حين تكون الحياة مرآة مكسورة، يصبح التأمل فيها فعلا من أفعال النجاة… أو الجنون.
ماري لم تكن تمشي داخل الزمن بل كانت تنقل كما تنقل قطعة زجاج مهشمة في صندوق خشبي… بعناية زائفة، نحو وجهة لا يذكرها أحد.
الوقت عندها لا يقاس بل يكابد، تقشر أيامه كما تقشر جلدة قلب ميت، لا ينبض لكنه لا يرضى أن يدفن.
كانت تعيش في منزل فسيح، لكنه خانق وكل زاوية فيه تحمل أثرا لا يرى.
جدران مصمتة، نوافذ لا تفتح، ضوء باهت كأنه خجل من ملامسة تفاصيلها.
والدها الطبيب، كان رجلا عتيدا و مشبعا بالمنطق السريري، يزن كل شيء بميزان الكيمياء والفيزيولوجيا، لكنه لم يفهم يوما أن الوجع النفسي لا يرى في الصور الطبقية ولا يقاس بدرجة حرارة.
حين كان يراها تجلس لساعات في الزاوية، عيناها مفتوحتان على فراغ لا يسكنه أحد، كان يدون ملاحظاته في دفتره
> “فقدان مستمر في الرغبة، انكفاء ذاتي، عزلة بلا سبب عضوي.”
لكنه لم يكن يكتب كطبيب، بل كأب مكسور لا يجيد الحب، فيحاول تضميده بلغة لا تجيدها ابنته.
في أيامها، كانت ماري تمضي بلا جدوى، تمارس طقوسا لا تصدقها.
تعد قهوتها بيد باردة، تقرأ صفحات لا تعلق منها سوى علامات التنقيط، تنظر إلى المرآة فلا تجد نفسها، بل ظلًا لأنثى لا تعرف متى خرجت منها ولم تعد.
وفي زوايا ذاكرتها، كان ثمة وجه آخر… ماكس ابن عمها، صديق طفولتها البعيد.
كان يعيش في قرية صغيرة، يعلم الصغار الأبجدية، ويعلم نفسه النسيان.
كان يكتب لها رسائل في طفولته، أغلبها لا يصل.
كان يوقن أنها كانت تبتلعها قبل أن تراها، لكنها ظلت ترد في خياله، كأنها تكتب إليه بكلمات لا تقرأ.
في الأيام القريبة، بدأت ذكرى ماكس تعود دون سبب ولم يكن لها حضور ملموس، لكنه بدأ يزاحم صمتها.
في مساء غريب وجدت نفسها تفتش بين أوراقها القديمة، لتقع على ورقة بها رسم بسيط لطفلة تحمل مظلة.
كتب تحتها ماكس حين كانا في العاشرة
> “إذا هطل الحزن، سأتقاسم المظلة معك وإن لم تكف، بلني أنا أولا.”
ضمت الورقة إلى صدرها دون أن تبكي.
ماري لم تكن تبكي ،كانت فقط… تتشقق.
وفي صباح لم يكن مختلفا عن سابقيه، انهار جسدها على درج المنزل.
سقطت فجأة، بلا مقدمات.
لم تصرخ، لم تطلب نجدة، فقط تمددت كأنها تنتظر شيئا لم تألف اسمه، والدها وجدها بعد دقائق ، ساكنة لا تنزف و لكنها لا تجيب.
رفعها إلى سريرها بصمت خائف ،قاس نبضها و فحص عينيها، لكنه شعر بالعجز لأول مرة.
قال بصوت لم تسمعه
> “أنت تتحولين إلى فراغ يا ماري… وأنا لا أملك علما يملؤه.”
في تلك الليلة، حلمت ماري بحقل أخضر ولكن الحقل كان صامتا، بلا طيور و بلا ريح.
في الحلم، كانت طفلة تركض ثم تتوقف فجأة وتهمس لنفسها.
> “لا تركضي… لن تلحقي أحدا.”
استيقظت بفزع، وشعرت بشيء خفي يضيق صدرها.
في ذات الوقت، على بعد عشرات الكيلومترات، كان ماكس يكتب في دفتر أسود
> “ثمة أنثى أعرف ملامحها، لا تسكن في قريتي لكنني أراها كلما صمت كثيرا و أظن أنها تنهار هناك… وأنا لا أعرف اسم مرضها، لكنني أعرف نفسه ، إنها تشبه صوتي حين لا أنطقه.”
في اليوم التالي، حاول والدها الحديث معها.
جلس على الكرسي، قرب النافذة وأمسك بكوب شاي.
“أتعرفين؟ حين كنت صغيرا، كنت أظن أن الحزن حالة تشفى.
لكن معك… بدأت أؤمن أنه وطن وأنك تنتمين إلى منفى داخلي، لا أعرف كيف أزوره دون أن أضيع.”
لم تجب، لكن عينيها رمشت مرتين وهذا، بالنسبة له كان انتصارا.
في الليل، جلست تكتب في دفترها جملة واحدة:
> “ماكس… إن كنت ما زلت ترى المطر… ابق المظلة مفتوحة، ربما كنت في طريق العودة وربما لا.”
مزقت الصفحة، لكنها لم تحرقها هذه المرة، وضعتها في جيب معطفها، ثم نامت لأول مرة دون كوابيس.
في الغرفة المجاورة، والدها لم ينم، ظل يقرأ أوراق و أبحاث لم تنشر بعد، يبحث عن متلازمات نادرة عن عطب في خلايا الأعصاب و عن شيء يفسر ما يحدث لابنته و لكنه لم يجد شيئا.
فأطفأ النور، ووضع يده على صدره، كأنه يسأل
“هل يمكن لقلبي أن يداويها… لو فقط سمحت لي بالدخول؟”
وفي قرية بعيدة، ماكس رأى حلما، امرأة تلبس وشاحا رماديا تمشي على حافة جرف لا تسقط، لكنها لا تعود و حين هم بندائها، التفتت نحوه وقالت
> “ما تظنه موتا… هو فقط امتداد الحزن حين لا يعبر.”
ثم استيقظ.
أرسل رسالة في الصباح، دون أن يعرف إن كانت ستصل، كتب فيها:
> “ماري… إن كنت ما زلت تعرفين اسمي، فامنحيني حرفا فقط، لأتأكد أن ذاكرتك لا تخونني كما خانني العالم.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 2"