3
في الحلم، لم تكن فتاة ناضجة ولا مراهقة… بل مجرد طفلة صغيرة، بعينين واسعتين لا تحسنان الدفاع عن النفس، كانت واقفة على أطراف الغابة، حذاؤها مبلل وثوبهامبقع بالتراب.
الشمس تميل نحو الغروب، والأشجار خلفها كأنها كائنات حية تهمس فيما بينها، تختبئ خلف أوراقها أسرارا لا تفصح.
ثم تذكرت:
هربت.
نعم، في ذلك اليوم، ركضت خارج المنزل، لم يكن هناك سبب واضح، لا صراخ و لا تهديد فقط حاجة مباغتة للهروب.
رغبة فطرية في أن تختفي عن كل العيون، أن تختبئ في مكان لا يعرفه أحد، كأن قلبها الصغير لم يعد يحتمل الثقل، أو أن البيت ضاق بها حتى لم يعد فيه موطئ لألمها.
دخلت الغابة وكأنها تلبي نداء لا يسمع، جلست عند جذع شجرة مجوفة وراحت ترسم على التراب دوائر بأصابعها ثم حل الليل، والبرد ولم تأت أمها، ولا ناداها أحد.
في الحلم، بدا وجه ماكس كما تتذكره مغبشا، عيناه فيهما ذهول طفل يجد صديقه ممددا على التراب.
لم ينطق بكلمة.
وقف هناك، مرتبكا كأن وجوده بحد ذاته كان غير مصدق، مد يده ثم اختفى الحلم…
وصوت والده ارتطم بجدار الحلم كصفعة
“ألم أخبرك ألا تكوني عبئا؟”
يد ضخمة أمسكتها من كتفها، هزت بعنف ثم صفعة.
لم تبك آنذاك.
ليس لأنها تمتلك جلدا سميكا، أو قلبا معتادا، بل لأن الوجع جاء على هيئة شيء آخر، شيء لم يدرج بعد في قاموس الألم، كانت الضربة غريبة الوجه، بلا اسم، بلا تاريخ.
لم تستوعب أن الأب قد يرفع يده، أن الجدار الأول الذي احتمت به يوما،قد يتحوّل فجأة إلى رصيف بارد، لا يسند، لا يعتذر.
لم تفهم ما حدث تماما.
كأن شيئا ما في الداخل انكسر دون صوت،
كأن طفلة كانت تركض فيها توقفت فجأة، وجلست على الأرض تنظر حولها بدهشة، لا دموع في عينيها… فقط أسئلة.
لم يكن البكاء مخرجا حينها، لأن القلب لم يصدق والذاكرة تلكأت في أرشفة المشهد.
كيف تسجل لحظة حين تكون يد الحنان هي الضربة؟ وحين يصبح الجرح من داخل السور، لا من خارجه؟
كان الصمت هو اللغة الوحيدة المتاحة.
صمت يشبه اتساع الصحراءجاف، خال، ممتد ولا أحد فيه يصرخ.
فتحت عينيها ببطء، والسماء ما زالت معلقة فوقها بنفس الفراغ، نظرت إلى أصابعها، لا زال الطين تحت أظافرها، رغم أنها غسلت يديها آلاف المرات منذ الطفولة، لقد كانت تشعر أنها لم تخرج من الغابة يوما.
لا تزال هناك.
لكن الزمن لم يُبقِ منها سوى ملامح امرأة تشبه ما كانت عليه، رفعت رأسها قليلا ببطء يشبه الاستيقاظ من حلم ثقيل.
أطراف نظرتها لامست نافذة الطابق العلوي، نافذة قديمة بلا ستائر بلا دفء.
خلفها، في الأعلى ربما كان والدها يفتش في مذكرات باهتة، أو يعد أقراصا بيد لا ترتجف أو يهرب، كما تفعل هي،من أشياء لا اسم لها.
وماكس…
ماكس كان هنا أيضا.
في مكانٍ ما من الجوار، يقرأ كتابا لا يعنيه أو يحدق في الفراغ كعادته، كأنما يبحث عن صوته في سكون الأشياء، لكنها لم تلتفت إليه.
ليس بعد، لأن بعض الالتفاتات تشبه السقوط.
ذلك الحلم، تلك الذكرى، لم تكن حلما كاملا ولا يقظة بل جرح يقرر أن ينزف دون موعد وللمرة الأولى، أدركت ماري أن ما كسر فيها لم يكن من الغرباء، بل من أقرب الناس.
ومن يومها، كانت تصمت ليس لأنها لا تملك ما تقول، بل لأن لا أحد كان مستعدا لسماع ما تقوله الطفلة التي تاهت يوما… وعادت مكسورة، جلست عند مائدة الإفطا بعد أن استعادت وعيها على نحو غائم.
الشمس كانت تخترق النافذة، تسقط على وجهها كأصابع بلا دفء، الفنجان أمامها لم تمسه ولا رغيف الخبز تحرك.
دخل والدها، يحمل بين يديه ملفاتٍ طبية كما اعتاد كل صباح، عيناه عينا رجل اعتاد الطوارئ أكثر مما اعتاد الوجوه؛ يقيس العلامات الحيوية، لا الانفعالات.
توقف لحظة عند باب المطبخ، تأملها كمن يُعاين مريضا لا ابنة.
ثم جلس أمامها، دون أن يطرح سؤالا واحدا:
لا عن نومها ولا عن صحتهاولا عن ذلك الصمت الذي استقرّ في ملامحها.
قال بصوت جاف، خال من النبرة:
“أنت مستيقظة باكرا اليوم.”
لم ترفع عينيها، كانت تحدّق في خيط الشاي الباهت وهو يلتف داخل الكوب، كأنها تراقب دوامة لا تنتهي، أو كأنها تنتظر أن يغرق شيء ما فيها.
أجابت، بعد صمت:
“لم أنم جيدا.”
ارتفع حاجباه قليلا ثم هز كتفيه، كأنما لا أهمية لما قيل.
تناول بعض الأوراق، قلبها بهدوء طبيب يعرف جيدا كيف يتهرب من الأسئلة، ثم علق:
“الهروب من النوم عادة سيئة في اللاوعي، تتكدس أشياء لا ندري متى تفيض.”
سكتت.
لكن شيئا في قبضتها المرتجفة على الكوب، وفي نظرتها الثابتة، كان يقول
“لقد فاضت الأشياء بالفعل.”
سألته، بنبرة لم تكن اتهاما بل حفرة مفتوحة:
هل كنت تتذكر… ما حدث في الغابة؟
توقف عن تقليب الأوراق. “عن الأب”
لم يبد عليه الارتباك، بل نوع من التجاهل الذي تدرب عليه جيدا و تنفس ببطء، ثم قال وهو لا ينظر إليها: كنت طفلة عنيدة.
كدت تموتين.
هزت رأسها، وكأنها تفكر بصوتها
أنا لم أكن خائفة..الغابة لم تؤذن، أنت من…لم تكمل.
هو أيضا لم ينتظر، فقط نهض، جمع أوراقه، ثم ألقى جملة كأنها نهاية محكمة:
بعض الذكريات لا تصلح للمضغ، دعيها تتعفن وحدهاوغادر.
ظلت ماري وحدها، تنظر إلى الطاولة كأن فيها شبحا.
الصفعة لم تذكر، لكنها حضرت جدران البيت ضاقت مرة أخرى والهواء امتلأ بما لا يقال.
بعد الظهيرة، وجدت ورقة في جيب معطفها القديم، بخط يد مألوف
“أحيانا، الجروح التي ننساها تنام فينا كذئب هادئ… حتى نوقظه نحن بجهلنا.”
لم توقعها، لكنها عرفت أن الخط لماكس.
ذلك الذي رأى في الغابة ما لم يره والدها قط.
في المساء، كانت السماء تميل نحو زرقة ثقيلة، كأنها تأبى المغيب.
خرجت ماري إلى حافة الحديقة الخاصة بالقصر الذي تعمل به ، لم تعرف لماذا، فقط شعرت أن الهواء في الداخل لم يعد يطاق و كان الصمت يخترق كل شيء، سوى أصوات نادرة من الحي البعيد.
تقدمت نحو البوابة الصغيرة التي لا تستخدم عادة.
الحديد فيها قديم، مطلي بلون ميت، والسلسلة التي تلفها صدئة، لكنها وجدت السلسلة مفتوحة، مربوطة إلى جانبها.
توقفت.
من فتحها؟ لا أحد يستخدم هذه الجهة.
حاولت أن تقنع نفسها أنه خطأ بسيط، لكن قلبها لم يصدق.
شعرت بشيء غريب، كأن الباب لا يؤدي إلى الخارج، بل إلى شيء آخر… مكان غامض، أو لحظة لم تأت بعد.
وقفت هناك، تراقب الطريق الممتد خارج المنزل بين الأشجار الراكدة ،لم يكن هناك أحد، ومع ذلك أحست أن أحدهم مرّ من هنا. لا صوت، لا ظل، فقط أثر…
كأن الهواء تغير، كأن شيئا غير مرئي مر عبرها.
ارتعش كتفها دون برد، التفتت عائدة نحو الداخل لكن قلبها بقي هناك، معلقا عند البوابة المفتوحة، كما لو أن شيئا في الخارج قد ناداها… بصمت.
في الليل، لم تستطع النوم، لم يكن حلما ولا ذكرى، بل يقظة زائفة، أحست خلالها أن نافذتها ليست وحدها في العتمة.
شيء ما فيها تغير.
قامت من سريرها، اقتربت منها بحذر، وفتحتها قليلا.
لم تجد شيئا.
لكنها لم تكن وحدهاو أدركت ذلك يقينا، لا بسبب صوت بل بسبب سكون مريب، إحساس يصعب شرحه… كما لو أن روحًا أخرى تشاركها الغرفة.
أغلقت النافذة ببطء، وهمست:
“ربما أتخيل فقط…”
لكن الشك يندس بين كلماتها، كأن عقلها يمشي حافيا في ممر طويل، يتحسس جدران الظن ويصغي لصوت لا يأتي من الخارج.
تجلس كمن يحمل في عينيه سؤالا لا يقال، ملامحها تنصت أكثر مما تُعبّر، والارتباك ينسدل من جفنيها كما ينسلّ الماء من أطراف الثلج.
عيناها لا تركزان في شيء، كأنهما تتلمسان وجودا لا يُرى، وجبهتها تعلو وتنخفض، كأن أفكارا تطرق باب الوعي وتنسحب دون إذن، تحاول أن تقنع نفسها بالسكينة لكن القلب يقاوم والنفس تسترجع شيئا لا تملكه الذاكرة.
الهواء يمر على رقبتها كأنفاس ليست لها، والبرودة تتسلّل من تحت الجلد، كأن جسدها يستشعر حضورا لا يلمسه أحد.
الستائر ترفرف بهدوء، لكن عينيها تراقبانها كما يراقب شيء حي يتنفس من غير صوت.
في الصباح، وجدت شعرة سوداء على طرف وسادتها.
هي لا تملك شعرا أسود ولم يزرها أحد، تأملتها طويلا ثم رمتها في الدرج وأغلقته بعنف.
بعدها جلست تكتب في دفترها:
“ثمة شيء يقترب… لا أراه لكني أشعر به، كأن الجروح تعرف يد من صنعها وأخاف أنه قد عرفني… قبل أن أعرفه.”
كانت ليلة اليوم الثاني، لكنها لم تكن مجرّد تكرار لليلة سابقة…
بل كأن شيئا ظل يقظا منذ الأمس، ينتظر نومها ليقترب أكثر.
غفت متأخرة، يُثقلها الصمت، ويربكها ما لا يسمى.
النوم لم يأت دفعة واحدة، بل تسلل إليها متقطعا، كمن يخطو فوق زجاج الوعي… حافيا.
ثم فجأة، استيقظت.
الظلام يملأ الغرفة، والساعة تشير إلى الثالثة وسبع دقائق، لكنها لا تنتبه للوقت، بل لما هو أثقل من الزمن.
نفس غريب ليس لها، يتردد في الغرفة ببطء… كمن يستكشفها بأنفاسه، ينبعث من جهة واحدة فقط… من الخزانة المغلقة.
تجمدت في مكانها.
عيناها تراقبان الباب الخشبي كما يراقب فم مغلق يخفي اعترافا.
النفس لا يتسارع لا يضطرب، بل يدور… ينساب في الهواء حولها، كمن يتحرك دون أن يرى.
تحاول أن تقنع نفسها أنه وهم، لكن جلدها يتوتر وظهرها يرتجف كما لو أن عينا ما تلامسه دون أن تلمسه.
عندما مدت يدها نحو المصباح الجانبي، توقف النفس فجأة كأن الكائن الذي خلف الباب قد شعر بها.
تذكير :”احداث الغرفة في القصر الذي تعمل به البطلة والذي يعمل به والدها “
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 منتدى المانهوا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 منتدى الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 5 - عودة الغائب إلى عرينه منذ 20 ساعة
- 4 - عتمة لها صوت منذ 3 أيام
- 3 - حين هربت الأشجار 2025-07-01
- 2 - المظلة التي لم تغلق 2025-06-29
- 1 - قبل أن أعرفني 2025-06-28
التعليقات لهذا الفصل " 3"