الشريرة الساقطة، تُصبح عبدة (1)

“آه…!”

أظافرها الطويلة، التي كانت ذات يوم رمزا للفخر، أصبحت الآن ملطخة بأوساخ بنية باهتة، مثنية ومكسورة. كانت يداها الشاحبتان تحملان خدوشا، وشفتاها الملطختان بالدماء ترتعشان . وبدافع غريزي، رفعت فيلاكشينا أصابعها المغطاة بالأوساخ إلى فمها، فقط لتبصق الأوساخ بابتسامة منتصرة.

لم يكن الألم مهما، بل كان المهم هو السطح الصلب الذي خدشته أظافرها

“…وجدته.”

بعد أن أزاحت التربة ، كشفت عن هدف بحثها – باب حجري – ، كان نقشه الذي يعود إلى قرون واضحاً

[ضريح دوقية أوتفيان]

فيلاكشينا أوتفيان دي اوديفيرتي. كان اسم عائلتها محفورًا على الحجر إلى جانب إرث أسلافها. 

كان هذا القبر المهجور الذي وجدته في منتصف الليل و الذي لم يكن به سوى فانوس متوهج هو مكان الراحة الأخير لعائلتها.

ورغم أن المقبرة تُركت دون رعاية و مغطاة بالتراب، إلا أنه كان من المستحيل إلقاء اللوم على أي شخص بسبب حالة الإهمال التي أصابت المقبرة. فقد رحل الآن كل الخدم الذين اعتادوا على رعاية القصر.

ابتلعت ريقها بصعوبة، وقلبها يخفق بقوة. همست وهي تتقدم للأمام: 

“رجاءا، لابد أن يكون هناك شيء ثمين ” 

على الرغم من الصمت المخيف الذي يخيم على المقبرة، إلا أنها لم تكن خائفة من الأشباح.

لا، بل كان خوفها يكمن في شيء آخر: احتمال أن تكون الكنوز المدفونة مع أسلافها غير كافية.

” إذا نقصت قطعة ذهبية واحدة فسيتم بيعي إلى بيت الدعارة”

أغمضت عينيها بقوة، و دفعت هذه الفكرة بعيدًا. لو كانت تعلم أن حياتها ستتجه إلى هذه الهاوية، لما سعت أبدًا للانتقام من هؤلاء الأوغاد القذرين. لكن الغضب أعمى بصيرتها.

لم تكن تتخيل أن افتقارها إلى 4000 قطعة ذهبية فقط – ثمن زوج من القفازات و قبعة – سيؤدي إلى مطاردتها من قبل المنظمة الإجرامية التي كانت تتحكم فيها ذات يوم مثل الدمية بين يديها.

“لا شيء… لا يوجد شيء على الإطلاق… لماذا؟”

ولكن عندما يكون من المفترض أن تسير الأمور على نحو خاطئ، فإنها سوف تسير على نحو خاطئ بغض النظر عما يحدث.

فتحت كل التوابيت الموجودة في الضريح، و فتشت فيها بعناية لكن كل ما وجدت فيها كان حريرًا متعفنا وقبعات دانتيل أكلتها العثة. و لم يكن هناك أي أثر للذهب أو الزخارف المرصعة بالجواهر التي كان من المفترض أن تكون هنا.

سقطت فيلاكشينا على الأرض في حالة من اليأس.

هل قام لصوص المقابر بأخدها بالفعل ؟ نظرًا لأن عائلة أوتفيان كانت مشهورة بثروتها، فمن المنطقي أن يتم استهدافها. لكن كان من الصعب عليها أن تظل عقلانية عندما اختفى آخر بصيص أمل لديها

“كل هذا بسبب تلك العاهرة إيريسريل “

صرخت وهي تضغط على أسنانها.

صديقة طفولتها، إيريسريل التي لا تفارق الابتسامة وجهها. لكن تحت ذلك الوجه الرقيق البريئ، كانت هناك لصة متواطئة سرقت كل شيء من فيلاكشينا ، منزلها ، لقبها ، حتى مستقبلها كإمبراطورة لإمبراطورية كالهورن.

لو لم تكن إيريسيريل موجودة، فإن فيلاكشينا كانت ستكون لا تزال في مكانها الصحيح، غير ملطخة بالأوساخ أو اليأس.

” يا إلهي…!! اللعنة! اللعنة!”

ترددت لعنات فيلاكشينا في أرجاء الضريح، وكان يأسها يغذي كل ضربة وجهتها إلى التابوت الفارغ.

سويييش!!

من الجدار البعيد، امتلأ الهواء بضجيج خافت، وكأن أوراق الشجر أو الرمال أو غبار الحجارة تتساقط. غريزيا، التفتت نحو الصوت، و صوت كعبيها ينقر على الأرضية الحجرية.

اقتربت فيلاكشينا، و هي في حالة ذهول تقريبا، من الجدار المنهار. فبدلاً من جدار عادي، ظهر الآن باب ضيق مكشوف جزئيا. و بدا الأمر وكأن الغبار الذي سقط للتو كان يملأ الفجوة.

” هناك بالتأكيد شيء وراء هذا”

اقتنعت فيلاكشينا ودفعت الباب. في البداية استخدمت كلتا يديها، ولكن عندما لم يتزحزح ،الباب ضغطت بكتفها عليه و استخدمت جسدها بالكامل. كان الباب ثقيلا ، لكن يأسها منحها القوة. مع تأوه، انزلق الحجر جانبًا، تاركا علامات عميقة في التربة. ظهرت غرفة مغمورة بضوء ذهبي.

انفجرت فيلاكشينا بسعادة .

لم يكن هناك أي كذب في ثروة عائلة أوتفيان، كانوا أصحاب عدد لا يحصى من مناجم الذهب.

ذهب نقي.

كان كل شيء – الجدران والأرضية والسقف – يلمع بهذه الصورة. وفي وسط الغرفة كان هناك تابوتان من الذهب، نقش عليهما اسماهما بكل فخامة.

「الدوق ماجناكرون أوتفيان فون اوديفيرتي」

「الدوقة ميرلين أوتفيان دي اوديفيرتي」

“..البطل ماجناكرون…. عذراء النجوم ميرلين”

كانت أسماؤهم جزءًا من الأسطورة المؤسسة. كان هذا القبر الرائع ملكا لأول دوق و دوقة من عائلة أوتفيان حتى فيلاكشينا الشريرة المزعومة للإمبراطورية، لم تستطع إلا أن تظهر الاحترام لمؤسسي عائلتها.

“أعتذر عن إزعاج راحتكما الأبدية. أنا فيلاكشينا أوتفيان دي اوديفيرتي، من نسلكما”

من الناحية الفنية، لم يعد بإمكانها استخدام لقب اوديفيرتي و لكن لم يكن من الضروري إبلاغ الموتى دي اوديفيرتي بالأخبار الحزينة التي تفيد بسقوط ملكيتهم .

“بسبب ظروف عاجلة، أحتاج إلى بعض المساعدة. بمجرد تحسن حالتي، سأعيد كل شيء إلى مكانه الصحيح من دون أدنى شك. أقسم بذلك على شرف أوتفيان”

وبعد أن انتهت فيلاكشينا من إلقاء التحية المحترمة، فتحت التابوت الذهبي و فحصت العناصر المدفونة بداخله.

وكما كان متوقعا، كان مليئًا بالرفاهيات التي قد تجعل المرء يعتقد أنه قبر ملك من أرض أجنبية.

” لا أحتاج إلى أخذ كل شيء”

كان خصمها منظمة إجرامية تدعى “الإخوة الظليون المرتبطون بالدم”. و إذا اكتشفوا أن هناك الكثير من الثروة المتبقية بعد أن فقدت فيلاكشينا أراضيها وقوتها، فلا أحد يستطيع أن يتنبأ بما قد يفعلونه

“سآخذ أكثر من 4000 قطعة ذهبية بقليل وأخبرهم أن هناك المزيد منها مخبأ في مكان سري . هذا من شأنه أن يمنعهم من محاولة قتلي على الفور “

كان من السخف أن تضطر إلى التفكير في كل هذا لمجرد التعامل مع منظمة إجرامية صغيرة. ولكن لم يكن هناك خيار آخر. منذ وفاة والدها، الدوق أوتفيان، لم يتبق شخص واحد في العالم يعترض على وفاة فيلاكشينا.

ولهذا السبب قامت فيلاكشينا بفحص العناصر المدفونة للدوقة بعناية، واختارت فقط تلك ذات القيمة المناسبة.

بدا عقد من الماس المكون من خمسة خيوط مع لؤلؤ بحجم الجوز باهظ الثمن للغاية، و كذلك زوج من الأقراط المرصعة بالماس بحجم الأظافر، أو خاتم مرصع بالياقوت بحجم قبضة طفل.

“ربما المجوهرات ليست ضمن البحث أوه؟”

في تلك اللحظة لفت انتباه فيلاكشينا كتاب موضوع فوق صدر الدوقة.

“هل كان هذا موجودًا هنا دائمًا؟”

على الرغم من أنه كان من الغريب إلى حد ما أنها لاحظته الآن فقط، رغم أنه كان هناك، إلا أن فيلاكشينا لم تستطع أن تنكر انها كانت محظوظة بهذا الاكتشاف .

كان الكتاب أكبر قليلاً من دفتر الملاحظات، وأصغر من الكتاب المقدس، وأكثر سمكا من كتاب القصص الخيالية. وكان غلافه مزينًا بالذهب والجواهر الصغيرة ذات التصاميم المعقدة.

” سيقدر بما لا يقل عن 6000 قطعة ذهبية، كما أعتقد”

إذا نظرنا إلى كمية ونوعية المواد المستخدمة، فضلاً عن الصناعة اليدوية، فقد كان السعر معقولاً بشكل مدهش.

اعتقدت فيلاكشينا أن هذا سيكون المنتج المثالي من حيث القيمة. ففي نهاية المطاف، عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع المجرمين، فإن المبالغة في الأسعار أمر لا مفر منه تقريبا.

وبابتسامة راضية، وضعت الكتاب في الجيب الداخلي لرداءها و غادرت الغرفة. ولم تنس أن تدس التراب في شق الباب لمنع أي تسلل محتمل من لصوص المقابر.

“من الآن فصاعدا، سيكون هذا هو مخزنـي السري.”

فكرت فيلاكشينا في نفسها، معتقدة حقًا أنها سوف تستطيع إعادة بناء قوتها بالاعتماد على الكنوز الموجودة في مقبرة الدوق و الدوقة الأولى . و للانتقام أخيرًا من إيريسريل البغيضة. بدأ الأمل في الظهور.

“. ها ها ها. كنت أعلم أنها ستكون هنا”

ولكن بمجرد خروجها من القبر، التقت عيناها برجلين كانا ينتظرانها في ضباب الصباح الذي يصل إلى الكاحل.

“حسنا، هل كنتِ تخططين للبحث بين أغراض الدفن؟ كم هو أمر مثير للإعجاب. كنت أعتقد أنكِ ستسرقين شيئا ما. ولكن ماذا ستفعلين الآن؟ لا يبدو انه يوجد شيء هناك على أي حال”

خرج صوت أجش من رجل أعور ، عندها بصق و سحب خنجرا معلقًا من فخذه، ودار به بشكل مهدد في يده.

“من المؤسف أنكِ ستضطرين إلى دفع الثمن بجسدك”

على الرغم من أن الموقف كان كافياً لجعل معدتها تتقلب، إلا أن فيلاكشينا ابتسمت ابتسامة قصيرة.

” أنتَ حقا عديم الصبر. هل قلت 4000 قطعة ذهبية؟ هل تعتقد أن مثل هذا المبلغ الضئيل قد يشتري حياة أميرة عائلة أوتفيان؟”

“هل هذا يعني أنكِ تستطيعين الدفع ؟”

عند سماع كلمات فيلاكشينا تغيرت نبرة الرجل الأعور، وأدار الرجل الأصلع الذي كان معه نظره بعيدًا، غير متأكد مما يجب فعله.

“بالطبع، امعن النظر…” 

مدت فيلاكشينا يدها إلى الجيب الداخلي لرداءها، حيث وضعت الكتاب الذهبي والمرصع بالجواهر.

“ماذا ؟…”

في لحظة شحب وجه فيلاكشينا، ولم تشعر على أطراف أصابعها إلا بالنسيج الناعم لبطانة المخمل الرقيقة في أسفل جيب الرداء.

“ا… انتظرا “

“…؟”

” امنحاني خمس دقائق فقط. سأعود إليكما في الحال بالكنوز الموجودة بالداخل. ستحظون بمكافأة غير متوقعة. الأشياء الموجودة هناك تساوي أكثر بكثير من هذا الكتاب”

حاولت فيلاكشينا العودة مسرعة إلى القبر، لكن يدا أمسكت بكتفها بقوة.

“هل تحاولين أن تخدعينا؟ نحن نعلم بالفعل أنه لا يوجد شيء بالداخل”

“هذا غير صحيح لم تبحثوا جيدًا! هناك غرفة مخفية بها قبرا الدوق و الدوقة الأوائل” 

“هاها! يا لكِ من فتاة مضحكة! ” 

تحول وجه فيلاكشينا إلى لون شاحب من الخوف. لم يكن لدى هؤلاء الأوغاد أي نية لتصديق أي كلمة قالتها

” استعدي يا سيدتي لأن دفع 4000 قطعة ذهبية بجسدكِ لن يكون بالمهمة السهلة “

****

‘هل هذا الطريق يؤدي إلى الجحيم ام ماذا؟’

عبس أفالكين قليلاً وهو ينزل السلالم والممرات التي لا نهاية لها.

ما كان في السابق زنزانة تحت قلعة مهجورة على مشارف العاصمة أصبح الآن مكتظًا بعدد كبير جدا من الناس لا يمكن إحصاؤهم.

وبالحكم على مظهرهم، فقد بدووا جميعًا بعيدين عن حسن الطباع.

” لا أظن أن صديقة عزيزة عليكِ ستتواجد في مثل هذا المكان، يا كونتيسة كاستيليوني” 

على الأرجح كان هذا هو السبب الذي جعل أفالكين المعروف بصبره، يشكو جزئيًا إلى مرافقتها أثناء سيرها بجانبه.

“يا إلهي سيدنا الدوق غير صبور للغاية”

عندها، التفتت المرأة ذات الشعر البني التي كانت تسير أمامه وهي تلوّح بأقراطها الزمردية.

مارلين كاستيليوني.

امرأة أرملة ذات سمعة سيئة و سلوك مشبوه، مما جعل مكانتها الاجتماعية في الحضيض، لكنها كانت ذات مكانة رفيعة وثروة طائلة.

والأهم من ذلك، كانت آخر مرشحة محتملة للزواج يمكنه أن يأمل بها. لذا، كان على أفالكين أن يظهر صبره مرة أخرى.

‘لأكون صريحًا، ليست من النوع الذي يروق لي.’

فحتى لو لم يكن أفالكين، لا يوجد رجل سيرى امرأة تقترح موعدًا في سوق العبيد بشكل إيجابي.

ولكن، و لسوء الحظ، لم يكن أفالكين في وضع يسمح له بالاختيار.

فإقطاعية يشكين في الشمال التي كان يحكمها أفالكين، كانت قاسية و قاحلة لدرجة أن فتيات النبلاء الرقيقات لا يمكنهن احتمالها.

حتى بضع سنوات مضت، كانت هناك فتيات مولعات بمظهر أفالكين الوسيم كمنحوتة من الرخام، وشعره الغامض الذي يشبه الشفق القطبي الذي يزين سماء الشمال.

لكن حب الفتيات البريء ذاك لم يكن قويًا كفاية لتحمل شتاء يشكين القاسي، و النتيجة أن أفالكين أصبح سلعة زواج سيئ السمعة في المجتمع بعد أن فشل في سبع خطوبات و أُلغيت ثلاث منها.

فما الخيار المتبقي أمامه إذن؟

حتى لو كانت شريكة الموعد التي التقاها أخيرًا امرأةً مقززة تقترح مناقشة الزواج في سوق العبيد، عليه أن يتحمل و يصبر.

“أخبرتك، إنها هنا حقًا. صديقتي.”

قالت الكونتيسة كاستيليوني بابتسامة مغرية تخفي شيئًا ما، ثم أشارت بيدها نحو القاعة المتصلة بنهاية الممر وهتفت بفرح

“انظر! ها هي تظهر!”

أدار أفالكين نظره باتجاه طرف إصبع الكونتيسة الممتد.

منصة دائرية محاطة بجمهور مزدحم.

وفي وسطها ، كانت تمشي امرأة ذات شعر أسود.