كان جورج في المغطس الحجري، يصغي إلى صوت سائل يتساقط بصبر، كأن ما يتبخر من حوله هو بقايا عمر لا أسماء له.
أغمض عينيه لم يتخيل شيئًا، لكنه تذكر كل شيء.
النافذة خلف البخار بدت كفم مغلق بالكاد يكتم صرخة، وحين نهض وارتفع جسده من الماء، لم يكن العري ما أربكه بل الشعور أن أحدا ما كان يراقبه من الزاوية.
ارتدى ثيابه ببطء.
لم يطلب منه أن يتعجل، لكنه شعر أن الزمن يدفعه إلى الخارج، إلى ما بعد العزلة.
كانت الصالة الزجاجية تغرق في صمت غير عادي، فيها وقفت والدته كما لو أنها لم تبرح مكانها منذ عودته.
نظرت إليه، لا كأم… بل كوريثة لعرش من التوقعات.
“البلاد لا تنام يا جورج والناس لا تنسى.”
قالتها وهي تتابع حركة طائر صغير ضرب زجاج النافذة ثم هرب.
“الأميرة لورين قادمة إلى القصر، بدعوة رسمية من البلاط، وعلى القصر أن يكون على قدر الاستقبال.”
صمت.
لم يندهش، لكنه سأل:
“لماذا الآن؟”
“لأن الغائب حين يعود يربك الموازين، هناك من يريد أن يعرف… هل عدت بشروطك، أم بشروطهم؟”
ثم جلست، لأول مرة منذ أيام وجلست كمن تعب من حمل الهيبة.
“نقيم حفلا، لا للاحتفال بك بل للحفاظ عليك، فالقصر لا يفتح إلا حين يراد منه أن يشهد.”
منذ تلك الليلة، بدأ القصر يستعيد ذاكرته.
عاد الطباخ وتبعته وصيفته التي لم تغادر، لكن صمتها كان أقسى من الغياب.
الخدم الجدد دخلوا كأنهم جنود، الخدم القدامى خرجوا من مخابئهم.
الفضة صقلت و السجاد أعيد نشره كحكاية.
حتى الطيور التي تعشش فوق الأبراج، بدا أنها تعلّمت الصمت.
ماري ظهرت دون إعلان.
ماري التي كانت أو لم تكن جزءا من هذا التاريخ، دخلت القصر بثوب رمادي لا يشي بشيء.
خطاها فوق الأرضيات الرخامية لم تخلف أثرا، لكن العيون شعرت بها.
لم تعد كما كانت.
لكنها لم تصبح شيئا آخر.
كأنها بين حالتين، خادمة ترى… وذكرى تخشى.
رآها جورج من شرفته ذات فجر، تحمل صحونا نحاسية، ووجهها لا يدل على شيء سوى أنها تعود إلى أماكن تعرفها أكثر من الناس أنفسهم.
جاء يوم الحفل.
وكان النهار شاحبا، كأنه تراجع أمام المساء.
منذ ساعات الصباح الأولى، خيم التوتر.
كانت عربات التوريد تصل تباعا:
زهور نادرة، قطفت من بيوت الزراعة الملكية حيث لا يُزرع إلا ما ترضي به الملكات أبصارهن، نسجت منها باقات كأنها من أنفاس الربيع الموقر.
أما الشموع، فحملت بعناية من قصر فرنسي مرموق، بفتائل معطرة ومعدن مصبوب وفق تقاليد البلاط القديم، حتى ضوؤها بدا وكأنه يعرف لمن يُضيء… ولمن يُخفي
في غرفة الموسيقيين، كان قائد الأوركسترا يراجع النوطة للمرة العشرين، وجهه مشدود كوتر.
أمر العازفين أن يخففوا النهايات، فالأميرة لا تحب النهايات العالية.
وفي المطبخ، اشتبك الطهاة في صمت:
هل تقدم المقبلات قبل العزف أم بعد التقديم الرسمي؟
قال أحدهم:
“يا سيدي… في قصر آل ألدرايث، كل تفصيلة تعد كما تعد الصلاة، ولا يترك للارتجال موضع قدم.”
في تمام الثامنة، دقت الساعة الطويلة نغمة واحدة فقط، كأنها تتنفس بعد طول غياب.
فتح البهو الكبير أبوابه، وانسكب الضوء.
دخل النبلاء كما تدخل الذكريات الأنيقة بثقل، بترف وبخيلاء محسوبة.
كانت عرباتهم تقف تباعا أمام الممر المبلط، وكل نزول منهم من عربة أشبه بإعلان نبيل، أن الاسم ما زال يكتب في دفاتر الشرف.
سيدات ترفرف أذيال أثوابهن كما لو أن الريح قد تدربت على خدمتهن.
رجال تقلدوا أوسمة خرساء، تحكي حروبا لا تذكر وجباه شامخة لم تنحن قط إلا تحت ثقل التاج أو بين يدي المراسيم.
كل شيء في تلك الليلة كان معدا بدقة.
حتى الرائحة، كانت مزيجا من عنبر ناعم وبنفسج مجفف وماء ورد قطف فجرا، تتسلل بين الجدران كأنها صلاة صامتة وحتى الأضواء، وزعت بعناية لا تفضح أحدا ولا تخفي كل شيء.
على رأس الدرج، وقف جورج بثبات مهيب.
ليس كبطل، بل كوريث لميراث هش يعلم أن نظرة خاطئة قد تكسره.
إلى جانبه، والدته.
صمتها وحده كان إعلانا ملكيا.
لا تبتسم و لا تومئ، فقط تسمح للمكان أن يأخذ مكانته عبرها.
أُلقيت كلمات الترحيب بصوت بارد، شبيه بما يقال في المحافل حيث لا يسمح للعاطفة أن تتسرب.
ثم دخلت الأميرة لورين.
عربة واحدة توقفت عند الممر، بخيول مطلية بالأزرق وخدم بزي رمادي داكن.
حين نزلت، لم تحدث وقعا… بل صمتا.
حتى الهواء تغيّر إيقاعه.
ارتدت ثوبا بلون المساء قبل المطر.
رقبتها مرفوعة، وخطاها بطيئة كمن يعلم أن كل الأرض قد مدت له، لكنه لا يستعجل امتلاكها و حين اقتربت من جورج، لم تتبادل معه التحية اللفظية، بل نظرة.
نظرة تكفي لتقليب صفحات من التاريخ.
بدأ العزف.
قطعة مستلهمة من مارش ملكي قديم، أُعيد تلحينها خصيصا للقصر.
الرنين لم يكن موسيقى فقط، بل تذكير:
” نحن هنا، وسنظل.”
جرت الأحاديث الجانبية برقي مفرط، كأن كل جملة تم التدرب عليها في قاعة أخرى.
قال لورد مسن يدعى فريك ، يرتشف نبيذه ببطء:
“هل يعقل أن هذا القصر بقي كما هو؟”
أجابه أحد النبلاء بنبرة أقرب للغمز:
“لا أحد يبقى كما هو، إلا من يخطط لأن ينهض ثانية.”
ضحك آخر بلطف مشوب:
“وربما لأن الأشباح لا تبرح مكانها بسهولة.”
ابتسم جورج لنصف ثانية، ثم مر بينهم كظل يملك جسدا.
في أحد الأركان، ارتفعت ضحكة ناعمة لسيدة ترتدي تاجا من الألماس الناعم و لم تعرف هويتها بعد.
كانت تحدق في المرآة المائلة على الجدار، لكن ليس في وجهها… بل فيما خلفها.
المرآة نفسها كانت قديمة، مائلة قليلا تحفظ صورا أكثر مما تعكس.
وانعكس فيها للحظة وجه جورج بجانب وجه الأميرة.
لا يبتسمان و لا يتحدثان.
فقط، يشبهان زمنا ما كان يجب أن يعود.
الشموع بدأت تذوب و الستائر خفضت.
والقصر لحظة بلحظة، بدأ يتنفس كما يتنفس كائن خرج من سباته الطويل.
وفي غمرة المجاملة والعزف والبروتوكول، اقترب خادم يرتدي قفازا أبيض وناول جورج كأس نبيذ داكن.
انحنى قليلا وهمس:
“من الضيفة الجالسة قرب الستارة المخملية، سيدي.”
تناول جورج الكأس ولاحظ ورقة صغيرة مستندة إلى حافتها، كانت مطوية بعناية لا يلحظها سواه.
فتحها ببطء.
“لم يمت.”
لحظة، لم يعد يرى القاعة كما هي.
الضوء خفت و الأصوات اختفت.
المرآة القديمة، هناك، لم تعد تعكس إلا ستارة خفيفة تتحرك.
نظر جورج نحو الستارة… لم يكن هناك أحد.
وفي الطرف الآخر من القاعة، انصرفت فتاة بثوب بسيط تمر كما تمر ذبذبة لا تفسر.
يدها للحظة ارتجفت.
لكن لم يرها أحد ولم يعرفها أحد.
ولم يكن من المفترض أن تكون أكثر من واحدة من عشرات الخدم.
عاد جورج إلى مكانه.
لكن الرسالة… بقيت في يده، تطوي ليلة كاملة بكلمة واحدة.
سمع صوت والدته تضحك بخفة مع أحد الدوقات، ضحكتها لم تكن حقيقية ولم تكن كاذبة تماما.
كانت… مدروسة.
نظر إلى السقف، إلى الثريات و إلى النور الخافت الذي لا يفضح أحدا ولا يخفي كل شيء.
وشعر للحظة أن القصر كله ينصت، كأن الجدران نفسها كانت تنتظر هذه الرسالة لتستيقظ من سباتها.
في الخارج، عبر النوافذ الطويلة، كان الضباب يبدأ بالهبوط على الحدائق.
خفيفا أولا، ثم أثقل… كأن شيئا في الأرض يريد أن يُخفي كل ما حدث هذه الليلة.
طوى الورقة ووضعها في جيب سترته الداخلية، قرب قلبه.
ثم نظر أمامه، وقال بصوت لم يسمعه أحد:
“إن لم يمت… فإلى أين اختفى؟”
وبينما استمر العزف في الخلفية بطيئا، كأن الأوتار نفسها تتهيب من الصمت و جلس جورج .
أغمض عينيه.
ولم يعرف أحد أن الليلة لم تنته بالحفل، بل بدأت بها مرحلة جديدة من الحساب.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 6"