4
ظلت يدها معلقة في الفراغ، ترتجف على مشارف زر الإضاءة، غير قادرة على المضي قدما أو التراجع، كأن المسافة الفاصلة بين إصبعها والضوء لم تكن سوى حاجز خفي بين عالمين:
ظاهر مألوف ومستور لا اسم له.
لم تتنفس، أو لعل النفس قد انحشر في رئتيها فلم يصعد ولم ينزل.
بدت كأنها صارت تمثالا من رخام، لا تسري فيه الحياة إلا من عينيها، اللتين لم تزيغا البصر عن الخزانة الماثلة في الطرف القصي من الغرفة.
الخزانة… لم تصدر صريرا، لم تتحرك ولكن النفس الذي خفت، عاد ينبعث ببطء، كأن ثمة كائنا يتربص خلف الأبواب يستأنف رقابته عليها كصياد عجوز يتحين لحظة الوهن في فريسته.
دارت اللحظة دهرا.
مرت دقيقة… أو قرن من الانتظار المبلل بالوجل.
ثم تردد في الغرفة صوت خافت، لا يشبه طنين الخشب ولا خرير الهواء، بل هو أقرب إلى همس هش يتسلل من خلف الباب الخشبي كأنه انبثق من جوف كائن لا ينتمي لهذا العالم.
كلمة واحدة نطقت، بل لفظت لفظا:
“أنت…”
انكمشت على ذاتها كما تنكمش الأغصان اليابسة في صقيع الشتاء.
انكمشت روحها قبل جسدها.
تراجع جسدها حتى التصق بالجدار البارد، وارتعد قلبها كجناح طائر جريح، يضرب صدرها ضربا كالمطرقة، لم تكن تصرخ، بل كانت تسمع كأنها تصغي لنبض النهاية.
ثم… عاد السكون.
ذلك السكون لم يكن راحة، بل كما الكمين… يخفي الخطر وراءه، يصالحك فقط ليُدميك في حين غفلة.
وبيد لم تزل ترتجف كغصن في مهب ريح ليلية، بلغت زر الإضاءة وضغطت عليه، فانفجر ضوء باهت في أرجاء الغرفة، ضوء لم يكن كافيا لتبديد ظلال الذعر، بل كصفعة بيضاء على وجه غارق في السواد.
الخزانة ما تزال مغلقة.
لا شيء خرج.
لكنها شعرت بكل خلية فيها، بكل نبضة مرتجفة في عروقها، أن شيئا قد دخل.
—
في صباح مشوب باللاطمأنينة، لم تتناول شيئا من الطعام، شهيتها أغلقت كما تغلق نافذة على عاصفة لم تمر بعد.
خرجت من مخدعها كخارجة من تابوت خشبي، إلى الرواق البارد حيث يقطر الضوء من زجاج النوافذ المعشقة ويمتد كأصابع راهبة تنذر بالصمت.
الهواء في أروقة القصر ندي، يحمل عبق الخشب العتيق والعزلة الطويلة.
سعت إلى الحديقة الخلفية، كمن يلتمس النجاة من كابوسٍ عالق في الذاكرة.
كان ماكس هناك.
مستلقيا تحت شجرة التين اليابسة، كأن جذورها تحتضن أسرارا مدفونة، يكتب بخط مائل في دفتر جلدي صغير.
خطواتها لم تخف حضورها، لكنها لم تستدع انتباهه ومع ذلك، أدركت يقينا أنه علم بوجودها منذ اللحظة الأولى.
قالت دون استئذان:
هل شعرت بشيء… غريب هذه الليلة؟
أغلق دفتره كما تغلق صفحة من الماضي ونظر إلى الأفق دون أن يرد التحية أو الالتفات.
قال ببطء، وصوت ينضح بقديم المعرفة:
الغرف القديمة في هذا القصر لا تنسى، يا ماري وبعض الأرواح لا تغادرها… وإن غابت أسماء ساكنيها.
سألته، وعيناها تحدقان في وجهه:
هل تعني أنك… رأيت شيئا؟
أجاب دون عجلة، بنبرة خافتة:
لم أر… لكنني لم أنم.
سكت كلاهما، ثم هبّت ريح خفيفة فتراقصت أوراق التين اليابسة تحت الأقدام وكأن الطبيعة ذاتها أرهفت سمعها لتصغي.
قالت فجأة، كمن يعترف:
كانت الخزانة… تتنفس، ماكس.
أجاب بصوت يشبه الصدى:
ماري انتي تتوهمين، نظرت إليه وجفلت.
هممم ، انسى الأمر.
نهض، ونفض عن كتفه بعض الغبار، وقال دون أن يلتفت:
لم تكوني أول من يسمعها.
ثم مضى، كما تمضي الظلال مع الغروب وترك خلفه الصقيع يتسلل إلى عظامها.
في ظهيرة رمادية باردة، تهامس فيها الضباب مع نوافذ القصر، تحركت الحياة أخيرا في الممرات الصامتة.
دقات الأحذية على الأرضيات العتيقة ورنة الفضة في أيدي الخدم وخفوت الأوامر المتبادلة، كانت تشي جميعها بأنّ حدثا ذا شأن على وشك الوقوع.
لقد عاد الدوق الشاب.
وإن يكن القصر قد أدمن الصمت، فإن اليوم قد شق فيه ذلك الصمت كما تشق التربة الصلبة بشفرة المحراث.
الساعات تقترب من الثالثة بعد الظهر، والضوء المائل للصفرة يخترق الزجاج الملوّن، يرسم أطيافا مرتعشة على جدران الرواق الطويل المؤدي إلى قاعة الاستقبال الكبرى.
في تلك اللحظة وقبل وصول العربة بوقت يسير، سمع وقع كعب هادئ، منتظم و قادم من الدرج الحلزوني في الجناح الشرقي.
رفع الخدم رؤوسهم، وتوقفت الخياطة عن تثبيت الياقة الأخيرة، حتى ساد القاعة سكوت كأن أحدهم أفرغ الهواء منها.
الدوقة ألكسندرا قد نزلت.
طويلة القامة و دقيقة القسمات، يكتنفها صمت لا يُكسر إلا بصوت خطواتها.
كانت ترتدي ثوبا بلون السخام الأزرق، تتدلى من عنقها قلادة يتيمة، تتوسطها جوهرة بنفسجية داكنة تلمع كعين ساهرة و شعرها مرفوع بإتقان، تعلوه شبكة دقيقة من الحرير الأسود، وصدرها يزهو بثبات لا يخل به الزمن.
كانت نظرتها قادرة على أن تسكت جدالا قبل أن يولد.
وقفت في منتصف القاعة، لا تتكلم و لا تأمر، لكن الجميع علموا أن عليهم الاستعداد، لأن ابنها الدوق الشاب سيرتب العالم من جديد عند وصوله كما أرادت دوما.
لم يكن أحد يعرف على وجه اليقين ما دار بينها وبين ابنها قبل أن يُبعث إلى الأكاديميات النائية في الشمال، ولا ما السبب الذي دفعه للغياب سبعة أعوامٍ كاملة و لكنهم الآن، ينتظرونه كما تنتظر العاصفة بهيبة وخوف، وشيء يشبه التوق المرضي للمجهول.
وفيما كانت العربات تعد في البهو الأمامي وقفت ماري في أعلى الدرج، متخفية خلف ستارة سميكة، تتأمل الدوقة بصمت.
رأتها لا تبتسم، لا تحرك شفتيها، لكن عينيها… كانتا ترقبان شيئا آخر، كأن حضوره لم يكن ما تنتظره بل شيئا أعمق و أبعد، شيء لا يدركه سواها.
كأنها شمت في ثنايا الهواء البارد، أثر الكائن الذي دخل، كأنها كما الخزانة… لم تكن نائمة.
دقت الساعة الثالثة.
وها هي العربة السوداء، مزينة بشعار العائلة، تدخل البوابة الخارجية تحت أنظار الخدم المصطفّين في فناء القصر. حوافر الخيول تقرع أرض الحصى الرطبة كأنها نذير، لا مجرد وسيلة وصول.
أُفتح باب العربة ببطء.
هبت نسمة باردة، غامضة المصدر، كأنها خرجت من العربة لا من الريح.
نزل منه شاب طويل القامة، بملامح دقيقة مصقولة، كانت عيناه بنيتين، لا بلون التراب أو الخشب كما يقال، بل بلون أعمق كأنهما حُفرتا من جمرة أخمدت على عجل وترك الرماد فيها خطوطا متقدة لا ترى إلا حين يطيل النظر، في عينيه وهج غائر، هادئ كالنار حين تتهيأ للانفجار، كأن شيئا حبيسا خلفهما، يتنفس ببطء ويعد الوقت للخروج.
لم تكن النظرة نارا، بل أثر النار، طيفها ذاكرة اشتعال لم ينطفئ بعد.”
كان يرتدي معطفا بلون الفحم، طويل الأكمام .
كان وجهه مألوفا، لكن فيه شيئا لم يكن فيه من قبل… كأن شيئا نزع منه، أو أُضيف إليه.
هو الدوق الشاب، جورج .
رفع رأسه ببطء، تنقلت عيناه عبر نافذة الطابق العلوي، كأنهما توغلتا في طبقات من صمتٍ ثقيل وأفق مكبوت، تستشعران ما لا يُرى ولا يُقال.
كانت النظرة سهما رفيعا يتسلل بخفاء بين ثنايا الظل، يفتش عن صدى مجهول في قلب الغياب، لم يكن مجرد تمرير للبصر، بل استطلاع حذر لبوابة غير معلنة، تحوي في أعماقها أسرارا مخضبة بصمتٍ دام.
عينيه، التي تكسوها صفائح معدنية تحمل وهجا مكتوما، كأنها سجينة غيمة من لهب مدفون، ترقب لحظة الاندلاع دون أن تفصح عن مقصدها.
ثم سار بخطى بطيئة نحو الدوقة الكبرى، والدته.
لم تبتسم ولم تفتح ذراعيها.
بل اكتفت بأن قالت، بصوت ناعم كالسكاكين المُغلفة بالمخمل:
“لقد تأخرت جورج.”
فانحنى لها ببطء، وأجاب بصوت متهدج، كأنه لم يستعمله منذ دهر:
“أعرف… لكني لم أكن بعيدا، كما تظنين.”
لحظة صمت.
عين الدوقة لم ترمش، قالت وهي تستدير:
“وأنا لم أظن قط.”
ثم مشيا معا إلى داخل القصر، وسط أنظار الخدم الذين اعتقدوا أنهم يشهدون عودة الغائب من رحلته.
لكن الحقيقة كانت أقدم من الغياب… وأعمق من العودة.
كان هذا الاستقبال بكل ما فيه من شكليات ونظرات جامدة ومصافحات باردة مجرد واجهة.
استعراض مسرحي يليق بالعائلات النبيلة، لإرضاء أعين الصحافة والمجتمع، لا أكثر.
لأن الدوقة تعرف.
لقد ظل شعورها، كما شعور الأمهات في الأزمنة المنسية أن ابنها قائم بين أروقة القصر، لا يزال طيفه مستظلا بجدرانه.
بل لعل ذلك الذي خرج من العربة… لم يكن ابنها تماما.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 منتدى المانهوا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 منتدى الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 5 - عودة الغائب إلى عرينه منذ 12 ساعة
- 4 - عتمة لها صوت منذ يومين
- 3 - حين هربت الأشجار 2025-07-01
- 2 - المظلة التي لم تغلق 2025-06-29
- 1 - قبل أن أعرفني 2025-06-28
التعليقات لهذا الفصل " 4"