كانت المدينة ذلك الصباح كلوحة تنبض بالحياة، تتوشح بوشاح من ذهب ونار، تتهيأ لاستقبال عيد الخريف السنوي الذي ينتظره أهل المرتفعات منذ عام كامل.
في الأزقة الضيقة، ارتفعت الأعلام الموشاة بنقوش سلتية، تتمايل في مهب الرياح الباردة، تصفقها الأصابع الخفية للهواء بصوتٍ يشبه همهمة البحر البعيد:
“فهفف… فهفف…”.
في الساحة الكبرى، نصبت القباب الخشبية وأقيمت الطاولات الطويلة المحملة بأباريق الشراب الدافئ وفطائر الشوفان بالعسل وأطباق اللحم المدخن الذي يتسلل عبيره إلى الحشود، فيستدير المارة نحو مصدر الرائحة وكأنهم مأسورون.
على منصة مرتفعة، جلس عازفو القربات الهوائية يختبرون أوتار آلاتهم تنفلت منهم أنغام أولى مترددة، قبل أن تتجمع في لحن جهوري ينساب بين البيوت الحجرية، فيوقظ ذاكرة المدينة وحنينها.
أما الحقول القريبة، فقد غصت بعربات الخيول المزدانة بشرائط قرمزية، تنتظر دورها في موكب الغروب حين تضاء المشاعل، وتتراقص ظلالها على الجدران العتيقة، وتتحول المدينة إلى حكاية متوهجة.
كانت ماري وماكس يسيران بين الحشود، تلتقط أعينهما أكشاك الباعة المزدحمة:
“شالات من صوف المرتفعات!”
“أحزمة مزخرفة يدويا!”
“أبواق من النحاس القديم!”
لكن حضور ماري وسط هذه البهجة لم يكن حضور شخص عادي بل كان أشبه بقدوم فصل جديد.
ارتدت فستانا طويلا بلون خريفي دافئ، بين البرتقالي المحروق والبني الفاتح، ينساب حولها برقة كصفحة ماء تلمسها أشعة الغروب.
عند خصرها حزام قماشي قرميدي اللون، تتدلى من جانبه سلسلة فضية رفيعة تلتقط ومضات المشاعل.
شعرها البني المتموج انسدل كتيار من الكستناء، تتخلله خيوط ضوء خريفية وعلى رأسها إكليل من ورود برية بألوان البرتقالي والذهبي والبني، تتخللها أوراق صغيرة كأنها قُطفت للتو من الغابة.
كانت خطواتها تتماوج مع الإيقاع، وفستانها يتحرك مع نسمات المساء، بينما يعلو صوت الطبول المنتظمة:
“دم… دم… دم”
يرافقها تصفيق الجمهور حول منصة الرقص الفلكلوري ، حيث ارتفعت أقدام الراقصات بخفة تتعانق مع لحن القربات في مزيج من الفرح والحنين.
لكن، وسط هذا الصخب، شعرت ماري بخيط بارد يلامس عنقها.
توقفت فجأة، كما لو أن قلبها سمع نغمة أخرى لا يسمعها أحد.
بين ضباب يتصاعد من عربة شاي عند طرف الساحة، لمحَت وجها مألوفا…
كان جورج.
بوقفته الواثقة ومعطفه من تويد بني داكن، تحته صديري من الصوف الكحلي وربطة عنق بلون نبيذي وبنطال ركوب الخيل الكريمي الذي يضيق عند ركبتيه، تكمله جزمة جلدية لامعة تصل إلى منتصف ساقه.
في يده اليمنى عصا مشي رفيعة برأس فضي، يمسكها بخفة لكنها تضيف إلى حضوره ثقلا مهيبا.
لم يكن مندمجا في البهجة و لا جزءا من هذا المهرجان الذي يفيض بالألوان.
وقف ساكنا و عيناه ثابتتان عليها، كما لو أن صخب المدينة انكمش ليصبح همسا بعيدا.
شعرت ماري للحظة وكأن الحشود تبتعد وأن الموسيقى تتراجع إلى طبقة واحدة متوترة، بينما عيناه تعبران إليها جسرا خفيا، لا أحد يراه سواها.
ماكس، الذي لاحظ توقفها التفت بدوره لكنه لم يدرك أن هذه النظرة العابرة وسط احتفال الخريف، كانت بذرة موسم جديد موسم لا تعرف ملامحه بعد، لكن نذر العاصفة كانت تلوح في أطرافه.
وبينما كان ماكس يهم بمتابعة السير، دوت أصوات الطبول أعلى وتقدم موكب الخيول المزدانة بشرائط التارتان القرمزية، تحمل فوق ظهورها فتيات بملابس العشائر التقليدية يلوحن بأوشحة مخططة في الهواء.
المشاعل على جانبي الطريق أطلقت وهجا متراقصا، جعل وجوه المارة تبرق في الضوء والظل كلوحات متحركة.
توقفت ماري على حافة الطريق، ووقفت بجوارها ماكس يتابع الموكب بعينين مبتهجتين.
لكن ما لم يره، هو أن ظلا طويلا اقترب من خلفها، ظل لم يخطئه قلبها، لم تمض سوى لحظة حتى شعرت بلمسة ثابتة على مرفقها، لم تكن قاسية ولا مترددة بل تحمل ثقل من يعرف ما يريد.
التفتت، لتجد جورج الدوق واقفا قربها يمد لها يده المغلفة بالقفاز الأسود.
لم ينبس بكلمة، وكأن صوته غير ضروري حين تحكم النظرة كل المعاني.
بين دقات الطبول وصهيل الخيول، سمعت قلبها يضرب كأنه جزء من الإيقاع نفسه.
رفع جورج يده قليلا، فترددت ماري لحظة، ثم وجدت نفسها تضع يدها في يده، فيسحبها بخطوة محسوبة حتى ابتلعتهما الحشود الملتفة خلف الموكب.
ماكس ظل واقفا، مشغولا بمراقبة العربة الأخيرة غير مدرك أن ماري قد اختفت بالفعل.
سارا جنبا إلى جنب وسط الطرقات الموشاة بالأعلام والمشاعل وجورج الذي كان جامد الملامح قبل دقائق، بدأ على مهل يرسم ابتسامة لم تكن ابتسامة عابرة أو رسمية، بل دفء هادئ كأنما نبع من ذكرى بعيدة.
ماري، التي لم تعهد منه سوى الصمت الحاد المخيف ، وجدت نفسها مأخوذة بذلك الانحناء الخفيف على شفتيه، تراقبها كما يراقب المرء بداية شعلة صغيرة في ليلة باردة.
وكانت تلك اللحظة، وسط أهازيج الخريف ورقصات السيوف، أول شق في جدار الجليد بينهما وإن لم يدرك أحد من حولهما أن شيئا بدأ للتو.
كان الخريف قد حل رسميا لا في الأزقة والحقول فقط، بل في قلبين التقيا وسط الألوان الذاهبة، يوشكان أن يكتشفا معا أن لكل فصل بدايته حتى فصل الحكايات.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 19"
اتمنى الفصل نال اعجابكم