لم تهدر العاصفة، لكنها تنفست.
وفي فناء القصر الصامت، بدا كل شيء كأنما ولد من رحم الخوف.
الجدران لا تئن، لكنها تصغي والنوافذ المفتوحة بالكاد تجرؤ على التنفس.
الساعة تقترب من الفجر، والضوء المسكوب على أرضية الرخام الأبيض يشبه همسا مترددا لا يجرؤ على إعلان الصباح.
خطوات الخدم تتخفى، لا خشية من أوامره، بل من وجه لا يتغيّر من نظرات باردة تتسكع بين تفاصيل المكان وكأنها لم تعد تؤمن بجدوى الحياة.
في بهو الطعام، حيث لا يقام الإفطار بل يؤدى جلس الدوق ألكسندر كمن وضع على عرش من جليد لا يذوب.
كتفاه مشدودتان، يده اليمنى مستندة على ذراع المقعد، والأخرى تقلب فنجانا فارغا دون أن يشرب منه.
كانت المائدة عامرة، لكن الشهية منهزمة.
دخلت الدوقة الأم.
ثوبها المطرز بخيوط الذهب بدا باهتا، لا لنقص فيه بل لأن نظرة ابنها تطفئ الألوان من حولها.
وقفت لحظة عند المدخل، تفرست فيه، ثم تقدمت كمن يسير على خيط رفيع من وجع.
جلست برفق، ثم تمتمت:
“الليل كان طويلا.”
لم يلتفت.
انزلقت جملتها كحجر في بئر، لا رجع لصوته.
عاودت، بصوت خافت:
“أخبرني… هل أزعجك شيء؟”
رمش ببطء.
ثم حرك رأسه قليلا كما لو كان يدفع بالملل إلى الزاوية.
تنهد، لا كمن ضاق بل كمن نسي طعم التنفس.
ثم أجابها، دون أن يقابل نظرها:
“الانزعاج فعل بشري.”
تشنج وجهها للحظة، لكنها قاومت.
لم تكن أما فقط، بل وريثة صمت ملوكي طويل؛ تعرف أن الكلام أحيانا يسقط الكرامة من أعين من نحبهم.
تأملته كما يتأمل الموج شاطئا لا يقترب منه أبدا.
ثم انسحبت… دون أن تكمل فطورها ودون أن تودع.
في الإسطبل، الخيول تتمرن على الهيبة.
صهيلها يمزق الهواء كما يفعل الموسيقي بمفاتيح البيانو في نوبة جنون.
كان جورج واقفا، بكامل بزته السوداء المطرزة بشعار النسر المزدوج .
اقترب الخدم منه ليهيئوا الفرس، لكنه رفع يده:
نظرة واحدة منه تكفي لتأمر وتمنع وتدين وتصفح في آنٍ معا.
امتطى جواده ببطء، كمن يعتلي مقصلة، لا صهوة.
تحرك الركب نحو الغابة.
في الغابة، كان للهواء رائحة شيء قديم… رائحة موت مؤجل.
الأشجار شامخة لا عن قوة، بل عن عناد.
الرياح تزحف بين الأغصان، لا تسأل الإذن ولا تعتذر.
كل شيء في المكان يوحي بأن الفتك لا مفر منه وأن ما سيذبح اليوم… قد قرر مسبقا.
ثم ظهرت ماري.
كأن الأرض لفظتها، لا أنجبتها.
لم تسر، بل عبرت المسافة كأنها تنكر الزمن.
وجهها شاحب، كأن الضوء رفضه وعيناها لا تسألان لا تلعنان، لا تنتظران… بل فارغتان كنافذتين أغلقتا منذ زمن.
توقف هو.
وتوقفت هي.
لم تنبس شفاهها، ولم يحرك حاجبه.
مرت بينهما نسمة… لا باردة، لا دافئة… بل محايدة تماما.
كأن الهواء نفسه لا يجرؤ على الانحياز.
كل شيء فيه كان كالماء إذا جُمّد: نقي، لكن قاتل.
نظرت إليه نظرة واحدة، ثم أدارت رأسها ببطء.
وهو… ظل واقفا كما هو، صامتا كما كان وفي داخله لم يعبأ.
بل فكر: “حين ينكسر الشيء، لا يجدر بنا لمسه، حتى لا يجرحنا.”
ثم بدأت المطاردة.
من عمق الغابة، اخترق الهواء صوت جهوري لا كنباح عابر، بل كصرخة وحش نائم أيقظه جوع الدم.
نفض جورج عن كتفه فتور الهدوء، شد على قوسه كمن يكمل ما لم يكتمل في تلك النظرة الباردة.
انطلقت الظباء، كأن الغابة لفظتها خائفة وبدأت الأرض تصفق لأقدامها الهاربة.
تعالت أصوات الطيور فوقهم كجوقة فزع، فيما كان الدوق يسابق الفجر في صمته، يتنقل بين الأشجار كمن يلاحق ظلا قد حلم به طويلا.
لم يكن الصيد طقسا للمتعة، بل وصية أسلافه وصدى لدماء منقوشة في جلده وحين اقتربت إحدى الظباء من وهدة ضيقة، رفع القوس وسدد.
رنة الوتر اخترقت الهواء، واختتمت الرعشة بسكون دام.
«أصبتها، مولاي !» هتف أحدهم.
لكن الدوق لم يجب.
عينيه كانتا تتابعان آخر ارتجافة للمخلوق، كما لو كان يقرأ فيها شيئا لا يقال.
اقترب، انحنى مسح على رقبتها، ثم قال دون أن يلتفت:
«علموا الصغار، أن الحياة تركض… والموت لا يلهث خلفها، بل ينتظرها عند نهاياتها».
كان صباحه كمسرح مهيب بلا جمهور، يخطو فيه بثوب صياد، لكن داخله فارس ضل ميدان الحرب.
لا يلاحق الطرائد بقدر ما يهرب من شيء يسكن صدره، كأن في كل خطوة خيانة لزمن مات ولم يُدفن
عاد إلى القصر بعد الظهر.
كانت الشمس في أعلى السماء، لكن ظله كان أطول من الأشجار.
الخدم اصطفوا، لا احتراما بل اتقاء لبروده وفي جناحه الخاص، جلس أمام النافذة لا لينظر… بل لينتظر شيئا لا يعرف اسمه.
العصافير فرت من الأغصان والغيم تجمع فوق القصر كأنما يستعد لإدانة.
همس لنفسه:
“ليس الخطر في العاصفة… بل في اللحظة التي تسبقها.”
وفجأة، دوى الرعد.
التعليقات لهذا الفصل " 9"