حين مالت شمس المغيب على نوافذ قصر آل ألدرايث، واشتعلت القباب بالذهب الموشّح بظل الغروب، توقفت عربة الأميرة لورين عند أبواب قصر آل ألدرايث، انحنى الحرس بتحيّة ملكية وارتفعت البوابة ببطء مهيب كأنها تعلن دخول الضيف الكريم.
تقدمت الأميرة بخطوات واثقة، غير أن عينيها كانتا تبحثان عن وجه غائب.
فلم تجد جورج.
غاب حضوره، تاركا القاعة الفسيحة موحشة رغم زخارفه، وما هي إلا لحظات حتى ظهرت الدوقة الكبرى ألكسندرا ألدرايث، متلفعة بوقارها، شامخة على درجات السلم الموشّح بالبساط القرمزي.
وقفت كأنها ظلّ القصر وروحه، ثم ألقت تحيّتها بصوتٍ يجلجل كجرسٍ عتيق:
جلالتكم، الأميرة لورين، أهلا بقدومكم إلى رحاب آل ألدرايث.
إن القصر ليزداد رفعة بزيارتكم، وإن غاب عنه وريثه اليوم.
أجابت لورين بإيماءة رفيعة خفيفة بالرأس، لا تنقص من سموّها، بل تفيض بوقار ملكي.
وضعت طرف يدها على صدرها برشاقة، ثم قالت بصوت متأن يليق بالمجالس الرسمية:
ــ يشرفني لقاؤكم، صاحبة السمو الدوقة الكبرى، إنما جئت ألتمس حديثا مع نجلكم الموقر، غير أن الغياب سبقني، وتركني أستجدي أثره بين هذه الجدران العتيقة.
اقتربت ألكسندرا بخطوات رصينة حتى جلست على مقعد مرتفع، كأنها تجلس على عرش ثان داخل القصر.
ارتسمت على محياها ابتسامة دقيقة لا تخلو من البرود، وقالت:
اللورد جورج، يا أميرتي، ليس من يُدرك بالموعد ولا من يُستحضر بالنداء.
هو رجل تحكمه طباعه ومسؤولياته كدوق أكثر مما تحكمه الأعراف.
وإن غاب عن أعينكم اليوم، فهو حاضر بأثره، كالبحر الذي لا يرى كله، لكنه يُشعر بمدّه وجزره.
أطرقت لورين قليلا، وخفت صوتها كهمس راق:
ومع ذلك، أيتها الدوقة، فإن الغياب حين يتكرر يثقل على القلب أكثر مما يفتحه على الأمل، أليس في أعماق البحر جزيرة خفية تنتظر من يرسو إليها؟
نظرت ألكسندرا في عيني الأميرة وفي بريقها انعكاس كبرياء الإمبراطور سابقة ديانا، ثم أجابت بنبرة عميقة:
ــ قد يكون هناك شاطئ، وقد لا يكون.
لكن تذكري، يا جلالتك، أن من يقترب من البحر بغير حذر، قد يضيع في غموضه.
وإن كان لجورج أن يمنح حضوره، فلن يمنحه إلا حين يشاء القدر.
ثم رفعت لورين رأسها بإباء أميري، وقالت بصوت يقطر وقارا:
إذن، سأترك الجواب للأيام، وأمضي وفي صدري رجاء لا يكتمل.
ابتسمت ألكسندرا ابتسامة خفيفة، أشبه بخاتمة معلقة:
هكذا هي سيرة آل ألدرايث، يا أميرتي صغيرة لا يمنحون اليقين، بل يتركون للزمن أن يكشف أوراقه.
وما إن همّت الأميرة لورين بالقيام من مجلسها، حتى دوّى في أرجاء القاعة وقعُ خطوات ثابتة، ينساب كجرسٍ عميق بين الأعمدة العالية.
التفت الجميع، فإذا باللورد جورج ألدرايث يدخل، متشحا بسواد سترته الرسمية، تتدلى من جيبه سلسلة فضية وعيناه الباردتان تلمعان كوميض الحديد تحت ضوء الغروب.
وقف لحظة عند العتبة، وكأن حضوره وحده كفيل بأن يملأ الفراغ الذي اشتكت منه الأميرة قبل قليل، ثم تقدم بخطوات واثقة حتى بلغ حيث جلست والدته الدوقة الكبرى والأميرة لورين.
قال بصوت رزين و هادئ النبرة، لكنه يخفي حزما لا يقبل الجدال:
ــ حضرت جناب الأميرة، لم أُرد أن يكون لقاؤنا مؤجلا، لكن الأقدار شاءت أن تسبقني أشغالي و أرجو أن يقبل قلبك ما يرفضه الانتظار.
نظرت لورين إليه، وفي عينيها بريق من ارتياح مكبوت، ثم أجابت بلغة رسمية:
ــ حضورك، يا لورد ألدرايث يعيد للقاء وزنه، كنت أظن أن القصر لا يجاوبني سوى بصدى الغياب، فإذا بك تحضر كجواب مؤجل.
أشارت الدوقة الكبرى ألكسندرا إلى المقاعد المزخرفة، وقالت بصوتٍ تملؤه السلطة:
ــ اجلسوا، فالقصر يليق بأن يشهد حوارا جامعا بين الدم الملكي والدم الدوقي.
جلس جورج بجوار والدته، مقابلا للأميرة لورين واتكأ بخفة هادئة، ثم قال بعد لحظة صمت:
الأميرة محقة، الغياب حين يتكرر قد يثقل على القلب و لكن أحيانا الغياب يكون لغة أخرى، تقال كي لا تقال الكلمة خطأ حضرت دوقة الأم.
سكت قليلا، ثم أضاف بنبرة أكثر عمقا:
لو كنت حاضرا دائما، لفقد اللقاء قيمته، لكنني أؤمن أن ما يجيء نادرا، يترك في الروح أثرا لا يمحى.
تأملت لورين ملامحه، ثم قالت بهدوء:
ـكلماتك، يا جناب دوق جورج، كأنها توازن بين العتاب والعزاء ،لكن هل تظن أن الزمن يمنحنا دائماً فرصة الانتظار؟
ابتسم جورج ابتسامة خفيفة، لا تخلو من الغموض، وقال:
الزمن لا يمنح يا حضرت الأميرة … بل نحن من ننتزع منه ما نريد.
نظرت الدوقة الكبرى إلى الاثنين وبريق الكبرياء في عينيها يتأرجح بين الحزم والحنو، ثم ختمت بلهجة رسمية قاطعة:
-إن حضور جلالتكم بيننا ليس طارئا، بل لقاء يعنى به ويسجل في موضعه.
ساد صمت عميق وكأن القاعة نفسها تصغي لوقع الكلمات، بينما جلست الشخصيات الثلاثة كلوحة مرسومة، تتقاطع فيها الهيبة بالغموض والحقيقة بالانتظار.
اعتدلت الدوقة الكبرى ألكسندرا في جلستها، وقالت بوقار مهيب:
ــ فسأدعكم لوحدكم إذا، لنجلي اللورد جورج شرف مرافقتكم في البارلور، ريثما أنصرف لبعض شؤون القصر.
ثم نهضت بخطوات رصينة وانسحبت في سكون، تاركة المجال لحديث لا يشهده سواهما.
وقف جورج عند شرفة البارلور، غليون بين أصابعه، والظلال المائلة للشفق تتكسر على كتفيه كما لو أنها تنصهر في هدوئه.
كان صوته حين تحدث إلى الأميرة لورين منخفضا، لكنه يفيض بصرامة متزنة، أشبه برجل لا يقيم للحياة إلا بقدر ما تكشفه من حقائق:
ــ الحياة يا جلالتك، ليست كما يرويها الشعراء ولا كما تُصاغ في بلاطات الملوك.
إنها أشبه برقعة شطرنج؛ كل خطوة محسوبة وكل غفلة قد تكون خسارة كاملة.
تأملها بنظرة صافية، تلك النظرة التي تجمع بين صرامة العزيمة وهدوء البصيرة، ثم أضاف:
ــ المرء لا يملك أن يعيش حياة مثالية، لكنه يستطيع أن يجعلها موزونة و متماسكة، حتى لو كلّفه الأمر بعض الألم.
ــ وربما في الألم معنى لا يراه إلا من جرب أن يقف وحيدا.
ساد بينهما سكون ثقيل، لم يقطعه سوى تنفس جورج المتأمل، والدخان المتصاعد من بين أصابعه.
وعلى حين غفلة، التفتت عيناه نحو الحديقة السفلية، فوقع بصره على ظل أنثوي يتحرك بخطى مسرعة.
كانت ماري لقد عادت من المعهد.
مضت بخفة، لا تلتفت إلى القصر، بل اتجهت مباشرة نحو البيت الصغير الملحق بالبستان، كأنها تسابق الليل قبل أن يطبق على المكان.
بقي جورج يتابعها لحظة بعينيه الهادئتين، ثم التفت إلى الأميرة برباطة جأش و ابتسم ابتسامة باهتة، أعاد معها الهيبة إلى المجلس لكي لا تدرك لورين أن نظره لم يخرج عن دائرة حديثهما قط وقال بهدوء مقتضب، كمن يحكم الخاتمة:
بلى، صدقتي يا جناب الأميرة .
أسدل جفنيه لحظة قصيرة وأعاد الغليون إلى طرف شفتيه تاركا الدخان ينساب في فضاء الغرفة.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
🧿فصل جديد