كانت فيفيان تلهث من الجري بأقصى سرعتها، فارتجفَ صوتها.  

 

حاولت تمويه ذلكَ بالسّعال الخفيف، وكأنها تعاني من مرض السل. لحسنِ الحظ، بدا أن ذلكَ نجح، إذ ظهرت علامات الأسى على وجه الخادمة.  

 

“تبدين شاحبة.”  

 

“جلالتك…”  

 

لم يطلب إذنًا، لكن يوهانس كان واقفًا عند المدخل يحدّق بها.  

 

“هل تعانين من الحمّى؟”  

 

اقتربَ.منها بخطواتٍ واسعة ولمس جبهتها.  

 

كان تصرفًا ودودًا بشكلٍ مبالغ فيه من إمبراطور تجاه نبيلة، لكن فيفيان شعرتْ بالضجر الشديد. بفضلِ اللعنة، كانت في حالة صحية أفضل من أي وقت مضى. 

 

“أتقدّم بالتحية لجلالتك…”  

 

بالطبع، لم تُظهر ذلك، بل أخذت رداءها ببطء و نهضت.  

 

‘آه، ألم العضلات.’  

 

بسبب نقلها المتسرّع لصناديق ثقيلة، كانت ذراعاها ترتجفان من الإرهاق.  

 

عندما رأى يوهانس ذلك، أمرها بالاستلقاء فورًا، لكنها أصرّت على الجلوس.  

 

جبينها المبلل بالعرق البارد، وخديها الشاحبين، وصدرها الذي يعلو ويهبط بصعوبة، جعلاها تبدو بائسة وهشّة، فارتخى فم يوهانس قليلًا.  

 

“هل أنا أُرهقك؟” 

 

“هذا…”  

 

“أتمنى أن تتعاملي معي بأريحيّة كما في السّابق. أريد أن نكون أقرب بكثير.”  

 

‘يا للترهات التي يتقنها هذا الرجل.’  

 

خشيت فيفيان أن تتفوّه بشتم إن خفّفت حذرها لحظة، فاكتفت بحركة شفتيها بصمت.  

 

لكن يوهانس، بطريقةٍ ما، فسّرَ ذلكَ على أنه خجلٌ منها، فضحكَ بهدوء.  

 

‘لو أستطيع لصفعته، ولو لمرّةٍواحدة فقط!’  

 

حسنًا، من وجهة نظره، ربّما كان سعيدًا.  

 

لقد نجحَ في نصف هدفه من هذه الحرب: الانتقام لأخيه واستعادة الأسيرة. والأسيرة نفسها جاءت إليه بقدميها. 

 

نتيجة لذلك، ارتفعت معنويات الجيش الإمبراطوري، وكان يوهانس يتردّد على خيمتها باستمرار، دونَ سببٍ واضح.  

 

كان ذلك، بلا شك، لأغراض التباهي.  

 

‘يريد الترويج لنجاحه في الإنقاذ بأكثر الوسائل فعالية.’ 

 

وإلا، لما كانَ يهتمّ بحالتها الصحية بعد محادثات قليلة فقط.  

 

“قريبًا، ستتمكنين من العودة إلى مينيرفا. الإمبراطورة الأم تتطلّع لرؤيتك بشدة.”  

 

“أشكر كلا جلالتك و جلالتها على كرمكما… كح!”  

 

سعلت فيفيان بخفة، متظاهرةً باستماعها لكلامه، لكنها قصدت أن تُلمّح إلى أن حالتها الصّحية لا تسمح بمواصلة الحديث.  

 

“يبدو أنني أطلت على مريضة. الوقت متأخر، فاستعدي للراحة.”  

 

“عُد بحذر، جلالتك.”  

 

مع وجود أعين تراقب، كانَ عليها تقليل أي فرصة للانتقاد.  

نهضت فيفيان لتوديع الإمبراطور. لكن لحظة وضع قدميها على الأرض للوقوف…  

 

“أميرة!”  

 

“آه…”  

 

كادت تسقط لضعف ساقيها، لكن يوهانس أمسكَ بها بسرعة وضمّها.  

 

كانت قبضته على كتفيها ساخنة. نظرت إليه بنظرةٍ خاطفة، لكنها شعرت بنظرة ذات مغزى، فأدارت رأسها بسرعة.  

 

بدت تلكَ اللحظة، لمن يراها، كأنها قصة ثنائي واقعين في الحب.  

 

“هه، يا إلهي…”  

 

حتى الجنرالات، الذين كانوا في حالة تأهب لحماية الإمبراطور في ساحة المعركة، انسحبوا بلباقة.  

 

بعد أن أحنى عينيه بارتياح، همسَ يوهانس في أذن فيفيان: 

 

“أتمنى أن تسامحي هذا التّصرف الوقحَ تجاه سيدة.”  

 

قبل أن تسأله عن معنى كلامه، رفعها بين ذراعيه و وضعها بحذر على الفراش، بل وغطّاها بالبطانية بنفسه.  

 

“أتمنى لكِ ليلة سعيدة، أميرت.”  

 

“حسنًا…”  

 

أجابت بصوتٍ خافت كمن يهمس، وهي تخفض رأسها.  

 

ضحكَ يوهانس وخرجَ من الخيمة، وأنهت الخادمات ترتيب فراش فيفيان، ثم خفّفن الإضاءة وانسحبن. 

 

“…..”  

 

ساد! الهدوء.  

 

ما إن تأكّدت من عدم وجود أحد حولها، قفزت فيفيان من الفراش بحركات محمومة، تتلوّى كأنها دودة مقطوعة الخصر.  

 

“آه، اللعين! آه!”  

 

هل هناكَ إهانة أقذر من هذه؟  

 

فركت فيفيان بشراسة الأماكن التي لمسها يوهانس، كأنها تؤدي رقصة بريك دانس.  

 

“بيري…” 

 

توقّفت عن هياجها فقط عندما أبدى العنكبوت الملكي في جيبها شكوى من الدوار.  

 

“هاه، آسفة، لقد انفعلت كثيرًا.”  

 

“بيري بي.”  

 

أطلّ روبين، الذي بدا لسانه مشدودًا، بعينيه من الجيب.  

لكن مع رفع ساقيه الأماميتين، ظهرت قطعة أثرية لم ترَها من قبل.  

 

من شكلها، بدت كمفتاح، لكن على عكسِ القطع الأثرية العادية، كانت مزخرفة بشكل فاخر.  

 

“ما هذا؟”  

 

“…..”  

 

رمشَ العنكبوت بعيونه الثمانية ببطء.  

 

كان بريق عينيه الصافي والبريء كافيًا للإجابة. أصدرت فيفيان سعالًا محرجًا وأخذت القطعة.  

 

 

“لا يجب سرقة أغراض الغرباء.”  

“بي؟”  

 

“آه، لكن يوهانس استثناء. أحسنتَ، يا صغيري.”  

 

كما توقّعت، كانت الزخرفة الفاخرة تُشير إلى أنها سُرقت من ذلكَ الأشقر. غيّرت فيفيان موقفها، وأغدقت المديح على العنكبوت، ثم استلقتْ على الفراش مجددًا.  

 

‘يجب أن أجد الكرة البلورية التي ظهرت في القصّة الأصلية…’ 

 

كان الوقتُ أضيق بكثير مما توقّعت، بسببِ سوء الأوضاع الحربية.  

 

بحسب ما سمعت من يوهانس للتو، تم اختراق طليعة الجيش الشمالي، و وردت تقارير عن ظهور وحش الأسد الأسود في معسكرهم.  

 

‘رغمَ أنّها أخذت اللعنة، إلا أنّه تحوّل إلى أسد أسود؟ كيف حدثَ ذلك؟’  

 

لمست فيفيان محيط قلبها.  

 

بسببِ طبيعتها التي تقاوم الطّاقة السحرية، لم تكن العلامة بلون أحمر داكن، بل فضية باهتة، لكنها بالتأكيد كانت نجمتين معكوفتين متّحدتين رأسيًا.  

 

كانت علامة الذبيحة موجودةًفيها بالكامل.  

 

‘ربما يكذب يوهانس. هو لا يعلم أنني أخذت اللعنة.’  

 

‘هه، يظنّ أنه سيخدعني؟’ 

 

كلّ ما عليها هو عدم التزعزع والقيامُ بمهمتها.  

 

مع هذا العزم، غطّت فيفيان رأسها بالبطانية. كان عليها النوم لبضع ساعات من أجل أنْ تستأنف البحث عند الفجر.  

 

‘أنا متعبة…’  

 

بعد توتّر دائم في معسكر العدو، كانت مرهقة تمامًا. 

 

أغمضت عينيها، وسرعان ما غرقت في نوم عميق.  

 

＊ ＊ ＊  

 

مرّت أيّام قليلة.  

 

مالت الأوضاع الحربية المتأزمة تمامًا، وخسر الجيش الشمالي المرتفعات التي استولى عليها بصعوبة، وتقهقر إلى حافة الوادي.  

 

لذلك، خطّطَ الجيش الإمبراطوري لهجومٍ شامل لعزل الجيش الشماليّ تمامًا في شمال القارة.  

 

كانَ اليوم هو اليوم الحاسم.  

 

“…..”  

 

منذ الفجر، قبلَ شروق الشمس، كانت أصوات الجنود تتحرك بسرعة تُسمع. 

 

بينما كانت فيفيان مستلقية على الفراش، متظاهرة بالنوم، تتفحّص الأوضاع الخارجية وتفكر.  

 

إذا نجحت خطة يوهانس وتمَّ طرد الجيش الشماليّ خارج الوادي، ستصبح الأوضاع لا رجعة فيها.  

 

لم تستطع كبح قلقها عند هذا الفكر.  

 

‘هل ستصبح الأمور كما في القصّة الأصلية؟’  

 

كانت تحرص على عدم اكتشاف تحركاتها، فتتحرّك خلسة في أوقات محدودة، لأنها و روبين كانا تحت مراقبة مستمرة.  

 

لكن لم يعد هناك متّسع للحذر.  

 

مالت أفكارها نحو اتخاذ مخاطرة والتحرك بجرأة. كانت الفرصة الآن، مع إفراغ المعسكر بسبب الهجوم الشامل.  

 

انتظرت قليلًا حتى سمعت دويّ حوافر الخيل. كان الجيش يغادر المعسكر.  

 

في الوقت نفسه، نهضت فيفيان فجأة.  

 

“هذا لن يجدي .”  

 

مع حياة أصلان على المحكّ، لم تكن في وضع يسمح لها بالقلق على سلامتها.  

 

“روبين، هيا!”  

 

عند ندائها، ظهر الفتى مقطّعًا الهواء. أمسكت يده دون تردد.  

في المكان الذي غادراه، كانت طاقة سحرية كثيفة تتلوّى.  

 

＊ ＊ ＊  

 

عندما ارتفعت الشّمس إلى وسط السماء، اندلعت فوضى في المعسكر مع صرخات تفيد باختطاف الأميرة من قبل وحش. 

 

تكوّنَ فريق بحث للعثور عليها، لكن بسببِ قلّة الأفراد المتبقين في المعسكر، كان التنسيق سيئًا.  

 

بينما كانَ الجميع في حالة ارتباك، كانت فيفيان في فوضى من نوع آخر.  

 

“أين بحق السماء أخفاها؟!”  

 

كان يوهانس سيّافًا ماهرًا، لكنه، على عكس أصلان، لم يكن سيّافًا سحريًا.  

 

لذلك، افترضت أنه لن يحمل كرةً بلورية حجرية لا يمكنه استخدامها، لكن مع تطور الأمور، بدأت تشعر بالقلق.  

 

رغم تفتيشها لجميع المخازن التي تُدار فيها الأدوات السحرية في المعسكر، لم تجد شيئًا.  

 

‘سحرٌ يربط الشيطان بجسدِ إنسان إلى الأبد.’  

 

لطعن قلب يوهانس، المقيّد بالشيطان، بالسيف و قتله، كانت تحتاج إلى كرتي هيسيوس و يوهانس البلوريتين. لكنها لم تجد إحداهما، وكادت تفقد صوابها.  

 

“ماذا أفعل الآن…؟”  

 

بينما كانت تحدّق بحسرة في المخزن المبعثر، توقّفت فجأةً.  

 

“أين هي بحق السماء؟!”  

 

كانت فيفيان، وهي تحدّق بحسرة في المخزن المبعثر، قد توقّفت فجأة عن الكلام.  

 

لقد خطرت لها فكرة مجنونة حقًا. 

 

كانَ.هناك مكان واحد لم تفتّشه بعد.  

 

“خيمة يوهانس.”  

 

لكنها هزّت رأسها على الفور.  

 

كانت تلكَ مساحة الإمبراطور. حتى لو كان المعسكر خاليًا، فلا بد أن ذلكَ المكان يُدار بعناية فائقة.  

 

‘ومع ذلك…’  

 

تحت قدميها، مال ظهرَ الخيمة بشكلٍ مائل.  

 

كانت تتحرّك منذ الفجر، وأوشكتْ الشّمس على الغروب. على الرّغمِ من أنها كانت تمحو الطّاقة السحريّة وتتحرّكُ بخفاء، إلا أنها لا تستطيع إضاعة المزيد من الوقت إلى الأبد.  

 

بعد أن حسمت قرارها، لم يكن هناك أي تردد في تصرفاتها.  

بدأت فيفيان بتفتيش خيمة يوهانس بعناية، غرفةً تلو الأخرى.  

 

كان لديه، كما يليق بإمبراطور، عدّة مساحات خاصة. تسلّلت فيفيان من مكتب العمل إلى غرفة الاستقبال التي تُجرى فيها المحادثات الخاصة، مرورًا بالعديد من الأماكن.  

 

كانت كل محاولة تبوء بالفشل، ولم يتبقَ سوى غرفة النوم المستخدمة للراحة.  

 

“لا أعتقد أنه سيضعُ شيئًا مهمًا في مكانٍ كهذا…”  

 

في تلكَ الأثناء، غربت الشمس تمامًا، وأصبحت الجوانب مظلمة كالليل الحالك.  

 

انتقلتْ فيفيان، ممسكة بيد روبين، وهبطت على الأرض.  

 

في الظّلام الخافت، رأتْ فراشًا وطاولة وخزانة زينة فقط، وكان المكان الأكثر بساطة بين ما رأته حتى الآن.  

 

تنهّدت بحسرة وهي تتفحّصُ المكان، ثم فتحت عينيها بدهشة.  

 

كان هناك شيء لا يُمكن أن يكون موجودًا في مثل هذا المكان، معلّقًا على خزانة الزينة. 

 

“لا يُعقل. إنه…”