وصلت العربة إلى فناء القصر عند مشارف الليل، حيث كانت المصابيح المعلقة على الأعمدة تصارع برد الريح لتبقى مشتعلة.
ترجل جورج ببطء يرافقه سيباستيان الذي فتح له الباب بحركة رصينة، كأنها مدروسة منذ قرون.
رفع جورج طرف معطفه الأسود وألقى نظرة متفحصة على الممرات الحجرية التي غطاها الندى، ثم ابتسم بخفة وقال ساخرا:
ــ “حتى هذا الوحش الحجري اشتاق لأن يبتلعني من جديد.”
القصر بدا متجمدا في هيبته، صامتا إلا من وقع خطواتهما المترددة على الرخام.
أعمدة عالية تنبثق منها ظلال طويلة وسجاد أحمر يمتد مثل دم متخثر يقود إلى أعماق الغرف.
ألقى جورج نظرة جانبية نحو سيباستيان رفع يده بخفة، إيماءة صغيرة لكنها تحمل ثقل أمر لا يرد.
قال بنبرة هادئة، يكسوها ذلك السخرية الخفيفة التي لا تفارقه:
ــ “أخبر الخدم أن يجهزوا لي ماء ساخنا للاستحمام… ثم ليختفوا بعدها، لا أريد أن يجرؤ أحد على طرق بابي .”
أومأ سيباستيان دون نقاش.
كان يعرف أن سيده لا يحب التبريرات ولا الأسئلة.
صعد جورج الدرجات العريضة بخطوات موزونة، كأن كل درجة تعترف بسلطته وحين دخل جناحه، خلع معطفه بحركة كسولة ورماه على الأريكة المخملية.
لحظةً وقف أمام المرآة الكبيرة، تأمل انعكاسه: رجل بملامح ساكنة، لكن عينيه تتلألآن بخبث لم تخمده السنوات.
ابتسم لنفسه، ابتسامة لا يعرف أحد هل هي سخرية من ذاته أم من العالم.
دخل الحمام، فاندفع الماء على كتفيه بقوة، ينساب على جسده كأنه يغسل عن روحه رواسب الاحتفال وضجيج الوجوه.
أغمض عينيه، فاندفعت الذكريات بلا استئذان.
ماري… رآها أمامه كما لو أنها واقفة بين بخار الماء.
ابتسامتها المرتبكة، عيناها التي تفيض بالخوف والرغبة في آن واحد، يداها التي ترتعشان كلما اقترب منها.
كان يتذكر لحظة انكسارها في حضوره وضحك ضحكة قصيرة، ساخرة:
ــ “يا ماري… كنت تظنين أنني أُمنح بسهولة؟ أي سذاجة هذه؟”
لكن ظل آخر اقتحم المشهد: ماكس صديقها الوفي، ظلها الحاضر دائما، يداوم على مرافقتها ككلب حراسة مخلص.
انقبض قلبه لحظة، لكنها كانت انقباضة لا تخلو من لذة غريبة.
رفع رأسه تحت اندفاع الماء، وضحك ضحكة باردة:
ــ “ماكس… فارسها الشريف ما أجمل الأدوار النبيلة حين تنتهي تحت قدمي لاعب بارع.”
خرج من الحمام بعد أن لف جسده بمنشفة بيضاء.
شعره المبلل يقطر على كتفيه، لكنه بدا غير مبال.
جلس أمام المرآة ثانية، وأخذ يمرر أصابعه في خصلات شعره وهو يتمتم:
ــ “الذاكرة… عدوي الوحيد الذي لا أستطيع طرده من جناحي.”
طرق سيباستيان الباب بخفة، ثم دخل وهو يحمل صينية من الشراب.
وضعها بهدوء على الطاولة، لكن جورج التفت نحوه بعينين لامعتين، وقال:
ــ “سيباستيان، هل تعلم ما الذي يُرعب الرجال أكثر من الموت؟”
ــ “ما هو، سيدي؟”
ــ “الفراغ… الفراغ يبتلعك ببطء، يسرق ملامحك حتى لا تعرف من كنت، أما الموت فهو على الأقل يمنحك نهاية.”
رفع كأسه وارتشف رشفة صغيرة، ثم انحنى إلى الأمام مبتسمًا بسخرية:
ــ “لكنني لا أحب النهايات أُفضل أن أكتب الفصول كما يحلو لي وأنت تعرف أنني لا أخسر.”
جلس طويلا أمام النافذة المفتوحة، يتأمل الحديقة الغارقة في السكون، أشجارها ساكنة كجنود على أهبة الانقضاض.
كان الليل يذكره بساحة معركة: صامتة، لكن خلف صمتها يترصد كل عدو.
أخذ نفسا عميقا وأغمض عينيه قليلا.
وفجأة، ارتسمت على فمه ابتسامة ملغومة: ابتسامة لم تكن لماري ولا لماكس، بل لنفسه.
قال بصوت خافت، كأنه يعقد عهدا مع الظلام:
ــ ” بدأت للتو وأنا؟ لا أخسر أبداً.”
وانطفأ صوته في عمق الليل، فيما سيباستيان يظل واقفا عند الباب، مدركا أن سيده عاد ليس ليهدأ بل ليحفر معركة جديدة لا يعرف أحد مداها.
جلس جورج على مقعده بجانب نافذة جناحه، يراقب الحديقة تحت ضوء الشموع الخافتة.
الغرفة مرتبة كما هي دائمًا، كل شيء في مكانه، لا أصوات غريبة ولا حركة مستحيلة.
مد جورج يده إلى جيب سرواله، وفجأة لمس شيئا صغيرا: دبوس شعر دقيق، لا يزال يحمل رائحة عطر مألوفة.
أمسكه بين أصابعه واستنشق الرائحة وعرف فورا أن ماري كانت هنا مؤخرا، بطريقة واقعية ومنطقية.
وفي الجانب الآخر من القصر بعيدا عن جناحه، كان ظل شخص يتحرك بهدوء شديد بين أروقة جناح الخدم، تسير بحذر لتصل إلى غرفتها دون أن يكتشفها أحد.
لم يكن بالإمكان سماع خطواتها ولم يره جورج، لكن إحساسه بالدبوس ورائحته كان كافيا ليشعر بأن القصر لم يخل من حضورها.
جلس جورج في صمت جناحه الخافت، يمسك الدبوس بين أصابعه كما لو كان يحمل معه شظية من الماضي وارتسمت على شفتيه ابتسامة لا يمكن تفسيرها، ضيقة وغامضة كأنها خيط رقيق يربط بين شعور بالدفء و وميض من الغموض.
لم يكن بإمكانه فهم ما يعنيه هذا الشعور ولا كان أحد سيقدر على تفسيره؛ كان مجرد صدى حميمي، يهمس في أعماق قلبه مخبأ بين صمت القصر وطول أركانه، لحظة تائهة بين الحنين والسر الغامض الذي يحمله لنفسه وحده.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 21"
اتمنى فصل ينال اعجابكم