انبثق النهار عنيفا، كوحش خرج من كهف السماء، يزأر بنور ساطع يلتهم بقايا الظلام فانسحبت الحديقة إلى صمت ثقيل، أشجارها متلاصقة كقطيع مذعور أمام صياد لا يرحم.
جورج سار بخطوات مترددة على ممر مرصوف بالحجارة العتيقة، تحته امتدت أعشاب مبتلة ما تزال تحتفظ بندى الليل، كأن الأرض استيقظت للتو ولم تفتح عينيها بالكامل بعد.
كان معطفه الرمادي يثقل كتفيه برطوبة لم تأت من المطر بعد، بل من هواء بارد تشبع برائحة الطين، الأوراق الميتة ونفس الأشجار الموحش.
في صدره، الورقة المطوية ترقد ككائن حي يتنفس ببطء، تحيطه حرارة غامضة رغم برودة الصباح.
ضغط عليها بأصابعه داخل جيب سترته الداخلية، كمن يختبر يقينا يريد أن يتأكد من وجوده و عيناه كانتا مسمرتين على الممر الذي يفضي إلى بوابة الحديقة، حدس مبهم يتردد في صدره بأن ثمة شيئا ينتظره هناك.
أصوات طيور متفرقة بدت باهتة، مترددة في خوض هذا الصباح البارد و الريح الخفيفة كانت تمر بين أغصان الشجر العالية، تعزف لحنا متقطعا يشبه وشوشات عجائز يتآمرن على غريب.
حين بلغ البوابة الحديدية، توقف.
كان الصدأ قد التهم أجزاءها والتواء القضبان جعلها تشبه فك وحش حجري فاغر، يختبئ بين ظلال الأشجار الباسقة التي انحنت أغصانها كما لو كانت تراقب دخوله.
لماذا أتى إلى هنا؟ لم يكن يملك جوابا شافيا.
فقط إحساس غامض يسحبه إلى هذا المكان كما تسحب موجة عنيدة زورقا متهالكا إلى قلب البحر.
وحين رفع عينيه رأى هيئة تقف عند النافورة .
لم يكن يعرفها و لم يسبق له أن لمحها بين وجوه الخدم المألوفة.
وجودها بدا طارئا كزهرة نبتت بين شقوق حجرية في أرض مهجورة، لا تفسير له سوى أن الصدفة قد تواطأت مع هذا الصباح الرمادي.
كانت واقفة في مواجهة المياه الراقدة، الظلال والضباب يبتلعان أطرافها كأنها شبح يتجسد ببطء و فستانها الوردي، الذي بدا باهتا في ضوء النهار البارد، كان ملتصقا بخصرها بفعل الرطوبة وأطرافه تحمل آثار ندى تحول إلى قطرات تلمع مثل دموع متجمدة.
شعرها الداكن انسدل على ظهرها بثقل وقد التصقت خصلاته برقبتها مثل وشاح مبتل، كتفاها منحنيان قليلا وقفتها متصلبة على نحو غريب، كأنها تحمل على ظهرها عبئا لا يرى.
جورج ثبت نظره على ماري ، لم يشعر بانجذاب ولا نفور، كمن يراقب كائنا بريا لا يعرف إن كان ودودا أم مفترسا.
لحظة رفع رأسه نحوه، انزلقت أولى قطرات المطر من السماء باردة مترددة كدموع سقطت خطأ، ثم تبعتها أخرى وسرعان ما تحول الرذاذ إلى وشاح رطب يلف المكان بأسره.
وقع القطرات على أوراق الشجر بدا مثل عزف بيانو قديم أصابته الرطوبة متقطعا و مريضا، لكنه يحمل في طياته شيئا من الحنين.
هي لم تلتفت إليه ولم تمنحه حتى نظرة عابرة، كأنها تعرف أنه يقف هناك منذ زمن أو كأن وجوده لا يعني شيئا.
هذه اللامبالاة أثارت بداخله انزعاجا مبطنا، لكنه ظل واقفا كأن قدميه التصقتا بالطين.
حاول إقناع نفسه بأن وقوفه هنا بلا جدوى، بأن عليه أن يستدير ويمضي، لكنه لم يفعل.
الريح اشتدت، عبثت بأطراف الفستان الوردي ورفعت معه رائحة عطر خافتة، لم يعرف إن كانت منها أم من زهور بريّة هرستها الأقدام في الحديقة.
لحظة، رفعت يدها ببطء عدلت ثنية قرب ركبتها بحركة رشيقة لكنها بدت مدروسة على نحو مزعج كمن يؤدي طقسا سريا أمام مذبح خفي و في داخله تصاعد حوار قصير بين صوتين متنازعين:
“اقترب… ربما ستجيبك عن كل ما أثقل رأسك الليلة الماضية.”
“ابتعد… هذا الصمت ليس بريئا، وهذه المرأة ليست كما تبدو.”
أصابعه في جيبه ظلت تتحسس الورقة كأنها صمام أمان في عالم يتداعى، عيناه ثبتتا عليها مجددا لكنها لم تتحرك.
نظرة عابرة لكنها حادة، باردة كأنها زجاج يتلقى الضوء دون أن يسمح له بالمرور.
لم يقرأ فيها دفئا ولا عداء، فقط فراغ يلتهم المعاني.
في الأفق، صدر صوت كمان باهت من بيت عتيق خلف الأشجار، بدت النغمة مجروحة حزينة، كأنها تصدر من روح تئن تحت وطأة الذكريات.
هي أخذت نفسا عميقا، ثم بدأت تتحرك ببطء، تخطو فوق الطين المبتل دون أن تترك خلفها سوى آثار واهنة سرعان ما غمرها المطر.
جورج ظل يراقبها، شعور غامض بالثقل يضغط على صدره مع كل خطوة تبعدها عن نظره، كأن قلبه يحاول الانسحاب إلى قاع ضلوعه ليختبئ.
حين ابتلعتها الأشجار الكثيفة بقي واقفا، المطر ينساب على وجهه والريح تعوي بين الأغصان بصوت أشبه بعويل ناي مكسور.
ضغط على الورقة في جيبه، أدرك أن ما حدث لم يكن بداية لنهاية، بل النهاية التي تتنكر في ثياب بداية وأن الإجابات التي يبحث عنها ربما تختبئ خلف تلك العيون الباردة، تنتظره لتطالبه بثمن باهظ.
أدار ظهره ببطء، تاركا النافورة خلفه والمطر يواصل عزف نشيد طويل لن ينساه أبدا.
هبط المساء على القصر كأنه صلاة خفية، يتلوها الزمن على مسامع الجدران وكانت الردهة المطلة على الحديقة تشع بضوء خافت صادر عن مشاعل معلقة، ضوءها يتمايل كأنه نفس يرتجف في صدر الليل.
في صدر المكان، جلست الأميرة لورين ، بثوب ينضح من أطرافه بترف لا يعرف البساطة وعيناها تبرقان بذكاء أنثى تعي تماما أثر حضورها.
أمامها جلس جورج بملامح متماسكة، تتخللها أحيانا نظرة متجمدة، كأن روحه تمشي في رواق لا يراه سواه.
صوت الحطب يتكسر في المدفأة بحنينٍ حاد، يشبه شهقة منسية، بينما فنجانان من الخزف الأبيض وضعا على الطاولة المستديرة، وقد تصاعد منهما البخار كهمسٍ يتكثّف في جوّ المساء.
ودخلت ماري.
لم يسبقها صوتُ خطوة، ولا ارتعاشة باب، بل انسلّت كما ينسلُّ الظن في قلب العاقل.
كانت ترتدي ثوبا داكنا يمتصّ نور المصابيح، وشعرها مرفوع إلى الخلف بإهمالٍ مدروس و في يديها، صينية نحاسية تتماوج عليها فناجين القهوة السوداء كقوارب صغيرة على بحر ساكن.
أما ماري، فقد انحنت بانخفاض مهذب ثم استدارت ببطء وانسحبت، تاركة خلفها رائحة قهوة… وصمتا كثيفا كأنها مرت على قلوبهم لا على الأرض.
وحين بلغت عتبة الباب التفتت، لا بعينيها بل بجسدها كله، كما لو كانت تقيس المسافة بين المسافة.
لكن جورج لم ينظر.
ظل مشدودا إلى صوت داخلي لا يسمعه سواه، بينما الورقة في جيبه قد ارتفعت حرارتها، كأنها تستفيق.
في الخارج، كانت الريح قد بدأت تعزف.
صوتها يتخلل نوافذ القصر مثل ناي مكسور يبكي على إيقاع لا يتذكره، فيما ارتفعت أنفاس القهوة في الفضاء كشبح من لهفة لم تشبع.
والمساء ازداد ثقلا.
كأنه لم يأت ليستريح، بل ليحمل معه اختبارا جديدا.
جلس جورج في الردهة الهادئة، أمامه فنجان القهوة يبرد ببطء و ضوء المشاعل يرقص على الجدران، الأميرة لورين جلست مقابله تنظر إليه بابتسامة ناعمة، لكنها لا تخلو من اختبار خفي.
الأميرة (بهدوء):
“يبدو أن القصر تغير كثيرا منذ زيارتي الأخيرة.”
جورج (يرد دون أن ينظر مباشرة إليها):
” نعم، كل شيء يتغير… خاصة بعد أن يتغير من يجلس على العرش.”
الأميرة:
“صحيح، لكن ما زال بعض الوجوه هنا كما هي ،فأنت مثلا… ما زلت في مكانك.”
جورج (ينظر إليها):
:أحيانا البقاء في المكان نفسه… هو الطريقة الوحيدة لفهم كل ما يحدث.”
الأميرة:
“أو للبقاء قريبا من مركز القرار، أليس كذلك؟”
جورج (بهدوء):
:هذا يعتمد على من يتخذ القرار… إن كان يستحق أن نقترب منه.”
الأميرة (ترتشف من فنجانها):
” بصراحة، كنت أريد أن أراك منذ وصلت، سمعت عنك كثيرا… أنك تعرف أكثر مما تقول، وتلاحظ أكثر مما تظهر.”
جورج:
” أحيانا من الأفضل أن نسمع ونراقب فقط، الكلام الكثير يسبب مشاكل.”
الأميرة (بنبرة خفيفة):
” وأنا لا أخاف من المشاكل… بل أحب أن أعرف من حولي جيدا، خاصة في هذا القصر.”
جورج:
“وأنا أفضل أن أفهم نوايا الضيوف… قبل أن أصدق كلماتهم.”
الأميرة (تبتسم):
“واضح أنك حذر جدا. هل هو خوف؟ أم حذر رجل ذكي لا يحب المفاجآت؟”
جورج:
” لا أخاف، لكني لا أحب أن أندم.”
الأميرة:
“هذا جيد… لأن أغلب من يندمون هم الذين يتكلمون قبل أن يعرفوا من أمامهم.”
جورج:
“وأنا أسمعك الآن… لأتأكد فقط، هل جئت للزيارة؟ أم لأمر آخر؟”
الأميرة:
“جئت لأطمئن ،التغييرات الكبيرة تقلقنا وأنا أحب أن أرى الأمور بعيني.”
جورج:
” التغييرات لا تقلق إلا من يشعر أنه قد يخسر شيئا.”
الأميرة (تنظر إليه):
“أو من لا يعرف أين يقف.”
جورج:
“وأنا واقف… لكن ليس في صف أحد.”
الأميرة:
“هذا أخطر من أن تختار صفا،. الوقوف في المنتصف… قد يجعلك هدفا من الجهتين.”
جورج:
” أحيانا الوقوف وحدك هو الخيار الوحيد… إن كنت لا تثق بأحد.”
الأميرة (تنهض بهدوء):
“واضح أن الحديث معك ليس سهلً… لكنه ممتع.”
جورج:
“وأنا أيضا، استمعت.”
الأميرة (قبل أن تغادر):
“ستتغير أمور كثيرة قريبا… لا تنتظر كثيرا لتأخذ موقفا.”
جورج:
” كل شيء في وقته.”
تغادر الأميرة، خطواتها هادئة وجورج يبقى وحده، ينظر إلى فنجانه، كانت النار في المدفأة لا تزال ترقص على مهل، تعبر بين الحطب كما يعبر العمر بين لحظات لا تُعاد.
مد يده إلى جيب سترته الداخلية وأخرج الورقة المطوية.
بقي ينظر إليها طويلا، كأنها وجه قديم يعرفه جيدا ولا يريد أن يراه من جديد.
لم يفتحها.
لم يحاول أن يقرأ سطرا منها، كان يعرف ما فيها أو ربما لا يريد أن يعرف.
ضمها بين أصابعه، ببطء، ثم نظر إلى لهب النار أمامه.
ثانية واحدة فقط من التردد، ثم مد يده وأسقط الورقة في فم النار.
أمسكتها الشعلة بسرعة كأنها كانت تنتظرها، التهمتها في صمت، لا صوت لها سوى خشخشة ضعيفة أنين ورق يودع ذاكرة لا يريدها أحد.
جلس جورج يراقبها تحترق.
كلمات لم تقرأ، رسائل لم تُفتَح، ماضٍ لم يناقش.
لم يغير ملامحه.
لكن عينيه ظلتا تحدقان في الرماد، كما لو أن شيئا فيه احترق معها دون أن يظهر على السطح.
همس لنفسه:
“بعض الأجوبة… إن عرفت، تفسد كل شيء.”
ثم نهض بهدوء، وسوى ياقة معطفه ومضى خارجا من الغرفة، تاركا خلفه رائحة رماد دافئة وذاكرة لم يعد لها وجود.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 7"