عاد جورج إلى القصر ومعه سيباستيان، وصمت ثقيل يتبعهما من لحظة خروجهما من قصر الجنرال ألفرد.
لم يتحدث أحدهما طوال الطريق، لم يكن الوقت مناسبا للكلمات، لكن كل شيء كان يتحرك داخل رأسيهما.
حين أغلق الباب خلفهما، تنفس جورج ببطء كأن الهواء أصبح أقل سمية هنا، رغم أنه لم يكن أكثر أمانا.
في غرفة الاستقبال، جلس على الأريكة دون أن يخلع قفازيه.
نظر إلى سيباستيان الذي ظل واقفا، مستعدا لسماع ما لن يقال علنا.
قال جورج بصوت منخفض، كأن الجدران تستمع:
“جيمس كان يعلم.”
رد سيباستيان مباشرة:
“كلماته لم تكن عبثًا.”
أومأ جورج ولم يبتسم، لكنه تذكر بوضوح.
كان ذلك قبل دقائق فقط من إطلاق الرصاصة.
جيمس، مساعد الجنرال ألفرد اقترب بابتسامة باردة، وقف بجانب جورج وهمس:
“أحيانا، الحفل يكون واجهة فقط، أما المسرح الحقيقي… فيبدأ حين تطفأ الأنوار.”
ثم ابتعد، وكأن شيئًا لم يُقال.
وبعدها… بثوانٍ، دوى صوت الرصاصة.
قال جورج بمرارة:
“لم يكن يتوقع أن أخطئ في قراءة المعنى، لكنني قرأته متأخرا فقط.”
اقترب سيباستيان خطوة، وقال:
“لو لم تتحرك في اللحظة الأخيرة…”
قاطعه جورج:
“كنت سأموت، أعرف.”
ثم أضاف بعد لحظة:
“وأعرف أيضا أن جيمس لم يكن وحده.”
“تقصد ألفرد؟”
هز جورج رأسه ببطء.
لم يكن نفيا تاما ولا تأكيدا، فقط حذر وقراءة أعمق للمشهد.
“إن لم يكن ألفرد من أعطى الأمر، فهو من فتح الباب له. الفرق لا يهم الآن.”
صمت، ثم رفع عينيه نحو سيباستيان وقال:
“راقب جيمس. لا تتحرك خلفه… دعه يعتقد أنه تحكم بالساحة.”
أومأ سيباستيان.
“وماذا عن ألفرد؟”
ابتسم جورج أخيرا، لكنها لم تكن ابتسامة راحة.
بل تلك الابتسامة التي تسبق سقوط قطعة في رقعة شطرنج صوتها لا يسمع، لكن أثرها لا يمحى.
“الجنرال سيأتي إلي قريبا… بطريقته.”
—
[في نفس اليوم، بعد محاولة الاغتيال]
السماء تميل إلى الرماد، والهواء في الحي الخلفي للقصر العسكري مشبع برائحة الفحم والرطوبة.
تحت ظل مصباح غازي خافت، وقف سيباستيان يراقب من بعيد، معطفه الرمادي لا يحمل ما يميزهbوقبعته منخفضة على عينيه.
لم يكن يحتاج إلى جهاز تتبع.
فجيمس، بمشيته المتعجرفة التي لا تتغير، لا يعرف كيف يخفي أثره.
كان دائم الالتفات إلى الزوايا، لكن دائما بعد فوات الأوان.
سيباستيان تبعه بخطوات موزونة، يعرف جيدا أي مسافة تمكنه من البقاء في الظل دون أن يلاحظ.
رأى جيمس يستقل عربة صغيرة، لا تحمل شعارا عسكريا، ويتجه بها نحو الجزء القديم من المدينة حيث المنازل لا تحمل أسماء، والأبواب تطرق برمز لا يُكتب.
توقف سيباستيان عند الزاوية المقابلة، خلف مخزن مهجور.
من خلال منظار صغير نحاسي، تتبع الضوء المنبعث من نافذة الطابق الثاني في مبنى بلا لافتة.
جيمس كان هناك.
يتحدث مع رجل طويل، يقف في الظل، ويداه خلف ظهره.
لم يستطع سيباستيان سماع الكلمات، لكن لغة الجسد كانت فاضحة.
جيمس كان يبلغ.
الرجل لم يتحرك كثيرا… لكنه كان يحدد الاتجاه.
همس سيباستيان لنفسه:
“إذا لم تكن الرأس… فأنت اليد التي تضرب.”
سحب دفترا صغيرا من جيبهوودون ما رآه الساعة، الموقع و الإشارات الجسدية، وتحليل كل حركة.
ثم، بعد بضع دقائق من الصمت المشحون، سمع صوتهما يرتفع من خلال نافذة نصف مفتوحة.
جيمس”…لم يفقد توازنه، كما توقعت. حتى بعد الرصاصة، ظل واقفا.”
الصوت الآخر، بنبرة حادة “لأنك لم تصب الموضع الصحيح.”
“كنت أريد تحذيره، لا قتله.”
الصوت الآخر “أنت لا تحذر من يعيش في النار.”
جمدت يد سيباستيان على الورقة.
“من يعيش في النار…؟”
أغلق الدفتر بهدوء وتراجع ببطء، دون أن يصدر أي صوت.
لم يكن بحاجة لرؤية الوجوه.
من يهدد بهذه الثقة… لا يتوارى طويلا.
—
[بعد ساعة – في قصر جورج]
فتح سيباستيان الباب بهدوء.
جورج كان واقفا هذه المرة، عند الموقد ينظر إلى ألسنة اللهب كما لو كان يقرأ شيئا فيها.
قال سيباستيان بصوت هادئ:
“تحدث… كثيرا.”
استدار جورج ببطء، نظر إليه دون أن يطلب التفسير.
سيباستيان مدّ الدفتر إليه.
“لم يحاول الاختباء، ولا الإنكار… فقط قدم تقريرا.”
قرأ جورج الكلمات القليلة المكتوبة، ثم رفع عينيه.
“من يعيش في النار…” كررها، وكأنها أطربته لا أرعبته.
ثم قال:
“جميل، إذا نحن نشبه بعضنا أكثر مما توقعت.” وأغلق الدفتر بيده.
“استعد سيباستيان, المرحلة التالية… لن تكون في الظل.”
غرفة جورج كانت تعج بالهدوء بعد دقائق من حديثهما، الموقد يتوهج بنيران خافتة، والظلال ترقص على الجدران.
فجأة، طرق الباب بهدوء.
دلفت ماري أولا، ترتدي ثوبا مرتبا، تلتصق بخطواتها خادمة تحمل صينية الشاي.
وقفت ماري للحظة في وسط الغرفة، نظرتها تمر على جورج ببطء.
عينها تتأمل تفاصيل وجهه، دون أن ترفق أو تعبر عن أي شيء.
تلك النظرة كانت تقارب أكثر من مجرد اهتمام عابر.
كانت تبحث بهدوء عن شيء ما.
وضعت الخادمة الصينية أمام جورج، وأومأت له بلطف قبل أن تخرج بهدوء.
جورج رفع نظره نحو ماري، ولاحظ كيف أنه لم يكن بمقدورها أن تخفي نظرتها تلك وكأنها تريد أن تؤكد شيئا داخليا قبل أن تبتعد.
في صمت أثقل من الكلمات، التفتت ماري ببطء وخرجت تاركة وراءها عبق الشاي وصدى نظراتها التي لم تنسى.
جورج بقي يحدق في المكان الذي كانت فيه، قبل أن يلتفت إلى سيباستيان ويقول بهدوء:
“الوقت يمر، وهم ينتظرون… لكننا لن نكون بلا صوت.”
“سندعو الجنرال ألفرد ومساعده ، وبعض الحلفاء لكن ليست دعوة ترحيب، إنها اختبار.”
جورج وقف أمام الموقد، لا يزال بصره غارقا في ألسنة اللهب.
سيباستيان يقف جانبا، يداه خلف ظهره، ينتظر إشارة أو أمرا جديدا.
فجأة.
“آآآآاااه!”
صرخة أنثوية تنفجر خلف الباب مباشرة، يتبعها صوت سقوط عنيف وارتطام أشياء بالأرض!
سيباستيان يرفع حاجبه بخفة.
جورج لا يتحرك… فقط عينه توميء نحو الباب ببطء وكأنه سمع سقوط مملكة لا مجرد فتاة.
سيباستيان (ببرود):
“…القطة؟”
جورج جورج يلتقط كوب الشاي من على الطاولة، يرتشف رشفة ثم يتمتم(جافا، دون أن يلتفت):
“على الأرجح.”
ماري ملقاة أرضا، وجهها منكمش، عيناها دامعتان، خداها محمّران بحرارة الخجل والارتباك!
القطة السوداء تعض طرف فستانها بفخر وكأنها أنجزت مهمة بطولية.
ماري (تفكر وهي في قمة الهلع الداخلي):
هل سمع أحد صوتي؟ هل المكتب عازل للصوت؟ أرجوك يا سقف القصر، ابتلعني الآن!
تحاول أن تنهض بسرعة، لكنها تعلق لحظة بفستانها الذي لا يزال بين أنياب القطة.
ماري (بصوت مخنوق):
“أتركني… أيها الشيطان ذي الفرو…!”
تمر خادمة بهدوء، ترى المشهد تتجمد لحظة ثم تبتسم بلطف:
الخادمة:
” ماري؟”
ماري (مبتسمة ابتسامة مكسورة):
“لا… أنا فقط… أختبر الجاذبية.”
القطة (بتبجح):
“مياو~” 😼
تلوت بذيلها عاليا، مشت فوق الفستان دون أن تلتفت ودخلت المكتب كأنها صاحبة المكان.
التعليقات لهذا الفصل " 17"
انشاء الله الفصل جديد يكون عجبكم