اندفع النهار على المدينة كطوفان من نور حارق، يجرد الظلال من ملاذها الأخير.
في القصر، كان الهواء أثقل من العادة كأن الجدران نفسها تعلم أن حدثا جللا يصاغ في الخفاء.
طَك… طَك… طَك.
وقع خطوات سيباستيان شق الصمت، حتى بدا كالمطرقة تهوي على صدر ماكس.
وقف أمامه، أخرج من جيبه رسالة مختومة وقال ببرود لا يترك مجالا للاعتراض:
“صدرت الأوامر، ستغادر المدينة فورا، انتقال إلى مقر آخر… لأجل المصلحة العليا.”
ارتعش قلب ماكس، التقط الورقة، قرأها مرارا والحروف تتوهج كجمر على صفحة بيضاء: انتقال – فوري – ضرورة.
رفع عينيه بحدة، لكن صوته خرج مترددا، محاصرا:
ــ “لماذا أنا… في هذا الوقت؟”
سيباستيان لم يرمش، أجاب بجملة قصيرة كالسيف:
“لأنك الأقدر… ولأن هذه المدينة لم تعد لك.”
كلمات قليلة، لكنها انغرست في أعماقه كخناجر صامتة.
ابتسم ماكس ابتسامة مرة، ثم استدار إلى غرفته.
جلس على طرف السرير، يفتح خزانته بيدين ثقيلتين.
بدأ يجمع أمتعته بنفسه، قطعة بعد قطعة والحقائب تبتلع صوته وكأنها توثق لحظة النفي.
شَرشر… طَق… طَق… صوت الثياب وهي تطوى.
صوت القفل وهو يغلق، أصوات صغيرة لكنها كانت في داخله كالطبول الثقيلة.
لم يطلب عون الخدم.
كان يريد أن يحمل وزر الرحيل وحده، كمن يوقع اعترافا بجرح لا يشفى.
كل شيء كان مرتبا بإحكام: الرسالة، الأوامر حتى الصمت الذي يلف سيباستيان وهو يراقبه من بعيد.
وحين فرغ، أمسك حقيبته بيده ونظر عبر النافذة إلى المدينة التي تلمع تحت الشمس، كأنها مرآة تخبره بأنها لم تعد له.
تمتم وهو يضغط الرسالة حتى كادت تتفتت:
“أهذا مجد أبعث إليه… أم نفي أُساق إليه؟”
كان النهار يوشك أن ينحني لثِقل الغيوم، والحديقة المحاذية للمنزل تبدو ساكنة كأنها تحبس أنفاسها. أوراق الأشجار كانت ترتجف بصوت يشبه الهمس، كأنها تتواطأ مع القدر الذي فُرض على ماكس.
ماري وقفت عند الممر الحجري، فستانها الكحلي الداكن يلتقط رمادية السماء ويضاعف قسوة الموقف.
لم يكن في هيئتها أي أثر لأنوثة رقيقة أو دفء؛ بل كانت كتلة صامتة، عينيها تحاولان أن تتركا أثرا من الدموع لكنهما عجزتا، كما لو أن الدموع جمدت عند أطراف القلب.
ماكس، وهو يحمل حقيبته بنفسه، بدا وكأنه ينتزع جزءا من ذاته مع كل خطوة.
حين لمحها، توقف.
لم يجرؤ على الاقتراب مباشرة؛ فقط نظر إليها وكأن النظرات وحدها تستطيع أن تقول ما لم تسمح به الكلمات.
اقتربت ببطء، وصوت خطواتها على الحصى كان أشبه بنبض يوشك أن ينكسر.
ثم قالت، بصوت خفيض لكنه واقعي، بلا تصنع:
إذن… لن تعود؟
ارتعش الهواء من صدى السؤال وكأن الحديقة بأكملها تنتظر الجواب.
ابتسم ماكس ابتسامة مشروخة، ثم رد وهو يحاول أن يبدو ثابتا:
الأمر ليس بيدي قيل لي إن وجودي هنا صار خطرا… و علي أن أرحل في مهمة ولو مؤقتا.
رفّت جفونها، ثم نظرت إلى السماء كمن يبحث عن مخرج وهمي.
لم تقل شيئا.
كان الصمت نفسه مشهدا تراجيديا، أثقل من أي بكاء.
اقترب منها أخيرا، حدّق في ملامحها المتجمدة، ثم قال كمن يخاطب ظله:
لا تبكي من أجلي حتى وإن استطعت، البكاء لا يغيّر وجه الريح.
لكنها لم تبك، ولم تحرك شفتيها.
كانت ماري مثل تمثال مأسور، فستانها الغامق يذوب في ألوان النهار المحتضر.
رفع ماكس حقيبته، وأدار ظهره.
ومع كل خطوة كان صوت الحصى تحت قدميه يشبه دقات طبول جنازة بطيئة.
ماري بقيت في مكانها وعيناها تتبعه عاجزة عن إيقافه، عاجزة حتى عن الانهيار.
وفي تلك اللحظة، بدا وكأن السماء، التي لم تشرق ولم تمطر، صارت مرآة لذلك الفراق: لا دموع ولا ضوء… بل انتظار معلق بين حياة تساق بالقوة والصمت.
انطلقت العربة ببطء، عجلاتها تجر خلفها صريرا خافتا على الطريق المرصوف بالحصى.
الريح عصفت بين الأشجار، صفيرها حاد كأنها تحتج على هذا الرحيل.
جلس ماكس داخلها ملامحه متصلبة، لكن عينيه انسابت رغما عنه نحو النافذة.
وهناك… عند جذع شجرة، وقفت ماري.
لا حركة فيها و لا كلمة، ثابتة كطيف يرفض أن ينزاح.
فستانها الداكن يتماوج مع الريح والشمس المنكسرة على الزجاج جعلت صورتها شبه سراب، نصف حقيقية و نصف خيال.
حاول أن يغض بصره، لكن عينيه ارتطمتا بها مرة أخرى وكأن النافذة ذاتها تأبى أن تفصله عنها.
كلما ابتعدت العربة، ازداد وجهها وضوحا داخله وغاب عن زجاج النافذة.
لم تلوح له و لم تصرخ، لم تبكي
بل بقيت هناك، كتلة من الصمت كأنها آخر ما تبقى من أرض خسرها.
وعند بوابة القصر، حيث انحنى النهار تحت وطأة الريح توقفت الأرض لحظة وكأنها تحتفظ بصورة أخيرة لوداع لم يستكمل.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 22"
اتمنى الفصل يعجبكم