شعرت فيفيان بهزّة لطيفة وفتحت عينيها. كانت ريشة نعامة تدغدغ خدّها بلطف.
‘أوه، ما هذا؟’
دخلتْ في فمها.
بصقت فيفيان الرّيش الملتصق بلسانها وتنهّدت. كانت تحلم مرّة أخرى. لكن هذه المرّة لم يكن كابوسًا.
في ليلةِ تتساقط فيها النجوم الجميلة، أمسكَ رجل بامرأةٍ كانت تسير وحيدةً.
‘انتظري، إليونورا!’
‘لقد كشفْتني مجدّدًا. حاولتُ المغادرة بهدوء، لكن لا يمكن خداع عينيكَ.’
‘لمَ تريدين المغادرة؟ لقد اختفى الشّيطان، لكن العالم لا يزال في فوضى. سأبني دولة تحمي الجميع. دولة عادلة بمسؤولين أكفاء و شعب سعيد.’
‘ستنجح في ذلك. أؤمن أنّك ستصبح ملكًا محبوبًا من الجميع.’
‘لمَ تتحدّثين كأنّه أمر لا يعنيكِ؟ أنتِ تعلمين! أكثر من أيّ شخص، أحتاج إليكِ…’
أحتاج إليكِ.
مدَّ الرّجل المتردّد يده نحو المرأة. ليلمس خدّيها الحمراء، كما اعتادَ دائمًا.
لكن المرأة تراجعت خطوةً. تصلّبَ تعبير الرّجل بإحراج.
‘كنتُ أريدُ قولَ شيء منذ زمن. بعد هزيمةِ الشّيطان أستاروث و استقرار الأوضاع، كنتُ سأقول لكِ…’
‘شكرًا لكلّ شيء.’
لمسَ الرّجل جيبه، لكن صوتَ المرأة كان حازمًا.
معنى عدم القول. كانَ رفضًا واضحًا في كلماتها “شكرًا لكلّ شيء”، فابتسم الرّجل بصعوبة وهو يعضّ داخل خدّه بألم.
‘هل سنلتقي مجدّدًا؟ سأحتفظ بمكانكِ، عودي متى شئتِ. نحن أصدقاء، أليس كذلك؟’
‘اسمع، أنا…’
لقد نقشَتُ جزءًا من اللعنة التي كان يجب أن تذهب إليكَ في قلبي.
حبيبي الأحمق الذي يتحمّل كلّ المسؤوليّة وحده. لم أستطع تحمّل رؤيتكَ تموت بألم.
حتّى لو كان الثّمن ألّا نكون معًا بعد الآن.
‘وداعًا، ليون.’
لا أستطيع رؤيتكَ تلوم نفسك، فلتعنني بنفسكَ بدلاً من ذلك.
تراجعت المرأة ببطء و استدارتْ نحو نجم الشّمال.
ظلّ الرّجل واقفًا، محدّقًا في الاتّجاه الذي اختفت فيه لوقتٍ طويل، حتّى غاب القمر و النّجوم وأشرق الفجر الخافت.
“سيّدتي، هل أنتِ بخير؟”
“…..”
“سموّك، السّيّدة استيقظت!”
كما لو كانَ استمرارًا للحلم، كان الفجر الخافت يشرق في سماء مظلمة.
رمشت فيفيان بدهشة، ثم أدركت أنّها محمولة على ظهر نعامة تصعد طريقًا جبليًا. اقتربت رؤوس أليكس والنّعامة منها.
“فيفيان، استيقظتِ أخيرًا!.”
“ما الذي حدث؟ لمَ نحن في طريق جبليّ…؟”
كانَ جسدها يؤلمها كما لو أنّها ضُربت. أطلقت فيفيان أنينًا خافتًا، فأنزلها أليكس من ظهر النعامة و وضعها على الأرض بعناية.
‘أوه، تفو!’
دخلَ كمّ من الرّيش في فمها خلال العمليّة، لكن أليكس ركّز على لفّها بعباءته بعناية.
“صحيح، نحن نصعد الجبل الآن.”
“ماذا يعني ذلك؟ لمَ نفعل هذا؟”
كان! الملجأ الأصليّ قد اختُرق، لذا كان عليهم الذّهاب إلى مكان آخر، لكن أن يكون هذا المكان هو جبال بلاكفورد المليئة بالوحوش!
على الرّغم من صدمتها، واصلَ أليكس بهدوء.
“في جبال بلاكفورد، هناكَ أرضٌ لا تستطيع الوحوش الاقتراب منها.”
“أرض لا تستطيعُ الوحوش الاقترابَ منها؟”
“كأنّ هناكَ خطًا غير مرئيّ، لا يقتربون منه أبدًا. راقبتُ المكان لمدّة أسبوع، و لم يمرّ وحش واحد. لا أعرف السّبب.”
لهذا كان أليكس يتغيّب كثيرًا. حتّى أنّه غاب أكثر من أسبوع، فطلبت من أصلان البحث عنه.
عندما بدتْ فيفيان غير مطمئنة، أضاف أليكس.
“ليس لدينا معلومات عن مكانٍ آمن الآن. صعود الجبل خطر، لكنّه ليس مستحيلًا.”
“أخي…”
“أنتِ أختي التي أوصتني أمّي بحمايتها حتّى آخر لحظة. لا تقلقي، سأحميكِ.”
اكتشفت فيفيان آثار معركة شرسة على أليكس.
ظنّ أنّها لن تلاحظ ذلك في الظّلام، لكن الضّمادة على ذراعه اليمنى كانت ملطّخة بالدّم، ومع ذلكَ حاول التصرّف بطبيعيّة.
‘لمَ أصبحَ الأمر هكذا؟’
اشتاقت للأيّام الهادئة قبلَ مغادرة أصلان إلى إقليم الكونت.
‘لقد تأخّر الوقت. هل ننام؟’
‘أنزلني، سأنام وحدي!’
‘عندما تكونين وحدكِ، تفكّرين بأشياء غير ضروريّة وتحزنين. يجب أن أجعلكِ تنامين كلّ يوم.’
ابتسامته الخطيرة و الماكرة التي تظهر أحيانًا، حضنه الواسع والهادئ، و نظراته الذّائبة كالعسل…
‘آه.’
كلّ لحظة يوميّة تتذكّرها تكون عنه.
كانَ هو الوحيد بجانبها.
‘أنا أشتاق إلى أصلان.’
عاشت حياتها كعشبة عائمة بلا مكان لقلبها. لذا، تجذّر قلبها فيه هو الذي يثبّتها بقوّة.
مع هذا الإدراك المفاجئ، رمشت فيفيان بدهشة.
لم تصدّق أنّها فتحت قلبها بصدقٍ لشخصٍ آخر.
‘ما هي حياتي؟’
لكن إدراكها تبدّد مع صداع كاسر. شعرت أنّها كانت تتساءل عن شيء، لكن ستارًا أسود غطّى كلّ شيء، ولم تتذكّر شيئًا.
“لقد استراح الجميع، فلننطلق.”
“حسنًا، سموّك.”
أيقظَ الفرسان الأطفال النّاعسين. راقب أليكس حالة فيفيان من جانبها.
“فيفيان، هل يمكنكِ النهوض؟ إذا كنتِ متعبة، سأحملكِ إلى ظهر أرمسترونغ.”
ردًا على اقتراح أليكس، ركضت النّعامة، ترفرف بأجنحتها العضليّة. يبدو أنّ اسمها أرمسترونغ.
هزّت فيفيان رأسها بعيون ضبابيّة.
“أنا بخير، يمكنني المشي الآن.”
لم تعد تريدُ أكل الرّيش. حتّى لو كانت جائعة، لن تأكل ذلك.
نهضت بنشاط، فأومأ أليكس مطمئنًا.
“لقد اقتربنا، تحمّلي قليلًا.”
“أنا بخير…”
“منذ صغركِ، كنتِ دائمًا تقولين ‘أنا بخير’. صدّقتُ ذلك كأحمق و تركتكِ وحيدةً في الدوقية.”
“أخي.”
“لو علمتُ ما فعله والدكِ بكِ، لكنتُ خرجتُ معكِ من البيت بأيّ طريقة…”
لهذا لم أخبركَ.
عندما ربّتت فيفيان على كتف أليكس بدافع عاطفة مجهولة، حدث ذلك.
“استعدّوا للقتال! الجميع، استعدّوا!”
“لقد حوصرنا. رجال السّحالي!!”
قفزت ظلال ضخمة من الغابة المظلمة. كانت هجمة من قطيع رجال السّحالي.
سحبَ أليكس سيفه وقام بحماية فيفيان. تلألأت عيناه بشراسة وهو يحدّق في العدو.
“سأوقفهم، اهربي.”
“لكن ذراعكَ اليمنى…!”
“اركضي الآن!”
اندفعَ نحو رجال السّحالي. شعرت فيفيان، التي سحبت سيفها أيضًا، بشيءٍ يسحب عباءتها.
استدارت لترى الأطفال يرتجفون متجمّعين.
“سيّدتي، أنا خائف…”
تقدّمَ أليكس، وتجمّعت الوحوش عليه.
تلألأت عيون السّحالي المشقوقة في الظّلام، وصدى صوت المعدن يصطدم في هواء الفجر.
تجاوزت الهالة المحيطة بها مستوى يمكنها التحكّم به.
‘ماذا أفعل؟’
أرادت الاندفاع لإنقاذ أليكس، لكن الوزن الصّغير عند قدميها ثقل كتفيها.
“سيّدتي، عليكِ الذّهاب الآن.”
“بينما يؤخّر سموّه الوقت…”
لمَ تعلّمتُ السّيف؟
‘لا تنظري إلى الماضي، عيشي. أريد دائمًا سعادتكِ، أختي.’
كانت لحظة كالأبد.
انقسمَ الفرسان بناءً على أمر فيفيان. اندفع فريق لدعم أليكس، بينما حما الآخرون السّيّدة والأطفال.
عضّت أسنانها وأدارت رأسها بصعوبة.
* * *
ركضوا بلا توقّف في الجبل مع الفجر.
كانت الهالة كثيفة لدرجة أنّ الأطفال ذوي الحواس غير المرهفة شعروا بها. ازدادت شراسة الوحوش، وأرهق الفرسان وهم يواجهون الأعداء.
“اللعنة، كيف هناك هذا العدد الكبير من الوحوش؟!”
“خلال الاستطلاع، لم يكن الأمر كذلك…!”
قطعتْ فيفيان عنق وحش سايتر ونظرت إلى الوادي أسفل المنحدر.
كان المكان الذي ذكره أليكس أمامها مباشرة، لكن أطرافها المنهكة لم تعد تطيعها. كانت رؤيتها تسودّ و تعود عدة مرات.
‘فقط إذا اقتربتُ قليلًا…’
امتصّت كميّة هائلة من الهالة خلال القتال. كان قلبها ينبض كما لو أنّه يحترق، وتحوّل النجم الخماسيّ على صدرها إلى لون أحمر داكن مشؤوم.
‘قليلًا فقط!’
هزّت سيفها بحركة آليّة، وأمسكتْ أيدي الأطفال الصّارخين وهربت عبر طريق الغابة.
اهتزّت الأرض تحتها. كلّ شيء بدا كحلم.
“سيّدتي!!”
في تلكَ اللحظة، انهالت وحوش الذّئاب من منحدر الوادي. وقفَ الفرسان لحماية فيفيان والأطفال، لكن عددهم القليل لم يكفِ.
امتدّ ظلّ ضخم فوق رأس فيفيان.
“آه، أمّي!”
“كلّكم، انبطحوا!”
تصادم سيفها مع أنياب تقطر لعابًا.
صمدت فيفيان بكلِّ قوتها. لكن لم يكنْ بإمكان سيفٍ واحد تحمّل وزن الوحش.
“أوه!”
عواء، عواء!
بمجرّد أن أُجبرت على السّقوط، اندفعت الذّئاب المحيطة.
في تلكَ اللحظة، مرّ صوتُ شخصٍ ما كذكرى.
‘عديني أنّكِ ستكونين بخير. و ألّا يصيبكِ أيّ خدش.’
‘أعدك.’
‘هل هو شعوري فقط؟ أشعر بشعورٍ سيّء. كأنّني لن أراكِ مجدّدًا.’
عندما فقدتْ يدها القوّة، و سقط السيف. بينما أغلقت فيفيان عينيها ببطء منتظرة الألم، حدث ذلك.
تطايرت بتلات حمراء في كلّ مكان.
لا، كانت رذاذ دمٍ حيّ يدوّم.
كانت عينا أصلان، الواقف على الجرف، متّقدتين بالحمرة.
التعليقات لهذا الفصل " 105"