الليل في القصر لا يشبه الليالي في أي مكان ، هنا الظلمة ليست غيابا للنور بل حضورا كثيفا لما لا يقال.
الريح تسللت عبر الأروقة كوشوشة خادمة مذعورة والدرج الخلفي، المؤدي إلى باحة الخدم بدا كفخ حجري ينتظر ضحيته التاليةالصمت في القصر لم يكن راحة، بل توتر راكد كبركة ماء على وشك أن ترمى فيها حجارة.
في تلك الليلة، كانت الصالة الغربية للضيوف خالية من الزوار، الستائر الثقيلة مسدلة والشموع تذوب على مهل في قواعدها النحاسية والهواء مشبع برائحة خشب قديم ومسك باهت.
جلس جورج هناك، وحده.
في يده كأس من كريستال فاخر، يتأمل ما فيه لا كعاشق نبيذ، بل كمن يحاور شيئا في داخله و كل شيء فيه كان ساكنا، إلا عينيه.
عينان تلمعان بتلك اللمعة الخطرة التي لا تأتي من الخمر وحدها، بل من عقل لا يهدأ وشيء مكسور لا يصلح.
رفع الكأس، شرب جرعة بطيئة و صوت الزجاج وهو يلامس شفتيه كان أوضح من أي كلمة نطقت في القصر تلك الليلة.
قال لنفسه بصوت خافت:
“الغضب… حين لا يقال، ينبت في العيون.”
ثم وقف.
بهدوء، كمن ينهض من جنازة لا من مقعد.
سوى ياقة معطفه، تأكد أن خطواته لا تصدر ضجيجا على الرخام ومشى خارجا من الصالة، كأنه ذاهب إلى موعد لا يريد لأحد أن يعرفه وما إن وصل إلى أول عتبات الرواق الخلفي حتى التقطها بعينيه.
كانت هي هناك.
تمشي وحدها، تحمل في خطواتها خفة لم يرها فيها من قبل، كأن شيئا من السرور استرقها من عالم الخدم وألقى بها في لحظة حرة.
توقف و تأملها.
كان يقف على أول الدرج، في يده كأس ما تزال محتفظة ببعض الشراب، نظراته ثقيلة ورأسه مائل كأنه يزن احتمالا خاطئا.
نزل خطوة ثم خطوة.
تمتم:
“هذه الممرات… موحشة في الليل و غريب أنك تفضلين السير فيها وحدك، دون رفقة.”
قالت بحذر:
“لم أكن أعلم أنك هنا سيدي .”
ابتسم بلا ابتسامة.
“أنا دوما هنا… وإن لم تريني.”
وصل أمامها.
اقترب أكثر، وهمس:
“أنا لا أؤمن بالصدف… ووجودك هنا، بهذا الشكل وفي هذه اللحظة، كأنك تعلنين أنك لعبة في متناول يدي وانا في هذا الوضع.”
ابتسم
رفعت صوتها بهدوء:
“أنت تتجاوز حدودك سيدي !”
ضحك.
“وهل تعنين أن هناك حدودًا حقيقية بيننا؟ منذ متى؟”
سكت، ثم قال بنبرة جدية دون سخرية:
“تعلمين ما أكثر ما يثير جنوني؟أنكِ لست خائفة كما يجب وأن شيئا فيك ينتظر أن ألمسك، حتى لو كنت تنكرين ذلك .”
دفعت يده بقوة صدرها يعلو وينخفض، لكنها لم تصرخ.
تراجع بخطوة بطيئة، كأنه ينسحب من ساحة معركة لم ينتصر فيها، ثم تمتم بمرارة لا تخلو من السخرية:
“جيد… ما زال فيك نبض.”
استدار، نزل أولى درجات السلالم، ثم ألقى كلمته الأخيرة:
“تلك الابتسامة… كانت جميلة و عيبها الوحيد أنها لم تكن لي.”
وبقيت هي واقفة وحيدة، تمسك بكمها كأنها تحاول نزع أثر لمسة لم تخترها.
وغاب من أمامها و لكنّه لم يختف.
صوت خطواته انسحب على الرخام كأنه أثر جريمة بطيء و ثقيل، لا يركض و لا يهرب، بل يمشي كمن يجر خلفه ما لا يقال.
مرّ عبر الباحة الخلفية، كان الظلام فيها أكثر كثافة وكأن المكان بأكمله ابتلع نوره بعد ما حدث.
الريح تسللت بين الأشجار كأرواح خادمة، تتلصص و تتنهد لكن لا تتكلم.
وصل إلى زاوية الحديقة الجانبية، هناك حيث لا يمر أحد.
حيث تلقى المهملات وتذبل الأزهار التي لا يروى لها ماء.
وقف.
أنزل الكأس من يده، وضعه فوق سور حجريٍّ بارد و مد يده إلى شعره نثره بعنف فوق جبينه، كأنه يريد أن يفرغ ما تراكم في صدره.
ثم مال على الجدار، كأن جسده أثقل من أن يحتمل نفسه.
تنفس بعمق، ثم همس:
“لماذا لم تصرخي؟ كنت قادرة على صفع وجهي على اللعن، على الفرار ، لكنك وقفت تنظرين إلي كما لو أنني انكشفت ،كأنك رأيت في شيئا… لا أريد لأحد أن يراه.”
نظر إلى الكأس، ثم دفعه بيده.
ارتطم على الحصى، وانكسر إلى قطع صغيرة.
“جميلة؟ أي سخف هذا؟”
أدار وجهه إلى العتمة، كأنه يحدث شيئا غير مرئي.
“هل أنا غاضب؟ لا… أنا فقط لا أحتمل أن يبدو وجهها سعيدا في حضوري، دون أن يكون لي سبب ذلك الوجه.”
صمت.
السكوت في فمه كان أثقل من كل شيء، ثم رفع رأسه وقال بصوت خافت، خال من كل تهديد، محمل فقط بالفراغ:
“كنت أستطيع إيذاءها… لكنني لم أفعل وهذا أكثر ما يزعجني.”
أدار ظهره، مشى بخطى متثاقلة عائدة نحو القصر، لكنه لم يدخل من الباب الرئيسي، بل انسل عبر الممر الجانبي كأنه لا يريد لأحد أن يراه في تلك الحالة وفي صدره وعقله ، صوت لم يخمد و صورة وجه كانت تبتسم، قبل أن تظهره.
وقف عند المرآة الكبيرة المعلقة على الحائط المقابل، حدّق في صورته للحظة.
كانت عيناه تلمعان ببريق غريب… خليط من النشوة والازدراء، النشوة لأنه استطاع أن يُربكها، والازدراء لأنه ما زال متورّطًا في تلك النظرة التي سبقت انهيارها.
اقترب من المرآة أكثر.
تمتم:
” ابتسامة؟”
مرر أصابعه على طرف وجهه، كأنه يحاول محو أثر لا يراه سواه، ثم جلس على المقعد الجانبي وأرخى جسده كمن ينهار ببطء دون شهود.
فتح عينيه بعد لحظة شرود، ونظر إلى رفوف الكتب العالية.
قال بصوت خافت:
“الوجه الذي لا أملكه… لا يحق له أن يبتسم في حضوري.”
ثم أسند رأسه إلى الحائط، وأغلق عينيه وفي ظلام المكتبة، كان قلبه يكابر…
لكن شيئا فيه انهار بالفعل تلك الليلة، بصمت دون أن يُحدِث صوتا يذكر.
في الجهة الأخرى من القصر وفي ممر ضيق تفوح منه رائحة الصابون الرخيص والرطوبة، كانت تركض.
خطواتها خفيفة، لكنها متخبطة وكأن الأرض نفسها كانت ترفض أن تحتملها.
وصلت إلى باب غرفتها، الغرفة الصغيرة التي لا يتجاوز عرضها عرض سريرٍ واحدٍ وخزانةٍ باهتة.
ارتجفت يداها وهي تفتش عن المفتاح في طيات ثوبها.
وعندما وجدته، أدخلته بيدٍ مرتجفة وأدارته بقوة، ثم أغلقت الباب خلفها بإحكام وكأنها أغلقت العالم بأسره.
لم تتحرك بعدها.
أسندت ظهرها إلى الباب وأطبقت جفنيها كأنها تطرد ما رأت، ما سمع وما لم يقال ، ثم سقطت تدريجيّا… شيئا فشيئا… حتى انزلقت على الأرض وجسدها ينهار بلا حول.
نهضت بعدها بتثاقل، ومشت كأن قدميها مغروستان في طين ثقيل.
ارتمت على السرير، دون أن تنزع حذاءها ودون أن تطفئ المصباح الزيتي الضعيف في الزاوية.
دفنت وجهها في الوسادة.
وانفجرت.
بكت…
لكن ليس كما تبكي الفتيات في القصص ، بل كما يبكي من ظن أنه تخلص من ألمه، فقط ليكتشف أنه لا يزال حيًّا بداخله.
شهقت بصمت، ووضعت يديها على وجهها انزلتهما إلى عنقها وراحت تقبض على ثوبها عند صدرها كأنها تحاول اقتلاع ما علق بها.
تمتمت:
“لم يلمسني… لم يلمسني…”
لكنّها لم تكن واثقة، هل تتحدث عن يده التي سقطت على كمّها، أم عن نظراته التي انغرست في عينيها أم عن كلماته التي التصقت بها كالدخان؟
شدت ملابسها بقوة، كأنها تريد نزع جلدة الخوف وضربت الوسادة مرة ثم تجمّدت.
ثم عادت للبكاء بهدوء هذه المرة.
بكاء ثقيل، لا يصدر صوتا و لكنه ينخر في القلب.
النافذة المفتوحة قليلا سمحت لنسمة باردة أن تدخل، فارتعش جسدها و لكنها لم تغط نفسها.
لأن الدفء في تلك اللحظة، لم يكن ما ينقصها… بل الأمان.
وفي زاوية الغرفة، ظل الظلام ساكنا لا يسأل و لا يواسي ، هي فقط كانت وحدها ولأول مرة شعرت أنها عارية رغم كل ما ترتديه.
في الظلال، خلف الجدران العالية وفي ثنايا الحجر التي لا تصل إليها أنظار البشر، انكسر شيء لم يعد يرمم.
شيء ليس كأي انكسار…
بل بداية لتصدع سيهتز على أسس هذا المكان.
انكسر ولم يسمع له صوت و لكن الصمت الذي تبع ذلك الانكسار هو صوت العاصفة القادمة.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 8"