“لقد جعلتكِ تنتظرين طويلًا.”
شعرَ أصلان وكأنّ عقله سينفجر من المشهد أمامه.
ركض طوالَ اللّيل دون توقّف. تمنّى أن تكون فيفيان بخير. كانت قد جُرحت كثيرًا، فتمنّى لو طُعن بدلاً منها.
اعتمادًا على أثر دائرة سحريّة خافتة محفورة على سيف فيفيان، كبت قلقه الممزّق بصعوبة.
“لقد أتيتُ، فيفيان.”
كانت فيفيان ملقاةً على الأرض الباردة بلا حول. عيناها الزّرقاوان الفاقدتان للبريق وخدّاها الشّاحبان بديخا مؤلمين جدًا.
في اللّحظة التي هاجمتها الوحوش، انقطعَ خيط العقل المتوازن لديه.
عندما هزّ أصلان سيفه ، طارت هالة سوداء كشفرة وقطعت رقاب الوحوش. كانت الهالة تنفجر كالنّار في الزّيت، بشكلٍ مخيف و مهدّد.
أرغ، عواء!
“ابتعدي عن فيفيان الآن!!”
ركل أصلان خصر الحصان و قفزَ من الجرف الحادّ. احترقت الذّئاب التي هاجمته قبلَ أن تقترب من هالته.
قفزَ منَ الحصان وهزّ سيفه المشحون بالهالة. انفجرت شرارات متسلسلة مع صوت طقطقة.
عواء، عواء!
اندفعَ قطيع الوحوش كالمدّ بعد شمّ رائحة الدّم.
يجبُ عليه حماية فيفيان.
نعم، قليلًا فقط.
“سيّدي، لا يمكن!”
رفيقتي الضّعيفة و المحبوبة. لا أحتاج شيئًا سواها.
ههه، ههههه!
غزتْ الهالة السّوداء جسده عبر الأوعية الدّمويّة. اختلطت طاقة غريبة و نجسة بهالة سيفه.
“سيّدي، توقّف! لا يمكن!”
“خذ السّيّدة واهرب، بسرعة!!”
كانت الأصوات المزعجة من حوله تزعجه. لكن عندما سمع اسم فيفيان، اندفع نحوها غريزيًا.
تمزّقت أوردته، و بياض عينيه تلطّخ بالأحمر المخيف.
“أبعد يديكَ عنها. لا أحد يستطيع أخذها.”
أمسكَ أصلان سيفه بعكس الاتّجاه و طعنه في الأرض.
هزّتْ اهتزازات شديدة الوادي الشّاسع. اندمجت الهالة المحيطة مع إرادته. كما لو كانت تخضع لكائن واحد، سقطت الوحوش واحدًا تلو الآخر، و هي تنزف من أفواهها.
“فيفيان الخاصّة بي…”
تطايرتْ شرارات سوداء كالبرقِ من سيفه المغروس.
دوّى هدير، وظهرَ صدع ضخم في الوادي الحادّ. انهارت الأرض، و سقطت الوحوش في الجرفِ السّحيق.
مدَّ أصلان يده نحو فيفيان. لكن ما رآه كان قدمًا أماميّة مشعرة بشعة لوحش.
‘إذا لم يُكتشف، فلا بأس. إذا لم يُكتشف أمره حتّى النّهاية، سيصبح ذلكَ الحقيقة.’
وصلت الهالة السّوداء التي تدفّقت عبر أوردته وأعصابه إلى قلبه. شعور مألوفٌ و مقزّز بالاستيلاء على الجسد. إنسان يمشي على قدمين يزحف بائسًا على أربع.
كانتْ عينا فيفيان ترتجفان برعب.
“أص، لان…؟”
لا تنظري.
“سيّدتي، اهربي! إنّه خطير!”
لا تنظري.
“أرغ!”
لا تنظري…!!
بينما هاجمَ الوحش الأسود الضّخم فيفيان، انهار! الجرف المتوازن كفتات البسكويت.
طُرحَ جسد فيفيان في الهواء، وصدى صراخ الأطفال وصوت انهيار الجرف في أذنيها.
آه، انتهى كلّ شيء.
‘عندما تتفتّح الزّهور في بلاكفورد، ستكتمل سنتنا الموعودة. ستكونين العروس الأجمل في العالم، و سيحبّكِ الجميع هنا.’
الخداع و الكذب يتطلّب ثمنًا، و ذلك سيُنهي انتظاري الطّويل…
* * *
في ظلامٍ دامس، رمشتْ فيفيان ببطء. مرّت ريح قاتمة عبر الكهف.
‘أين أنا…؟’
في اللّحظة التي كادتْ الذّئاب تمزّقُ رقبتها، التقت عيناها بأصلان على الجرف.
كان قدْ فقدَ السّيطرة، و هو مغمور بالهالة السّوداء. هاجمَ أصلان دون تمييز بين العدوّ و الحليف.
انهارَ الجرف من الصّدمة، وكانت آخر ذكرى لها فقدان الوعي.
“آه.”
تأوّهت مع حركة خفيفة، فقدْ تألّم جسدها.
بينما نهضت بصعوبة، رأتْ عينينِ حمراوين تلمعانِ في الظّلام.
كانتا تحدّقان بها بنيّةٍ قاتلة، كما لو كانت ستمزّقها في أيّ لحظة.
‘أصلان؟’
لون العينين…
رغم أنّها واجهته كوحشٍ عدّة مرّات، كانَ هناكَ شيءٌ مختلف هذه المرّة. شعرتْ بالرّعب من نظرته القاتلة.
تراجعت فيفيان غريزيًا إلى وضعيّة دفاعيّة.
“لا، لا تقترب…”
“أرغ.”
تجعّدت جبهة الوحش بألم، ثم كشفَ عن أنيابه بقسوة.
كانت العينان الحمراوان علامة سيطرة الشّيطان القديم أستاروث على الجسد. لم يعد هذا أصلان الذي تعرفه.
إذا أخطأتْ هنا، سوف تموت هنا.
كبتت فيفيان توتّرها. لا يمكنها إظهار ضعف للشّيطان. حتّى لو كانت خائفة، يجبُ أن تتظاهر بالهدوء.
“أرغ.”
“آه!”
في تلكَ اللّحظة، اقتربَ الوحش ودفعها إلى جدار الكهف. شعرت بنظراته الحمراء تفحص جسدها النّحيل كما لو كان يلعب بفريسة صغيرة.
ضغطٌ خطير أثقل كتفيها.
“لا تفعل هذا، أرجوك.”
“أرغ.”
“ألا تعرفني؟”
على الرّغمِ من صوتها اليائس، لم يكن هناكَ تردّد في نظرات الوحش وهو يفحص رقبتها.
“أصلان…”
هاجمها قلقٌ مفاجئ.
أين هو الآن، وقد استولى الشّيطان على جسده؟ ماذا لو اختفى من العالم إلى الأبد؟ ماذا لو لم ترَه مجدّدًا؟
‘…لا أريد ذلك.’
لا يمكن أن يكون قد اختفى. لقد أدركتُ مشاعري للتّو، لا يمكن أن ينتهي الأمر هكذا.
“أصلان، استيقظ. أصلان!”
“أرغ!”
ضغطَ الوحش الأسود على رقبتها بمخالبه.
حاولت فيفيان التّحرّر، لكن لا مفرّ. خدشت جدار الكهف البارد بألم، و تكوّنت قطرات دم على أطراف أصابعها.
‘لا أريد الموت. لا أريد الموت هكذا…!’
على الرّغمِ من علمها أنّ هذا ليس أصلان، وأنّه الشّيطان أستاروث في جسده، لم تستطع التّخلّي عن أمل ضئيل.
كانت تأمل أن يستعيد وعيه بمعجزة، ويحتضنها قائلًا إنّه آسف لإيذائها.
كما اعتادَ دائمًا.
‘بلاكفورد هي مملكتي. والآن، هي أرضكِ أيضًا.’
‘ماذا يعني ذلك…’
‘يعني أنّه يمكنكِ التصرّف بحرّيّة دونَ النظر إلى أحد. هذا بيتكِ.’
حتّى لو كانَ ذلكَ شفقة منه. كانت شظايا الحبّ التي قدّمها لها ثمينةً و مؤلمة.
كلّما عُوملتْ كجوهرة ثمينة، كان هناكَ وخزٌ في قلبها.
‘هل انتهى حقًا؟ هل أصلان بالفعل…’
في وعيها المتلاشي، تذكّرت فيفيان آخر ذكرى في الوادي.
في لحظة انهيار الجرف، وقفَ أصلان يحميها. صدّ الصّخور المنهارة بجسده.
والآن، كانتْ على قيد الحياة.
السّبب الوحيد الذي فكّرت فيه كان أصلان. حتّى وهو ممسوس بالشّيطان، انتزعها من السّقوط وقفزَ معها إلى كهف في الجرف.
رأت فيفيان إمكانيّة. إمكانيّة ضئيلة لإنقاذِ أصلان.
“افتح عينيك، أصلان…”
رفعت فيفيان يدها بصعوبة و أحاطت خدّ الأسد الأسود.
عندما امتصّت الهالة السّوداء، احترقَ قلبها. انتفخت الأوعية التي تدور فيها الهالة إلى الحدّ الأقصى. اجتاحها ألم يمنعها من التّنفس.
“آه، آه!”
كانتْ لديها أسئلةٌ كثيرة.
كيف وصلَ شخصٌ كانَ يجب أن يكون في إقليم الكونت إلى هنا؟ هل الفرسان و الأطفال الذين كانوا معها بخير؟ ماذا عن قلعة و إقليم بلاكفورد؟
لكن القلقَ الأكبر كان…
“أصلان، هل أنتَ بخير؟ هل أصبت، آه!”
كما لو كانَ يحاولُ إسكاتها، زأر الوحش بقسوة وشدّ قبضته على رقبتها.
لهثت فيفيان بصوتٍ خشن. كانت الهالة السّوداء المحيطة بأصلان مقلقة، كما لو كانت ستبتلعه بالكامل.
ومع ذلك، كانَ هناك أمل واحد: كلّما نادت اسمه، كانَ الوحش يتفاعل بعنف أكثر.
كانَ يقاوم. كان يقاتلُ الشّيطان لإنقاذها.
“أنا، بخير، بفضلك…”
“أرغ!”
“هذه المرّة، سأساعدك، آه.”
كان الامراض مقامرة واضحة. لكن لم يكن لديها خيار.
‘لم أخض معاركَ خاسرة من قبل، لكن معك، لم أستطع منع ذلك.’
ابتسمت فيفيان بسخرية، أمسكت مخلب أصلان بقوّة، و رفعت ذقنها. ثم، دون تردّد، خدشت رقبتها.
“آه، آه.”
شمّ الوحش رائحة الدّم ولهث بعنف. شعرت أنّه فقد السّيطرة و سيهيج.
تمنّت أن يستغلّ أصلان الفجوة لاستعادة السيطرة. حدّقت في عيني الوحش بيأس.
لكنّها أدركت هزيمتها قريبًا.
“أص، لان…”
غرست أنياب حادّة في لحم رقبتها.
كانت تعرفُ من البداية. أمام أصلان، كانتْ دائمًا الخاسرة.
غرقت حواسّها كما لو كانت في أعماق البحر. شعرت بالقوّة تتسرّب من أطرافها. سقطت يدها التي كانت تحيط بخدّ الوحش.
في تلكَ اللّحظة، استعادت عينا الوحش تركيزها.
“…..”
سادَ صمت كالموت المكان، ارتجفت عينان ذهبيّتان كما لو كانتا لا تصدّقان. تراجعَ الأسد الأسود بقلق.
مع فقدان الدّعم، انزلقت فيفيان على جدار الكهف وسقطت.
نفى الوحش المشهد البائس أمامه، لهث بيأس وزأر حتّى دوّى الوادي.
“لا، لا يمكن.”
جلسَ أصلان مذهولًا، يتمتم.
كانت قدم الوحش التي خنقت فيفيان قد عادت إلى يد رجل عاديّ، لكنّها غارقة بدم فيفيان.
“مستحيل. ماذا فعلت…؟”
زحفَ أصلان على أربع نحوها.
احتضن فيفيان المغمى عليها، لكن جسدها كان متدلّيًا بلا حياة. تمتم أصلان بحيرةٍ وهو يحتضنها.
“استيقظي، فيفيان. افتحي عينيكِ. لقد أخطأتُ، أنا…”
لا يمكن أن يكون هكذا. أرجوكِ ، لا. لا!
التعليقات لهذا الفصل " 106"