5
ما إن أوصدت الأبواب خلفه حتى خيم على البهو صمت ثقيل، صمت لا يقطعه سوى تنهيدة جدار تصدع بفعل السنين وكأن الحجر نفسه يعبر عن جزعه من هذا اللقاء غير المتوقع.
تقدم جورج ببطء، خطواته تكاد توقظ الغبار النائم فوق الأرضية المصقولة.
الضوء الباهت المتسلل من خلف الستائر المخملية رسم على الرخام أشكالا غريبة، كأنها أطياف أهل القصر الذين غابوا ولم يعودوا و الجدران، بأقمشتها الموشاة وخشبها المعتق، بدت كأنها تمعن التحديق فيه، تستجوبه بصمت عن غيابه الطويل.
وقف طويلا أمام ساعة الحائط الضخمة، تلك التي لم يجرؤ أحد على إيقافها يوما، حتى حين خلا القصر من سيده.
كان صوتها يتردد في القاعة كنبض بطيء لقلب عجوز، لا يريد أن يعترف بالوهن.
كل دقة كانت توجع أذنيه، تذكره أن الزمن لم يرحمه.
عبر إلى القاعة الكبرى، حيث الثريات المعتمة، وسلاسلها النحاسية المتدلية مثل قيود تنتظر من يقيد بها من جديد. امتدت أنامله فوق سطح البيانو المغلق، فانبعثت من تحت غطائه رائحة قديمة، مزيج من الخشب والكآبة.
همس لنفسه:
«كم تشيخ الأماكن حين يهجر صخبها.»
في الزاوية، كانت المدفأة الضخمة بلا نار و نقشها الحجري بدا كوجه تمثال مشوّه، فاغر الفم، متلهف لأن يتذوق دفء جمرات لم توقد.
عندها لمح في المرآة الكبرى صورته، لكنها لم تشبهه.
رجل بثيابه الفاخرة، لكن عيناه موحشتان تحملان قسوة السفر، وغبار الليالي الطوال.
عند السلم المنحني، تدلى ستار من الغبار فوق الدرابزين ككفن، وخيل له أن القصر كله يرتدي حدادا صامتا.
ارتفعت نسمة خفيفة، حركت ستارة نافذة لم تغلق بإحكام، فأحدثت حفيفًا أشبه بوشوشة مؤامرة قديمة، حتى ضوء النهار بدا خائفا من اقتحام هذا المكان.
توقف، أغلق عينيه لحظة واستمع، لم يكن يسمع سوى تنفس القصر، صرير الأخشاب وخفقان قلبه هو وشيئا آخر خفيا… كأنه صوت ذكرى تطوف بين الأعمدة.
ثم جاء الصوت رقيقا وثابتا عميقا.
صوت والدته.
«كم من المرات تخيلت عودتك… ولم تكن إلا وهما.»
استدار ببطء نحوها، كانت تقف على عتبة القاعة، عالية الجبين و عيناها عاصفة لا تهدأ.
وقفت بشموخ نسر، بثوبها الداكن المطرز بالفضة، ينسدل حولها كليل لا ينقشع.
تأملها طويلا.
أجاب بنبرة بالكاد خرجت من بين شفتيه:
«كنت أعلم أن اللقاء سيأتي يوما… مهما طال الفراق.»
لم تتحرك من مكانها، لكن كلماتها انزلقت كحد السيف:
«اللقاء لا يعني الغفران… ولا عودة ما ضاع.»
اقترب خطوة، نظر في عينيها وكأنه يبحث فيهما عن بقايا أمومتهما الأولى:
«ومع ذلك عدت لتسمعيني، أو لتحاسبيني، لا فرق.»
رفعت يدها، كأنها تقطع عليه اعترافا لم ينطق به بعد:
«اسكت فالقصر استعاد ظله، دعنا نرى إن كان يستحقه.»
دار ظهرها، ومشت ببطء.
خيم الصمت من جديد، ولم يبق سوى وقع خطاها، يتردد في القاعات، يشبه نشيد وداع.
وجورج… وقف هناك والظلال تبتلعه أكثر.
خيم الصمت من جديد، ولم يبق سوى وقع خطاها، يتردد في القاعات يشبه نشيد وداع، يمتزج بأنين الأرضية العتيقة كأنها تودع رجلا غاب عنها دهرا.
وقف لحظة ينصت لذلك الصدى البعيد، ثم استدار بخطًى ثابتة صوب الجناح الغربي، حيث يقع مكتبه.
كانت الأبواب تفتح أمامه بصرير متهدج، كأنها تحذر الجدران من عودته.
دخله، فارتفعت رائحة الورق المعتق، والحبر الجاف والمجلدات التي ما زالت شاهدة على عهد لم يكتمل.
جلس خلف مكتبه العريض، لوحته الخشبية لم تفقد بريقها رغم الغبار، وللحظة لاح له انعكاس وجهه في زجاج المكتب.
لم ير سوى عينين غريبتين، تسائلتا:
أي جورج هذا الذي عاد؟
امتدت يده إلى الجرس النحاسي الصغير، وضغطه ببطء.
دوى صوته الرنان في الممرات كأن القصر كله قد صحا من غفلته واستفاقت ذاكرته.
لحظات وارتفعت طرقات خفيفة على الباب، تبعها دخول ثلاث شخصيات حمل كل منهم ثقل أعوامه وهمومه.
دخل مساعده القديم بثيابه الداكنة، ينحني في خجل لا يخلو من تحفظ، عينه تحوم بين الأرض وسيده يحمل في قسماته خوف الأيام القادمة.
ولج بعده الطبيب، طبيب العائلة بلباس بسيط، وجهه شاحب كمن لم يذق النوم منذ ليال.
أما الأخيرة، فكانت رئيسة الخدم العجوز، هامتها مرفوعة كأنها تصارع ضعف الجسد بصرامة الروح.
وقفوا جميعا أمامه، وظلالهم امتدت فوق البلاط كأنها شخوص أخرى تخفي ما لا يُقال.
تأملهم طويلا، حتى غدت أنفاسهم مسموعة في ذلك السكون الثقيل.
ارتجفت شمعة في زاوية الغرفة، فتراقص نورها فوق وجوههم وألقى الضوء المتماوج على الجدران صورا أشبه بالأشباح.
قطع السكون صوته، عميقا كأنه خرج من قبو صدره:
«دعوتكم لأن هذه العودة لن تكون صامتةو لكل واحد منكم عهد قديم لم يوف به بعد والآن… حان وقته.»
تبادل الثلاثة نظرات خاطفة، وكأنهم سمعوا في كلماته ما يخشونه.
ارتفع صوت الريح في الخارج، صافرا بين النوافذ، كأن الطبيعة تعلن بدورها أن العهد الجديد قد بدأ.
رفع بصره نحو المساعد، نبرة صوته ثابتة:
«كنت أنتظرك يوم الرحيل فلم أجدك، هل أطلب منك اليوم وفاء غاب حين اشتد الاحتياج؟»
المساعد خفض رأسه قليلا، وصوته بالكاد يسمع:
«لم أغب عنك عمدا، الحصار كان أشد من قدرتي و جئت أُكفر عن عجز حملته معي كل ليلة.»
جورج حول نظره إلى الطبيب.
الطبيب تنحنح بخفة، كأن الكلمات تثقل حلقه.
سكنت الغرفة لحظة، ثم التفت جورج نحو العجوز، عينيه ثابتتين:
«أما أنتِ، يا من ظننتك آخر ما ينكسر، فماذا بقي من ولائك؟»
رفعت عينيها دون وجل، صوتها كصوت الريح إذا هبط من الجبل:
«بقيت كما عهدتني، القصر لم يسقط لأنني كنت فيه و لا أنتظر ثناء ولا عتابا و أنفقت العمر بين هذه الجدران، ولن أبرحها حتى تنطق حجارتها وتشهد لي.»
جورج اعتدل في مجلسه، يده تستقر على سطح المكتب كمن يضع خاتمة لعهده القديم:
«لا أعيد الزمن، ولا أطلب تبريرا وقد دعوتكم لأقول إن القصر لن يبقى كما كان، من شاء أن يسير معي فليعلم أن الطريق ليس معبدا ومن أراد أن يرحل، فليرحل الآن قبل أن تشتد الرياح.»
لم يرد أحد.
وقفوا كما هم، وكل منهم يحمل قراره في صدره.
خلف النوافذ، تعالى عواء الريح، كأن الطبيعة باركت ما قيل.
ساد صمت قاتم بعد كلماته، صمت كأن القصر ابتلعه في جوفه، لا يسمع فيه إلا تنفس الجدران المتصدعة وارتجاف زجاج النوافذ تحت قسوة الريح.
حدق جورج فيهم، عيناه غائرتان، صوته خرج منخفضا لكنه غلف الحجرة بثقل لا يحتمل:
«اخرجوا… جميعكم، دعوا المكان يخلو من ظلالكم، فقد اكتفيت منها لهذا اليوم.»
لم يتحركوا للحظة، كأن الأرض شلت أطرافهم، ثم تراجع المساعد أولا، خطاه على الأرضية أصدرت خشخشة أشبه بحفيف أوراق جافة في مهب العاصفة.
الطبيب تبعه، خطواته مترددة كمن يخشى أن يدير ظهره لمن يعرف أسراره.
أما رئيسة الخدم ، فقد ثبتت قدماها لحظة، ونظرت إليه بعين صامتة لا تخضع ثم انحنت انحناءة خفيفة وغادرت.
وقبل أن تبتلعها العتمة، ارتفع صوته مرة أخرى، متينًا كسيف يشق الهواء:
«قفي يا هيلدا…»
توقفت عند العتبة، انتظرت أمره دون أن تلتفت.
«أبلغي الخدم أن يعدوا لي حماما ساخنا… أريد أن أغسل عني هذا الغبار اللعين… وأريده الآن.»
ارتجف مقبض الباب في يدها، واهتزت أرض الغرفة تحت صفير الريح، كأن القصر بأسره يبارك أمره أو يخشاه.
أجابته بنبرة اجتهدت ألا تخونها انفعالاتها:
«سيكون كما أمرت يا سيدي.»
ثم تلاشت خطا الجميع خلف الجدران، ولم يبق إلا صرير الريح وهو يقتلع السكون وأنين الخشب المتعب تحت وطأة الزمن ووقع قلب جورج، ينبض بثقل رجل عائد من منفى روحه.
جلس ببطء، أغمض عينيه وأصغى لذلك الضجيج الصامت الذي لم يفارقه أبدا.
هبت ريح أشد، صفيرها تسلل بين شقوق النوافذ، دفع اللهب في المصابيح ليرقصو و ألقى بظلال متكسرة فوق الجدران الملبدة بالغبار.
كان جورج قد غادر مكتبه إلى جناحه، يرافقه صدى خطواته الثقيلة كطبول حرب تخبو.
في جناح الحمام، انبعثت رائحة الأعشاب الساخنة، والماء ينسكب في المغطس الحجري بصوت متصل، أشبه بهمهمة نهر صغير يطوف ببطء بين صخور قديمة.
البخار بدأ يغمر الحجرة، يلتف حول الأعمدة ويلامس الزجاج البارد، حتى غابت معالم المكان خلف ضبابه.
وقف جورج، يخلع معطفه ببطء، كل حركة تصدر خشخشة قماشٍ ثقيل بدا كأنها تفضح ثقله النفسي لا ثقل الثوب فقط. ألقى بثيابه فوق الكرسي العاجي واقترب من الماء، انعكاس صورته على صفحته المرتعشة لم يزدها إلا غموضًا.
في تلك اللحظة، انفتح الباب بصمت متقن، دخل الخدم بهيئة أشبه بالظلال، يحملون المناشف و أوعية الأعشاب وأباريق الماء الساخن.
تقدمتهم فتاة بوقار عجيب، خطواتها ثابتة و عيناها لا تنظر سوى إلى ما بين يديها.
كانت ماري.
مظهرها بسيط لكنه يشي بالرصانة و ثوبها القاتم محكم، جدائلها معقودة بإتقان، وجهها بلا تعبير.
وقفت للحظة أمام المغطس، مدت يدها و سكبت ببطء مزيج العطر في الماء فتطاير عبقه، امتزج بالبخار وانتشر في الغرفة كوشوشة ذكرى قديمة.
لم يلتفت جورج، ولم يمنحهم حتى نظرة عابرة.
هو غارق في صمته، في أصداء الغياب الطويل.
انسحبت كما دخلت، خطاها فوق البلاط أصدرت نغمة خافتة أشبه بنبض قلب كاد يضيع بين هدير الماء وأنين الريح خلف النوافذ.
ظل جورج وحده، غاص في الماء وأغمض عينيه.
لوهلة خيل إليه أن البخار يبتلعه، كما ابتلعه هذا القصر العتيق وكما ابتلعته الغربة حين خانته الأيام.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 منتدى المانهوا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 منتدى الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 5 - عودة الغائب إلى عرينه منذ 20 ساعة
- 4 - عتمة لها صوت منذ 3 أيام
- 3 - حين هربت الأشجار 2025-07-01
- 2 - المظلة التي لم تغلق 2025-06-29
- 1 - قبل أن أعرفني 2025-06-28
التعليقات لهذا الفصل "5"