف.
صديقها القديم، الذي كانتْ تلوّح به بيد واحدة بحرية، أصبحَ الآن ثقيلاً لدرجةِ أنها بالكاد تستطيع رفعه بكلتا يديها.
“روحي ستعود إلى دورة التناسخ، لكن ذكرياتي ستبقى في قاع هذه البحيرة…”
ستنام مع السّيف لمدّةِ ألف عام الموعودة، لتراقب العالم الذي أحبته بكلّ قلبها.
إذا حاولَ الشّيطان تشويه القدر مرة أخرى، سوف تعود لتعيد كلّ شيءٍإلى نصابه.
“وداعًا، الجميع…”
أمالت جسدها ببطء، متكئة على السيف.
دوّت خطواتٌ عاجلة من خارجِ الكهف، لكن حياتها كانت قصيرة جدًا لتلاحظ ذلك.
‘أنا أيضًا أشتاق إليكَ، ليون.’
غرقت في الظّلام الذي لا عودة منه.
إلى ذلكَ المكان البعيد.
كانَ حلمها الأخير، على الأقل، سعيدًا، كما تمنت.
* * *
كان العام العاشر منذ هزيمة الشيطان أستاروث وتأسيس الإمبراطورية على يد البطل.
البطل، الذي أصبحَ الآن في منتصف الثلاثينيات، محا كل ملامح الشّباب المندفع.
لم يعد الكثيرون يتذكرون الشاب الذي كان يضحك و يمزح. الآن، كانَ قوة مطلقة، تجعلُ الجميع يخفضون رؤوسهم خوفًا من نظرته.
“جلالتك، يجب أن تتزوج إمبراطورةً!”
“من فضلك، أنجب وريثًا لتعزيز أسس الإمبراطورية. أنتَ الشّمس الوحيدة للقارة!”
لكن اليوم، تغلبوا على خوفهم و توسّلوا إليه.
في عهد ليوناردو الأول، هدأت فوضى القارة بسرعة. أصبحت أعين الناس تحمل المستقبل بدلاً من اليأس. كان التاريخ على وشكِ دخول مرحلةٍ جديدة.
لكن الإمبراطور لم يعزّز العائلة الإمبراطورية.
أن تُحكم هذه الإمبراطورية الشاسعة بفرد واحد فقط!
الآن، الإمبراطور شاب وقوي، لكن بعد عقود، ستنهال العواصف الدموية و تعمّ الفوضى مجددًا.
“إذن، تريدونَ منّي أن أتزوج.”
“…..”
فتح الشّخص الجالس على عرش ذهبي فاخر، فمه أخيرًا.
كلمة واحدة فقط كانت كافية لتغمر الجميع بهيبة ساحقة، لكن اليوم، لم يتراجع الوزراء.
“النساء اللواتي رشحناهن جميعهن فاضلات و أنيقات، لا ينقصهن شيء ليكنَّ سيدات القارة.”
“اختر أيًا منهن، و من فضلك، عزز نسل الإمبراطوريّة!”
انحنيت شفتا الإمبراطور وهو ينظر إلى الوزراء المتوسلين.
لا، بالأحرى، تشنّجتا.
في اللّحظة التي لمعت فيها عيناه الذهبيتان بانزعاج شديد، اندفعَ فارسٌ من الممر، متجاهلاً أنظار الجميع، و ركع.
“جلالتك، أعتذر، لكن هناكَ شخصٌ يجبُ أن تراه على الفور!”
“تكلم.”
“إليونورا، رفيقتكَ القديمة…”
قبل أن يكمل الفارس كلامه، اتّسعتْ عينا الإمبراطور.
مجرد سماع الاسم جعل الحنين يعتصر قلبه. كان على وشكِ القفز من مقعده، ناسيًا كرامته كإمبراطور.
“…يدّعي أنه ابنها.”
“ماذا؟”
تعرّفَ الإمبراطور على الشعار الخشبي الذي قدّمه الفارس. حتى بعد مرور السنين، لم يكن ليخطئه.
كانت تلك الزخرفة الخشبية التي نحتها بنفسه وأهداها لها.
“ليس هي، بل طفل؟”
“نعم، طفلٌ ذو شعر أبيض بلاتيني و عينين زرقاوين. لم يقل الكثير، لكن يبدو أنها أسّست عائلة…”
ضربَ الإمبراطور العرش.
مرّة، مرّتين، ثلاث مرّات، حتى تشوّه مسند الذراع الذهبي وتحطّمت الأحجار الكريمة.
سحقَ غضبه الجميع، حتى الفارس لم يجرؤ على رفع رأسه.
‘لا يمكن! مع رجل آخر؟ إليونورا لن تفعل ذلك!’
‘هل أنتَ واثق أنها لم تتخلَّ عنك؟’
‘اخرس!’
‘إليونورا، أنا…’
أصبحَ تنفسه مضطربًا. صوت ساخر يتردد كالطنين في أذنيه.
‘لماذا رحلتْ إذن؟’
‘…..’
‘ألم تتساءل لماذا رحلتْ دون كلمة؟ ألم تلمها؟’
شعرَ بالغثيان.
‘لقد تُركتَ.’
صورة رحيلها الجامد ظلّت عالقة في ذهنه.
‘هل سنلتقي مجددًا؟ سأحتفظ بمكان لكِ.’
‘لن أعود.’
‘أخبريني إلى أين ستذهبين. سأجدكِ. ألسنا أصدقاء؟’
لم تجب. لعشرِ سنوات، مضغ هذا السؤال.
ما الخطأ الذي ارتكبتُه؟ كيف أجعلها تلتفت؟ لو عرفتُ مكانها، لتوسلتُ إليها، راكعًا عند قدميها.
عاشَ بين خيط أمل رفيع و يأس مروع، منتظرًا مَـن اختفت دون أثر.
في هذه الأثناء، أنجبتْ طفلًا مع آخر وجاءت لتُظهره أمامه.
شعرَ بالبؤس الشّديد.
“هاها، هاه…”
تحرّكت عيناه ببطء.
رأى قصر الإمبراطورة، المبني لها وحدها، و الذي أُهمل لأن أحدًا لم يعش فيه، لكنه استمر في صيانته ليصبحَ أجمل بناء في العالم.
أرادَ أن يقول لها، إذا عادت يومًا، إن هذا دليل حبه لها.
“الطفل ينتظر. إذا أمرَ جلالتك…”
“لن أراه.”
“ماذا؟”
“كنا نتحدّث عن شيء مهمّ. بشأن اختيار الإمبراطورة، أليس كذلك؟”
شعرَ بثقل التّاج لأول مرة.
في لحظةٍ شعر فيها أنه سيختنق تحته، تحرّكَ فمه تلقائيًا.
“سأتزوج و أتوّج إمبراطورة.”
“جلالتك…!”
أضاءت وجوه الوزراء ثم انطفأت.
كانَ وجهه بلا تعبير، مغطى بهيبته المعتادة.
لكن، لسببٍ ما، بدا وكأنه يبكي بصمت، يفرغ حزنًا لم يستطع كبته.
ربّما كانت فكرةً غير محترمة، لكن في تلكَ اللحظة، شعروا بهذا الوهم.
* * *
تزوّجَ الإمبراطور بعد عشر سنوات.
في العام التالي، وُلد أمير سليم.
احتفلَ الجميع، بلا استثناء، بأعظم فرحة منذ تأسيس الإمبراطورية. قالوا إن ازدهار العائلة الإمبراطورية سيضمن سلام القارّة إلى الأبد.
باستثناء شخصٍ واحد، والد الطفل.
“إليونورا ماتت؟”
في ليلة مينيرفا، أثناء الاحتفال، كانت الأنغام والضحكات تملأ الخارج، لكن الإمبراطور وقفَ في الظّلام وحده.
لم يكن وحده.
أمامه، اخترقَ وحش جريح، مغطّى بالجروح، حماية القصر.
نظرَ إليه كما لو أنه سيمزقه.
“كانت تناديكَ و هي تحدّقُ في الفراغ، تقول إنها تشتاق إليكَ، كانت تشكركَ لأنكَ موجود.”
“لا يمكن!”
“لقد نزفتْ كثيرًا. حاولتْ جدّة القرية إيقاف النزيف، لكن…”
تلقّى تقريرًا عن تسلّل وحشٍ أثناء الاحتفال. شعرَ بالملل من التهاني، فقرّرَ التّعامل مع الأمر بنفسه.
رفضَ مرافقة الفرسان و خرجَ للصيد.
تتبع الدّم في الممر، فلم إيجاده يكن صعبًا.
“أنتَ مَـنْ قتلها!”
“……”
“لقد ماتتْ بسببكَ! أعدها إلى الحياة!”
دوى رأسه. صرخة العنكبوت المؤلمة تردّدت كالطنين.
“…..”
أمامَ الحقيقة، لم يستطع الكلام.
عادَ الحقد والكراهية يمزقانه، لكنه لم يستطع إراقة دمعة واحدة.
‘آه، إليونورا…’
أدركَ ثقلَ تضحيتها، و أبوّة طفلها، بعد أن فقدَ حتّى شظايا روحها.
التعليقات لهذا الفصل " 126"