‘آه، شعور غريب.’
كانت عينا أصلان، اللتان بدتا دائمًا باردتين كالرّياح القارسة، تبدوان الآن حلوَتين و لزجتين كالعسل. وعندما أدركت نظرته، ارتجف قلبها.
غطّت فيفيان خدّيها وصعدتْ الدّرج بسرعة.
بفضل قيادة ديلان السريعة، كانَ النّاس يختبئون على بُعد ويبتسمون بارتياح.
‘بالمناسبة، أين ذهبَ كلّ الحشد الذي جاء للوداع؟’
أمالت فيفيان رأسها متسائلة، لكنّها قرّرت أنّ الأمر لا بأس به.
لو رأى أحدٌ تلكَ اللّحظة المندفعة والمحرجة لكانت اضطرّت للبقاء في خزانة الملابس لمدّةِ شهرٍ على الأقل.
عندما وصلتْ إلى الرّواق في الطّابق الثّاني، دخلت غرفة النّوم بخطواتٍ متعبة.
لكنّها لاحظت شيئًا موضوعًا على الطّاولة. صندوقٌ صغير مغلّف بالمخمل الأحمر.
“…..”
انفتحَ الصّندوق بنقرة.
لمع خاتمٌ ماسيٌّ أكبر بكثير وأدقّ صنعًا من خاتم خطوبتها. وإلى جانبه، كانت هناكَ ورقة صلبة مرفقة.
[لم أجرؤ على قول ذلك، لكن قلبي دائمًا بجانبكِ.]
كانت فيفيان تتلمّس الكتابة الأنيقة التي تعكس شخصيّة أصلان، وغرقت في التّفكير.
‘عندما أعود، لديّ كلام أريد قوله. لم أعد أريد التّأخير.’
قبل الفراق، قال أصلان ذلك، لكنّها كانت منغمسة في الأجواء ولم تسأله عن المعنى بالتّفصيل.
قلّبت فيفيان علبة الخاتم بين يديها. كانت الحوافّ متهالكة قليلًا، كما لو أنّ شخصًا ما أخرجها من جيبه ولمسها مرارًا.
‘هذا الشّعور غريبٌ حقًا…’
كانَ من الصّعبِ التّعبير عنه بالكلمات، لكنّها شعرت بشيءٍ جديد يتجاوز اضطراب نبضات القلب.
شعرتْ بدغدغة و وخز في بطنها، كأنّ…
“هل تناولتُ دواء الدّيدان هذا العام؟”
بعد التّفكير في الأمر، أدركت أنّها لم تفعل.
لحسن الحظّ، أدركتْ ذلك قبل نهاية العام. سحبت فيفيان حبل الخدمة لاستدعاء الطّبيب.
بدأ يومٌ بدون أصلان.
* * *
*
بعد رحيل أصلان، أصبحت فيفيان أكثر انشغالًا من المعتاد.
أوّل ما فعلته كانَ إطلاق سراح إيسيدورا.
أوحت لوودي، الذي كاَن يتولّى التّواصل، بأنّ الكونت ساعدَ في الهروب، لتتمكّن إيسيدورا من الذّهاب إلى ألبارو مباشرة.
“لا تسألني شيئًا. ألستَ فضوليًا لماذا أمرتُ بإطلاق سراح إيسيدورا؟”
“مهما كان أمر السّيّدة، فهو الشيء الصّحيح بالنّسبة لي في العالم.”
كانت عيون وودي، التي تنظر إلى فيفيان، تلمع كالنّجوم في سماء اللّيل.
تجاهلت فيفيان تلكَ النّظرات المثقلة، التي كانت تضاهي رأس غارميت، وحدّقت في هيسيوس. حانَ دوره الآن.
تطايرت هالة فضيّة، وتحوّلَ هيسيوس إلى مظهر فارسٍ عادي.
“خذ هذا. تابع إيسيدورا، و عندما يحين الموقف الذي تحدّثتُ عنه، سلّمه إلى الماركيز باستيان.”
“ما هذا؟ إنّه ثقيلٌ نوعًا ما.”
“الرّسائل التي تبادلها الكونت وإيسيدورا. ستكون مهمّة لإسقاط الكونت.”
كانت واثقة. عندما يُحاصر الكونت، سيتخلّى عن إيسيدورا.
وسيكون ذلكَ بشكلٍ بائس ومؤلم.
ستشعر إيسيدورا بالخيانة وستضطرّ للكشفِ عن كلّ شيء.
سيصرّ الكونت أنّها مجرّد هراء خادمة، لكن في تلكَ اللّحظة، سيصل فارس من بلاكفورد بأدلّة قانونيّة.
‘وجدنا هذا في غرفة الخادمة الهاربة.’
غادرَ هيسيوس بالأدلّة، وظنّت فيفيان أنّ بإمكانها العودة إلى حياة هادئة ومريحة.
لكنّها اعتقدت ذلك فقط…..
“سيّدتي، سيّدتي! ما رأيكِ في هذا؟”
“لا، أنا صنعتُ واحدًا أفضل! أليس كذلك، سيّدتي؟”
تشاجرَ أطفال القرية، مدّعين أنّ السّجادة التي نسجوها أجمل.
تدخّل الكبار لتهدئة الوضع، لكنّ الأطفال هزّوا رؤوسهم بعناد، مصرّين على سماع رأي السّيّدة المحترمة.
“يجب أن تختاري واحدًا فقط. واحدًا!”
نظرت فيفيان إلى الأطفال المجتمعين حولها، وتساءلت كيف وصلت إلى هذا الموقف.
‘كلّ ما أردته هو مكان نومٍ مريح…’
وصلت أخبار سيّئة من الكونتيسة التي وعدت بإرسال كاهن طرد الأرواح. لقد سدّ انهيار أرضيّ الطّريق من ألبارو إلى بلاكفورد.
بالطّبع، لم يكن ذلكَ الطّريق الوحيد.
لكن الاختصار كان وعرًا ومليئًا بالوحوش، وهو ما يصعب على كاهن مسنّ اجتيازه.
‘لذلك قلتُ لإيما إنّني سأبقى في غرفة الضّيوف مؤقّتًا.’
بعد رحيل أصلان، تفاقمت الكوابيس يومًا بعد يوم وأصبحت أكثر وضوحًا.
في الأحلام، كانت تجوب أزمنة و أماكن مختلفة. أحيانًا، كانت ترى وجوهًا غريبة و مواقف مجهولة.
لم تتذكّر متى كانتْ آخر مرّة نامت فيها جيّدًا، فأصيبت بالأرق. لذا قرّرت تغيير مكان نومها، وسألتها إيما عن السّبب.
‘سيّدتي، هل هناكَ مشكلة؟ تبدين شاحبة جدًا، هل أستدعي الطّبيب؟’
‘فقط غيّري غرفة النّوم. أنا لا أنام جيّدًا.’
‘لا تنامين؟’
‘أجل، ربّما لأنّ أصلان غائب، لا أستطيع النّوم.’
‘يا لها من علاقة رائعة…’
قالتْ فيفيان الحقيقة فقط.
بدأت تشكّ أنّ سببَ الكوابيس ليس مكان الغرفة، بل غياب أصلان.
بدا أنّ إيما تمتمت بشيء عن العلاقة و لمعت عيونها، لكن على أيّ حال، قالت إنّها ستجد طريقة للنّوم بشكلٍ مريح، فوافقت فيفيان.
‘ماذا؟ السّيّدة لا تنام؟!’
‘إنّها ضعيفة أصلًا، وهذا قد يسبّب مشكلة كبيرة. لقد صُدمت مؤخّرًا بسبب إيسيدورا…’
‘ما رأيكم؟ سنهدي السّيّدة سجّادة وغطاءً نسجناهما بأنفسنا!’
‘أوه، هذا فخر بلاكفورد! يقول المثل إنّ السّجادة والغطاء من نسيج الشّماليّين يهدّئان حتّى الشّيطان الغاضب!’
بدأ مشروع ‘جعل سيّدتنا العزيزة تنام’.
انخرطت القرية بأكملها في مساعدة فيفيان على النّوم. من الأطفال الصّغار إلى أكبر الشّيوخ، احترق الجميع بحماس، وتحوّل الأمر إلى منافسة.
“سيّدتي، انظري إلى هذا! لقد نسجته بنفسي!”
بمعنى آخر، كانَ الأطفال يستخدمون جاذبيّتهم لجذب فيفيان.
“يجب على السّيّدة أن ترتاح. ألن تذهبوا الآن؟”
كانَ الكبار يحاولون إيقاف هذه الخطّة.
آه، مجتمع التّنافس القاسي.
‘أين رأيي في هذا…’
خدشت فيفيان ذقنها ببلاهة.
على أيّ حال، بدا أنّ الضّجيج يجعلُ الوقت يمرّ بسرعة، وهذا جيّد نوعًا ما… استندت فيفيان براحة إلى كرسيّ صلب كانت لن تراه عادةً.
كانت في بيت رئيس القرية الآن.
لم يكن فاخرًا مثل غرفة النّوم في القلعة، لكن الجوّ الهادئ والبسيط جعلها تنسى الكابوس الذي رأته اليوم.
‘أوه، انظري هناك. الدّوق الأكبر والأميرة إليونورا. أليسا زوجًا رائعًا؟’
‘بالمقارنة بها، تلكَ الأميرة تبدو بائسة.’
‘يقولون إنّ الحجر المتدحرج يزيح الحجر الثّابت، لكن الآن لا نعرف من هو الحجر. ههه!’
تحت أضواء الثريّا الفاخرة، كان ثنائيٌّ جميل يرقص كلوحة فنيّة.
كانت امرأة تنظر إليهما بصمت، ودموع بائسة تسيل من عينيها. لقد تحمّلت طويلًا، و ظنّت أنّها ستستمرّ، لكن…
آه، أن تُظهر دموعها للآخرين. الكبرياء التي حافظت عليها طوال حياتها انهار.
في تلكَ اللحظة، تمنّت لو كانت والدتها الرّاحلة أو شقيقها البعيد موجودين…
‘أيّ شخص، لتكن بجانبي، رجاءًا.’
‘كيف تفعل هذا بي؟ لمَ تدفعني إلى هذا الحدّ من القسوة؟’
‘اطردوا هذه المرأة الصّاخبة.’
‘لو أنّكَ منحتني الحدّ الأدنى من الاحترام، أو حتّى عاملتني كإنسان…’
‘ديلان!’
‘حسنًا، لقد خسرتُ. سأتخلّى عن كلّ حقوق خطيبتك. إذا كنتَ تنوي إيذائي، فقد نجحتَ. الآن، اذهبْ و قابل امرأة أخرى. قابلها، اتركني!’
أمسكها فرسان أقوياء بقبضة مؤلمة.
أُلقيت المرأة خارجَ القصر، وانهمر الماء البارد عليها كشلّال. تقاطر الماء من ذقنها، ونفذت رياح الشّتاء القارسة إلى عظامها.
رفعتْ المرأة رأسها المرتجف بصعوبة.
‘لا تبكي. ما هذا؟ لقد تحمّلتُ أسوأ من هذا من والدي، و إهانات أكبر أمام الخدم.’
‘لذا لا تبكي كالحمقاء…’
“سيّدتي؟”
“آه.”
إنّه ديلان.
مسحتْ فيفيان رأسها وذقنها بسرعة. لا يمكن لابنة إليونورا الوحيدة أن تبدو بمظهرٍ مشين.
لكنّها شعرتْ فجأةً بالارتباك.
‘ إنه جافّ؟’
توقّفت عن لمسِ جسدها فجأة. كما لو كانت تتجوّل في ضباب، بدأت ذكرى ما تتلاشى.
“آه…”
إنّه بيت رئيس القرية. يبدو أنّها غفوت في الجوّ المريح الخالي من التّوتّر.
فركت عينيها ونهضت. كان غطاءٌ ملون منسوج من الأطفال يغطّي جسدها. كانَ الأهالي يجلسون أمام المدفأة يتحدّثون بهدوء.
“آسف لإيقاظكِ وأنتِ نائمة بهدوء. حانَ وقت العودة إلى القلعة.”
“هل مرّ الوقت بهذه السّرعة؟”
قالوا إنّ الشّتاء قصير النّهار، وتصبح الوحوش أكثر شراسة بسبب الجوع.
ربّما أخّر ديلان إيقاظها بسبب أرقها، لكن كانَ عليهم التّعجيل قبلَ الظّلام.
“أشعر أنّني نمتُ براحة للمرّة الأولى منذ زمن.”
تنهّدت فيفيان بنعاس و نهضت.
في السّابق، كانت تهتمّ بكلّ تفصيلة، من مشيتها إلى كلامها وحتّى زاوية الشّريط، لكن الآن، يبتسمُ الجميع لها بودّ حتّى وهي تستيقظ.
في السّابق، متى كان ذلك أصلًا؟
‘أشعر أنّني نسيتُ شيئًا مهمًا…’
توقّفت فيفيان فجأةً واستدارت. حول الكرسيّ الذي نامت عليه، كانت الأغطية الملونة ملقاة على الأرض.
آه، هذا هو.
‘لا أعرف الكثير، لكن يجب أن أحافظ على مشاعر الأطفال.’
ربّما بسببِ ذكريات طفولتها الوحيدة والصّعبة، كانت فيفيان دائمًا ضعيفة أمام الأطفال.
جمعت الأغطية بملامح خالية.
رأى الأهالي ذلكَ وصاحوا أنّهم سيتولّون الأمر ولا يجب أن تجهد نفسها، بينما نظر الأطفال إليها بعيون مليئة بالتّوقّع.
في تلكَ اللحظة.
“ما هذا؟”
دوّى صوت هدير، واهتزّت الأرض. نظرَ الجميع في بيت رئيس القرية إلى النوافذ.
“يبدو أنّ الأرض اهتزّت…”
التعليقات لهذا الفصل " 102"