كان الغروب يهبط على حدائق القصر كستارة مخملية تسدل ببطء على مشهد عظيم.
الأجراس في البعيد تدوي طنانا … رنانا، كأنها تعلن انقضاء يوم من التاريخ وتمهد لميلاد مساء تدار فيه المقادير.
تسلل النسيم بين أشجار البلوط العتيقة فصفر هوووش في الأفنية، بينما ارتجفت نوافذ القصر تحت أنفاس الريح كأنها تتهامس بأسرار الماضي.
في القاعة الكبرى، حيث الثريات الكريستالية تلقي أصداء الضوء على الجدران الموشاة بالذهب، جلست الدوقة ألكسندرا على مقعد عال كأنما صيغ على هيئة عرش جانبي.
كان وجهها شامخا، مزيجا من الوقار والبرودة وعيناها الزرقاوان تحدقان في الأفق كما لو كان الغروب نفسه مرآة لغد قادم.
إلى جوارها وقفت الوصيفة تحمل سجلا مذهب الأطراف، فيه أسماء فتيات من بيوتات النبلاء، كل اسم يلمع كجوهرة محتملة ترصع تاج العائلة.
قالت الدوقة بصوت هادئ لكنه نافذ، يشبه رنين الجرس عند المغيب:
“إن زواج جورج ليس أمرا شخصيا، بل عهد يملى على بيتنا كما تفرض المراسيم ,نحن لا نبحث عن زوجة فحسب، بل عن سيدة تجسد شرف الدم العريق وتليق بالجلوس إلى جوار وريثنا.”
فتحت الوصيفة السجل فصدر عنه صوت كركرة الورق وبدأت تقرأ أسماء المرشحات واحدة تلو الأخرى، فيما كانت الدوقة تصغي بملامح لا تتحرك إلا قليلا وحين انتهت، أغلقت ألكسندرا الكتاب بضربة حاسمة طق! ارتد صداها في القاعة كما يرتد وقع السيوف في ساح الوغى.
ثم رفعت رأسها وقالت:
“العرش لا يغفر زلات القلب، والتاريخ لا يرحم التردد من تختارونه لإبني سيكون قدرا للأمة، لا نزوة عابرة.”
وبدا أن الغروب الذي لف السماء بلون قان، انعكس على القصر نفسه، فصار المشهد كله لوحة ملكية تنذر بليلة مفصلية في حياة الدوقة وابنها.
أشارت الدوقة بيدها إلى الوصيفة أن تعيد فتح السجل، ثم قالت بصوت عميق، رصين:
“أول ما أطلبه هو النسب الطاهر؛ فالعروش لا تقام على هوى العواطف على أُسس الدماء العريقة, لا أريد فتاة مجهولة الأصل، بل سلالة نعرفها وتقر بها دفاتر النبلاء.”
ثم صمتت لحظة، قبل أن تتابع:
“وثاني ما أبتغيه هو اللياقة الملكية؛ يجب أن تعرف كيف تسير في ردهات القصر وكيف تجلس في الولائم وكيف تمسك بالكأس أمام الملوك، فلا تهتز يدها ولا يضطرب صوتها فالقصور لا ترحم الزلات الصغيرة والعيون هنا ترصد كل حركة كما ترصد النسور فرائسها.”
أمالت رأسها قليلا وكأنها تستعرض صورة في ذهنها، ثم قالت بصرامة:
“وثالث ما أحرص عليه هو الحضور الوقور؛ لا يكفي أن تكون جميلة، بل أن تجيد فن الصمت كما تجيد فن الكلمة.
أن تجلس بين السفراء فلا يعلو صوتها وتجلس بين السيدات فلا تخبو هيبتها, فامرأة الوريث ليست زينة تعلق على تاجه، بل ركيزة تحمل معه عبء الإمبراطورية.”
“وأخيرا أريد قلبا يعرف أن الحب هنا ليس عاطفة عابرة، بل ولاء لشرف وعراقة العائلة وإخلاص لا يتزلزل مع الريح فمن ستقف إلى جانب جورج، ستقف أيضا أمام هذا المجتمع .
أغلقت الوصيفة سوزي السجل برفق وانحنت بانحناءة احترام، بينما ارتسمت على محيا ألكسندرا ابتسامة باردة، كابتسامة الغروب حين يبتلع آخر خيوط الشمس.
في قلب المدينة
كانت المدينة تزدحم بأهلها تلك الليلة، الشوارع مفروشة بأعلامٍ ملوّنة تتمايل مع الريح والمصابيح الغازية ترسم على الأرصفة ظلالا متراقصة.
وقف جورج إلى جانب ماري وسط الزحام والسماء من فوقهما تشتعل بمفرقعات نارية، تنفجر بوم!… كراك!… فشششش!، لتتحول العتمة إلى حديقة من زهور ضوئية تتفتح في العلاء.
الألوان تنعكس على وجوه الناس؛ الأحمر يلون ملامحهم بحماسة والأزرق يكسوهم بسكينة والذهبي يسكب عليهم هيبة عابرة.
ماري كانت ترفع رأسها مبهورة، عيناها تبرقان مع كل ومضة، بينما هو يتأملها بصمت، كأن المفرقعات لم تشعل السماء وحدها، بل أشعلت شيئا خفيا في صدره.
كانت أصوات الانفجارات تتردد في صدر الليل، دوي يتبعه صدى وانطفاء يتبعه وهج آخر.
اقترب منها قليلا وقال بسخرية:
“العالم كله يبدو مختلفا الليلة وكأن السماء تقيم لنا عرسا سريا، أليس كذلك انسة ماري.”
ابتسمت ماري بخجل، ونسيم الليل يبعثر شعرها الحريري.
أصابعها ترتجف حين لمسها يد جورج للحظة، فيما صرخة فرح عالية من أحد الأطفال اخترقت الجو، تزامنت مع انفجار هائل في السماء، فبدت اللحظة وكأنها خصصت لهما وحدهما.
في تلك اللحظة، شعر جورج أن المدينة التي تهتز تحت وقع الاحتفال والسماء التي تتفجر بالألوان.
كان الميدان يزدحم بأهازيج الليل، تعلو أصوات الطبول والمزامير، والسماء تتفتح بزهر من نار ملونة.
الأضواء تنعكس على وجوه الناس كأنها مرايا من ذهب وأرجوان.
سار جورج بين الجموع بثقة مفرطة، يتصرف كأن الأرض مفروشة تحت قدميه بالسجاد الأحمر، فيما ماري تمشي إلى جانبه متحفظة، تحاول ألا يلفت حضورهما الأنظار.
توقف فجأة أمام عربة صغيرة يبيع صاحبها حلوى الشعير الذهبية وقطعا من لوز مكسو بالسكر تلمع تحت ألسنة النار، تناول قطعة من الشعير ببرود، ثم التفت إليها قائلا بنبرة متهكمة:
“آنستي، لست متأكدا إن كانت هذه الحلوى أرقى من ذائقتك، أم أن ذائقتك هي التي تحتاج إلى بعض البساطة.”
رمقته ماري بنظرة صارمة🤨.
“لو صرفت نصف وقتك في الجدية كما تصرفه في السخرية، لكنتَ الآن قدوة للناس، لا مادة للتسلية.”
ضحك بخفة وانحنى قليلا كأنه يؤدي تحية مسرحية، ثم قال:
“أوه، يا آنسة ماري… إنك تطلبين مني أن أكون تمثالا من البرونز، لكن ماذا لو اكتشفت أن العالم أكثر احتمالا حين نواجهه بابتسامة لا بخطبة صارمة؟”
رفعت ذقنها بعناد وقالت:
“ابتسامة الإنسان قد تسعد الشعب لوهلة، لكن وقاره هو الذي يحفظ هيبة العرش.”
اقترب منها خطوة، وعيناه تلمعان تحت انفجار مفرقعة في السماء، وقال هامسا:
“هيبة العرش محفوظة يا ماري… أما قلبي، فلا أرى غضاضة في أن يعبث قليلا بمشاعرك.”
تراجعت بحدة، وأجابت بصوت متزن لكن قاطع:
“القلوب التي تعبث لا تستحق سوى التجاهل.”
ابتسم جورج بسخرية هادئة، ثم مد يده ليشتري زهرة من بائع متجول وناولها إليها قائلا:
“وهل التجاهل يبدأ بقبول الزهور ماري؟”
ترددت لحظة، ثم أخذت الزهرة ببرود وقالت:
“أحيانا نأخذ الأشياء لا لأنها تعجبنا، بل لننهي جدلا لا طائل منه.”
ضحك جورج مجددا، بينما انفجر في السماء شهاب ناري هائل فأضاء المشهد كله كاشفا عن ابتسامته المستفزة وصورتها الصارمة، كأن السماء نفسها تحتفي بمبارزتهما الكلامية.
وبينما كانت أنوار الاحتفال تتراقص على وجوه الغرباء، جاء مساعد جورج بخطوات متسارعة، ملامحه متجهمة تحمل رسالة الرحيل.
همس في أذن سيده بما لا يحتمل التأجيل، فمال جورج برأسه إشارة للفهم.
التفتت ماري إلى ماكس الذي لمحته أخيرا وسط ازدحام المدينة، ارتسمت على شفتيها ابتسامة خفيفة، استأذنت جورج برقة شاكرة إياه على قطعة الحلوى التي لم تزل عالقة في يدها كذكرى قصيرة المدى
سكنت الأجواء فجأة، كأن صخب الاحتفال انطفأ في قلب جورج، إذ اكتسى صوته الداخلي بالبرود لا أثر للوداع ولا للحنين فقط برهة صامتة بين العيون.
ارتقى العربة ببطء، يرافقه سائقه ومساعده والمدينة خلفه ما تزال تفيض بالضحكات والألوان، كأنها تتآمر على أن تريه ما لم يعد له.
وجهه كان صفحة خاوية من الملامح، كظل يذوب في برد الليل وقد انطفأ منه آخر دفء كان يؤنسه كأن حرارة الأمس لم تكن سوى سراب انسحب من روحه، تاركا إياه غريبا عن كل ما غادره.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 20"
اتمنى الفصل ينال اعجابكم