“سيّدتي، سموّك، يجب أن نهرب الآن…!”
بمجرّد أن انكسرَ الوهم، اندفعت رائحة الدّم النّتنة.
تمّ تغطية صراخ الفارس العاجل بضجيج مدوٍّ. انهار الجدار الذي كان المجموعة تختبئ خلفه.
‘اللعنة.’
ارتفعت عشراتٌ من رؤوس الأفاعي العملاقة نحوَ السّماء.
لم تظهر وحوش الأفاعي الشّرسة لاميا واحدة فقط، بل جاءت بأعداد كبيرة.
كانت لاميا صعبة التّعامل، لأنّ لمس سوائلها يذيب الجلد والعضلات. بالطّبع، هذا ينطبقُ فقط على التّعرّض الطّفيف.
إذا تمّ التّعرض لأنيابها السّامة مباشرة، يذيب السّم الأوعية الدّمويّة، ويعاني الضّحيّة من أشدّ الآلام قبل الموت.
“الجميع، استعدّوا للقتال!”
“احموا السّيّدة والأطفال!”
خلفَ الجدار المنهار، ظهرَ الملجأ تحتَ الأرض مدمّرًا.
كانَ الباب الحديديّ ممزّقًا كالورق، وبقايا من كانوا بشرًا متناثرة عند المدخل. كانَ الدّم البشريّ طعام لاميا المفضّل.
عندَ رؤيةِ ذلك، بدا أنّ الفرسان اتّخذوا قرارًا، وانحنو جميعًا عند قدمي فيفيان.
“المجد لسيّدنا و سيّدتنا العظيمين.”
“سنوقف لاميا. سيّدتي، اهربي مع الدّوق.”
عرفَ الفرسان أنّ هذا هو الطّريق الوحيد لحماية فيفيان: أن يصبحوا طعمًا للوحوش.
لم يكنْ هناكَ أيّ تردّد في أعينهم وهم يحدّقون في الوحوش.
“آه…”
لم تستطع فيفيان فتح فمها وعضّت شفتها السّفلى. رفعت يدها البيضاء النّحيلة في الهواء بلا حول و أخفضتها عدة مرّات.
ألهب تردّدها إرادة الفرسان أكثر.
“حماية السّيّدة هو فخرنا و فرحتنا. لا تعبسي هكذا.”
في هذهِ الأثناء، كانَ غضب فيفيان يتصاعد.
‘آه، لو كنتُ أقوى قليلًا!’
كانت تسمع أصواتًا من حولها، لكنّها لم تستوعب شيئًا.
تدرّبتْ على التّعامل مع الهالة باستمرار، لكنّها كانت تكفي لجذب وحش أو اثنين على الأكثر، ولم تتوقّع مواجهة قطيع بأكمله.
‘لا يهمّ. لا يمكنني الموت هنا.’
كما يحتاجِ البشر إلى الأكسجين، تحتاجُ الوحوش إلى الهالة.
لذلك، نادرًا ما توجدُ وحوش في جنوبِ القارّة حيث الهالة خفيفة، ومعظم مواطن الوحوش تقع في الشّمال.
‘من يجرؤ على إفساد خطّتي لشاطئ الزّمرّد…!’
فكّرت أنّ مجرّد ثعابين تعرقل خططها العظيمة، فتدفّق الأدرينالين في عروقها.
بدأتْ فيفيان، بقوّةِ غضبها، في تحطيم تدفّق الهالة الضّخم.
“سيّدتي، هل…؟”
“مستحيل…”
أدركَ الفرسان ذوو الحوّاس الحادّة. بدأت الهالة، التي كانت كالضّباب، تتلاشى بسرعة.
في الوقت نفسه، انقلبت هجمة لاميا الشّرسة. شعرت بقلّة الهالة و اصبحت أنفاسها خشنة وهي تلهث بسرعة.
“هاه، كح!”
لم تتحمّل لاميا وهربت بسرعة، وانهارَ جسد فيفيان، الذي بلغَ حدّه.
“سيّدتي!”
أمسكَ الفرسان بها وهي تترنّح. رمشتْ فيفيان بدهشة. لم تصدّق نفسها.
‘آه، لقد نجحتُ حقًا.’
لقد حمت خطّة شاطئ الزّمرّد الخاصّة بها.
“امتصاص الهالة لحمايتنا…!”
“سيّدتي، لا تفقدي الوعي!”
ركعَ الفرسان و هم يبكون بينما كانت تبتسم قليلًا.
كانت راضية بحماية حُلمها، لكن ابتسامتها بدتْ مختلفةً للفرسان.
لا يهمّ. مع زوال التّوتّر، هاجمها النّعاس. لم تنم جيّدًا بسبب الأرواح الشّريرة مؤخرًا.
“آسفة. أنا… سأنام قليلًا…”
“سيّدتي؟ لا، لا يمكن!”
تشبّث الفرسان الرّاكعون بها بقلق.
لكن للأسف، عندما تنام فيفيان، لا شيء يوقظها ، حتّى لو كانَ تنينًا عند رأسها. لقد سافرت بالفعل إلى عالم الأحلام.
“افتحي عينيكِ، سيّدتي!!”
انتشر صدى صراخ الفرسان الحزين في سماء الغروب الأحمر.
* * *
تردّدَ صدى خطواتٍ ثقيلة للرّجال في ممرّات قلعة ألبارو.
مع تأكيد سقوط سيّد القلعة، ووسط الفوضى، انحنى الخدم بأدب لضيوف بلاكفورد.
“لم أتوقّع أن تسير الأمور بهذه السّهولة.”
“لقد دمّر نفسه بنفسه. كيفَ ظهرت تلكَ الخادمة أمام الماركيز باستيان والقضاة؟ كدتُ أموت من الضّحك.”
كان مزاج أتباع أصلان مبتهجًا للمرّة الأولى منذ زمن.
وصلوا إلى ألبارو مستعدّين لمعركةٍ حاسمة، لكن الكونت غرق بنفسه قبل أيّ مواجهة.
‘أنتَ مَنْ طلبَ منّي القدوم إلى ألبارو فورًا. قلتَ إنّكَ طلّقت زوجتك، و أنا الآن الكونتيسة رسميًا، و ستعوّضني أضعافًا عن معاناتي!’
‘ما هذا الهذيان، أيتها الوضيعة؟ لم أركِ من قبل ولا أعرفكِ. لقد جننتِ!’
‘لا تعرفني؟ أنا التي فعلتُ كلّ شيء في بلاكفورد من أجلك، وتحمّلتُ الإهانات! هل تتظاهر بأنّك لا تعرفني الآن؟’
‘اللعنة، تتّهمينني بعد أن أَفسدتِ الأمر بغبائكِ؟!’
أمام الجميع، أمسكَ الكونت والخادمة ببعضهما وتشاجرا بعنف.
اعترفت الخادمة بصوتٍ عالٍ أنّها كانت جاسوسة في بلاكفورد بأمرِ الكونت، بينما ادّعى الكونت أنّها مجنونة وأنّه بريء.
بل إنّ الكونت اتّهمَ أصلان بالتّآمر ضدّه.
لم يتمكّن القضاة من إخفاء دهشتهم، لكن الوضع انقلب.
‘أرسلتني الأميرة عاجلًا. هذه رسائل من غرفة الخادمة.’
وصلَ فارس من عائلة إليونورا إلى ألبارو، حاملًا دليلًا حاسمًا وقانونيًا.
استغلّ أتباع بلاكفورد الفرصة وكشفوا كلّ فساد الكونت، وتمّ ترحيله إلى محكمة العاصمة مينيرفا بتهمٍ خطيرة.
“لقد أنجزت السّيّدة أمرًا عظيمًا هذه المرّة أيضًا.”
“علينا التّفكير أكثر. كانت هناك ثغرة أمنيّة سمحت بمراسلات الجاسوس. و وضعنا تلكَ المرأة كخادمة بجانب السّيّدة…”
توقّفَ الأتباع بحذر عند هذه النّقطة.
كانَ سيّدهم صامتًا منذ البداية. كانت السّيّدة ضعيفة، وكان يهتمّ بسلامتها كثيرًا.
بالتّأكيد، لم يكن سقوط الكونت ممتعًا له.
“سيّدي…”
“انتهت الأمور أسرع ممّا توقّعت، سأعود إلى بلاكفورد صباح الغد. ابقوا هنا لإتمام الأمور.”
“أمرك.”
أصدرَ أصلان الأمر وتوجّه إلى غرفته.
خطّط للاستيقاظ مبكرًا والعودة. فكّر في فيفيان التي تنتظره وحيدةً في بلاكفورد، فشعر بأنّ عليه أن يسرع.
‘عديني أنّكِ ستكونين بخير. و ألّا يصيبكِ أيّ خدش.’
‘أعدك.’
‘هل هو شعوري فقط؟ أشعر بشعورٍ سيّء. كأنّني لن أراكِ مجدّدًا.’
‘سأنتظركَ ، حتّى تعود…’
جسدها النّحيل في حضنه كانَ رقيقًا ومحبوبًا بشكلٍ مؤلم.
تذكّر عينيها الجذّابتين، خدّيها الحمراء كفاكهة ناضجة، وشفتيها المتشابكة بعمق، فتدفّق الدّم في عروقه.
جلسَ أصلان على السّرير، و هو يتذمّر بصوت خافت.
“هاه، اللعنة.”
لمسَ جيبه كما يفعل عادةً، فأدرك أنّ الصّندوق الصّغير الذي يحمله دائمًا غائب، وأظهر تعبيرًا غامضًا.
لقد أعطى خاتم الخطوبة لفيفيان أخيرًا. لم يعد يريد التّأخير.
‘أريد رؤيتكِ ترتدين فستان زفافٍ أبيض و تبتسمين بسعادة.’
سيجعلها عروسًا سعيدةً بالتّأكيد.
سيغرقها بعاطفته بلا توقّف حتّى لا تظهر تعبيرًا وحيدًا مجدّدًا. لن يتركها تتأذّى من أيّ شيءٍ في العالم.
‘أردتُ أن أهديكَ شيئًا يواسيكَ، لكن هذا كلّ ما استطعتُ إيجاده الآن.’
في مكانِ علبة الخاتم، لمس منديلًا ناعمًا وحجرًا صغيرًا.
فردَ أصلان المنديل على كفّه. ذكّره طائر البلبل المطرّز بفيفيان التي تتجوّل في القلعة بفروها الأبيض.
ابتسمَ قليلًا وهو يتخيّلها تطرّز سرًا بعيدًا عن عينيه.
‘هذا الحجر…’
عندما أعطته إيّاه فيفيان، كانَ يحمل بريقًا غامضًا، لكنّه الآن بدا حجرًا عاديًا. أمسكه تحت ضوء الشّمعة، لكن لم يتغيّر شيء.
‘هل كنتُ مخطئًا؟’
لم يكن الحجر قد استبدل، لأنّه لم يفارقه أبدًا.
هزّ أصلان كتفيه و وضع هديّة فيفيان بعناية، عندما سمع خطواتٍ عاجلة في الرّواق.
“سيّدي، كارثة!”
نهض أصلان وفتحَ باب الغرفة. كان الفارس يحمل رسالة من بلاكفورد.
“تمّ اختراق سور القلعة. هاجم قطيع وحوش بلاكفورد!”
“…..”
تنفّسَ أصلان ببطء. لم يستوعب ما سمعه.
“أين فيفيان؟ هل هي في ملجأ القلعة تحت الأرض؟”
كانَ الملجأ قويًا بما يكفي لمقاومة التنانين لفترة.
لم يكن قلقًا على سلامتها، لكنّها ربّما خافت من مواجهة الوحوش الكثيرة لأوّل مرّة. يجب أن يعود ليطمئنها…
“السّيدة… أنا آسف….لقد فُقدت.”
“ماذا تقول؟”
“ذهبت السّيّدة للعناية بأطفال الإقليم في القرية، وانهار السّور بالقرب من بيت رئيس القرية…”
لم يستطع الفارس مواصلة الكلام وأطرق رأسه.
‘هل هو شعوري فقط؟ أشعر بشعورٍ سيّء. كأنّني لن أراكِ مجدّدًا.’
ابيضّ ذهنه و انهارت الأرض تحته.
آه، لا.
التعليقات لهذا الفصل " 104"