كان صباحا رماديا تتثاقل فيه الغيوم على سماء البلدة، والمطر ينساب متتابعا فوق الأسقف الحجرية، كأنه يعزف لحنًا لا ينتهي.

الرائحة العذبة للتربة المبتلة ملأت البيت الصغير، فأيقظت في ماري شيئا من الذكريات التي فضّلت نسيانها.

جلست قرب النافذة الخشبية، تحدق في الطريق الخالي وقد تحول إلى مجرى ماء ضيق وعيناها تغوصان في ضباب داخلي أشد كثافة من السحاب.

دخل ألبرت، يحمل بيده ظرفا مختوما بختم الأكاديمية العليا.

وضعه أمامها على الطاولة وهو يقول بنبرة لم يخل منها التردد:

“لقد وصل هذا باسمك.”

أخذته بتوجس، مزقت الغلاف ببطء وقرأت الأسطر الأولى.

شعرت ببرودة تسري في أطرافها، ثم رفعت بصرها إلى والدها:

“إنهم… يطلبون عودتي إلى الدراسة.”

ظل ألبرت واقفا، عيناه لا تخفيان دهشته:

“أمر غريب؟ بعد هذا الانقطاع الطويل… لم أطلب شيئا ولم أناشد أحدا، كيف حدث هذا؟”

لم يكن عنده جواب، ولم يكن عندها سوى أسئلة تتزاحم. وضعت الورقة على الطاولة وأسندت وجهها إلى كفيها، تستمع لصوت المطر وهو يطرق النافذة بعناد.

كأن الرسالة هبطت من السماء نفسها، مثل قطرة ماء تسللت فجأة إلى روحها.

قال ألبرت بعد صمت:

“قد يكون أحدهم رأى أن مكانك هناك في القاعات، لا هنا.”

ابتسم بمرارة، ثم غادر الغرفة تاركا ماري وحدها مع الورقة ومع فراغ يتسع داخلها.

كانت تعلم أن لا أحد من معارفها يملك سلطة ليفتح لها هذا الباب.

من يكون إذن؟ وما الغرض من هذه العناية المجهولة؟

عادت إلى النافذة، تسند جبهتها إلى الزجاج البارد.

المطر في الخارج لم يتوقف، يراقب الأرض بصبر كما لو أن هناك عينا خفية لا ترمش، ترصد خطواتها دون أن تراها.

لم يخطر ببالها أن خلف هذه الجدران في القصر البعيد، يقف جورج أمام نافذته هو الآخر، يطيل النظر إلى الطريق المؤدي إلى بيتها.

لم يكتب اسمه في الرسالة، لم يترك أثرا يدل عليه، لكنه اكتفى بأن يفتح لها بابا من بعيد ثم ينسحب إلى صمته.

ذلك النوع من الاهتمام الذي لا يعلن الذي يشبه المطر، لا يستأذن و لا يرى لكنه يتسلل إلى الأعماق حتى يترك أثره.

ماري أغلقت الظرف وضمت الورقة إلى صدرها لحظة قصيرة، ثم همست لنفسها:

“لا أعلم من فعل هذا… لكن المطر اليوم أثقل صدري بما لا أفسره.”

المطر في الخارج ينساب بعناد، يخلق طبقة من الضباب على الزجاج، لكنها لا تمنع ماري من أن تشعر بشيء غريب في الجو.

عند نافذة القصر الكبير يقف الدوق الشاب ، عيونه ثابتة لا تبارح المشهد كمن يزن كل شيء حوله بميزان خفي.

صمته ليس حيادا، بل يقين بارد بأن ما يراه ملك له وأن لا شيء يفلت من قبضته، لا بالغياب ولا بالمسافة.