كان الصباح في القصر ساكنا… ساكنا على نحو لا يريح أحدا.
هواء الغرفة ثقيل، كأنه لم يتجدد منذ الليل وكأن القصر حبس أنفاسه في انتظار شيء ما.
في الخارج، ظلت الغيوم متدلية فوق الأشجار بلا حركة، كما لو أن السماء نفسها تترقّب.
الستائر المخملية الثقيلة أُسدلت نصفها، حاجبة الضوء عن معظم الغرفة تاركة خيوطا رفيعة من الذهب الباهت تتسلل وتزحف على السجادة العتيقة.
في تلك الخيوط، كان الغبار يطفو ببطء شديد حتى بدا كأنه يتحرك بوعي… أو يراقب.
جورج جلس على طرف السرير، كفاه مشبكتان نظره يتنقل بين تفاصيل الغرفة بترتيب محسوب: الزاوية اليسرى… الخزانة… انعكاس المرآة.
لكن كلما حول نظره، أحسّ أن ما تركه خلفه يتحرك.
هل كانت الخزانة موصدة البارحة؟ ولماذا انعكاس المرآة يظهر زاوية مظلمة من الغرفة؟ لم يكن من المفترض أن تعكس سوى السرير والنافذة.
عند النافذة، كانت ماري ترتب مائدة الفطور.
صوت الملاعق وهي تلامس الخزف كان خافتا، لكن في أذن جورج بدا متعمّدًا… كإشارة يعرفها شخصان فقط.
حركاتها بطيئة، متأنية كمن يكتب شيئا غير مرئي على سطح الطاولة.
شعرة طويلة أفلتت من تسريحتها وسقطت على كتفها، ولم تحاول إزاحتها.
اقترب، خطواته هادئة لكن الأرضية الخشبية أصدرت صوتا حادا في موضع واحد كما لو أنها تتذكر شيئا ثقيلا مر من هنا من قبل.
توقف خلفها مباشرة، ظله يلامس فستانها الفكتوري الفاتح.
آنسة ماري… هل خفت علي تلك الليلة في الحفل؟
صوته خرج كأنه قادم من مسافة أبعد من مكانه، باردا لكنه مشدود بخيط خفي من القلق.
رفعت رأسها نحوه ببطء وعيناها تعكسان الضوء الشاحب من النافذة.
بالطبع يا سيدي… كان الموقف مخيفا والجميع كان خائفا عليك .
توقف الكلام بين الكلمتين لحظة أطول من اللازم، لحظة كافية ليزرع الشك في قلبه.
ظل يحدق بها، حتى شعر بثقل نظراته عليها.
إذا يا آنسة لماذا كنت تراقبينني أمس في المكتب مع سيباستيان؟
قالها وكأنه يلقي حجرا في مياه راكدة، ليرى ماذا سيطفو على السطح.
تصلبت أصابعها على مقبض الإبريق ورمشها كان أبطأ من المعتاد.
لم أكن… أراقب سيدي، كنت…
عينيها، للحظة قصيرة حملتا شيئا يشبه ابتسامة لا تخص الشفاه.
هو رآها… أو ظن أنه رآها ومع أول رمشة، اختفى كل شيء، وكأن عقله يعيد ضبط المشهد.
التفت نحو المائدة، رأى كوب الشاي ما زال يبخر.
لكن الحرارة التي خرجت منه حين اقترب كانت مختلفة… أشبه بحرارة كف إنسان.
سحب يده فجأة، كأنه لمس شيئا حيا.
جلس على السرير، نظره مسمر على الأرض وقال بنبرة أشبه بباب يغلق بإحكام:
تأكدي يا آنسة ماري أن ما ترينه… ليس دائما ما يكون.
ظلت واقفة بلا حركة كأن كلماته مرت من خلالها، لكن شيئا في ظلها على الأرض لم يكن ثابتا… ظلها بدا وكأنه يميل قليلا، كما لو أنه يلتفت نحوه.
جورج رمش بعينيه، وبقي يحدق في ذلك الظل.
حين رفع نظره، كانت ماري على حالها والظل في مكانه الطبيعي.
أغلق عينيه، لكن الصور لم تختف:
هل هي تكذب؟ أم أنني أنا… الذي بدأ يكذب على نفسه؟
وبينما كان يفكر، كان متأكدا أن الستارة خلفه تحركت ببطء… رغم أن النافذة مغلقة.
خطت ماري نحو الباب، صوت كعب حذائها على الأرضية الخشبية بدا متباعدا، كأن الزمن نفسه يترك بينها وبينه مسافة.
لم تلتفت، حتى حين وصل مقبض الباب إلى يدها.
فتحته ببطء، وغادرت تاركة وراءها هواء أثقل مما كان قبل دخولها.
ظل جورج جالسا على حافة السرير، يستمع لصدى خطواتها وهي تتلاشى في الممر الطويل.
مع كل خطوة أبعد، أحس أن صمت القصر يقترب منه أكثر… كما لو أن الجدران تتحرك لتغلق عليه.
نهض ببطء، نظر إلى المائدة.
كوب الشاي ساكن، لا بخار و لا حرارة… وكأنه لم يُملأ قط.
تجمد في مكانه.
كان متأكدا أنه رأى البخار قبل لحظات، مد يده ليلمس الكوبفارغ.
ليس فقط فارغا، بل باردا كحجر ظل في الظل طوال الليل.
التفت نحو النافذة، الستارة المخملية تتحرك بخفة.
“لا ريح”… هذا ما فكر به، لكنه اقترب ليتأكد.
حين لمس القماش، شعر بحرارة طفيفة، كأن أحدهم كان يقف خلفها قبل ثوان فقط.
انسحب للخلف خطوة.
في طرف عينه، التقط انعكاسا في المرآة… شخص ما يقف خلفه.
التفت بسرعة، لا أحد.
لكن المرآة ما زالت تعرض نصف ظل، يختفي ببطء حتى تلاشى تماما.
جلس مجددا، يدفن وجهه بين كفيه.
صوته الداخلي يهمس، أو ربما لم يكن داخليا على الإطلاق:
“ما تراه ليس دائما ما يكون… أليس كذلك، جورج؟”
رفع رأسه بسرعة.
الغرفة خالية ومع ذلك، أقسم أنه رأى في الزاوية شعرة طويلة، بنية تتأرجح وحدها قبل أن تسقط ببطء إلى الأرض.
جلس مجددا، يدفن وجهه بين كفيه.
كان صوته الداخلي يهمس، أو ربما لم يكن داخليا على الإطلاق:
“ما تراه ليس دائما ما يكون… أليس كذلك، جورج؟”
رفع رأسه بسرعة.
الغرفة خالية، ومع ذلك، أقسم أنه رأى في الزاوية شعرة طويلة، شقراء تتأرجح وحدها… قبل أن تسقط ببطء إلى الأرض.
قبل أن يمد يده ليلتقطها، انفتح الباب بخفة.
انزلقت سيسي🐱 القصر الرمادية إلى الداخل، عيناها اللامعتان تلتقطان الضوء كجمرتين.
تقدمت نحوه بخطوات صامتة، ثم توقفت عند الشعرة شمتها قليلا قبل أن تلتقطها بفمها وتبتعد إلى الظل كما لو كانت تعرف تماما لمن تعود.
ظل جورج يراقبها وهي تختفي أسفل السرير.
ومن هناك، من العتمة انبعث صوت خرخرة منخفضة… يشبه تماما النغمة التي سمعها في حلمه ليلة الأمس.
التعليقات لهذا الفصل " 18"