كان الصباح في القصر لا يبدأ، بل يتسلل كما لو أنه لص يطلب العفو.
لا صياح ديك ولا ضوء ساطع، فقط خيوط شمس تصفى عبر ستائر من حرير عاجي، تمتصها الجدران قبل أن تلمس الأرواح.
وحدها عقارب الساعة الفضية، تلك المعلقة في الرواق الطويل تجرؤ على البوح بالوقت.
نبضاتها ليست دقيقة، بل تذكير متعال بأن الزمن في القصور لا يسير، بل يؤذن له.
في الصالون الشرقي، كانت ماري تقف منتصبة كالسكين قدماها بالكاد تلمسان الأرض وكتفاها لا يرتجفان رغم البرد المنزلق من نوافذ مغلقة.
وضعت الصينية المزخرفة على الطاولة بعناية لا تمنحها امتنانا، بل تحميها من العقاب.
لم يكن في نيتها أن تراه هذا الصباح.
لم يكن يُفترض به أن يستيقظ بعد، لكن الفوضى في هذا القصر لا تحتاج إعلانا.
دخل بخطى موزونة، كأن الأرض ملك لنعاله.
يرتدي قميصا من كتان أبيض، أكمامه مشمرة وقميصه مشدود عند الكتفين بما يكفي ليظهر رجلا يتهيأ لا للعمل بل لفرض السيطرة.
في عينيه بريق لا هو الغضب ولا الرضا، بل ذلك الوميض الذي يسبق وقوع شيء لا يحب التكرار.
قال دون أن يلتفت:
يظن البعض أن شم رائحة الخبز المحمص امتياز كاف لينسوا مواقعهم.
رفعت ماري بصرها إليه ببطء، كما يرفع الغطاء عن مرآة في مأتم، ثم قالت بنبرة محايدة كمن يجر صرير باب في ممر فارغ:
ولم تكن رائحته أعتى من كرامة الإنسان، سيدي.
ضحك، لا ضحكا، بل زمجرة أنيقة.
دار حول الطاولة كما يدور صقر حول نسيج خائف، وقال:
يا للبلاغة، تصلحين لتكوني وصيفة في بلاط شاعر ، لا خادمة تعد الشاي، من علمك أن الكلمات تشحذ مثل السكاكين؟
لم ترد.
ليس لأن الرد غائب، بل لأن بعض الوقاحات يميت الرد عنها معناها.
اقترب فجأة.
لا صوت للخطوة، كأن الأرض تتواطأ معه، همس صوته أقرب لزفير حاد:
ما رأيك في لعبة؟ كلما رمشت، أطرح سؤالايا آنسة وإن لم تجيبي تطردين، بسيطة أليس كذلك؟
تراجعت خطوة لم تكن الخوف، بل الاستعداد.
التقت عيناه بعينيها وكان فيهما شرر لا يفسر، مزيج من طيش ورغبة في التهشيم، كما لو أنه يبحث عن فوضى داخل فنجان شاي.
قالت، ببرود جليدي:
إن كان سموك يفتقر لصحبة العقلاء، فالحدائق واسعة والمرايا كثيرة وقد تجيد الإنصات.
تجمدت ملامحه، للحظة ثم تشققت عنها ابتسامة لا تصل إلى العينين.
اقترب أكثر.
المسافة بين جسديهما لم تعد تحسب بل تلمس، قال وصوته مكسو بالحرير والسم:
تظنين أن اللغة درع؟ إن الخادمات حين ينطقن الجمل الكاملة، يصبحن أخطر من الصامتات.
رفعت عينيها إليه، كمن يحدق في عاصفة ويحسب عدد رماحها:
وأنت، يا سيدي تهاب كل ما لا ينكسر تحت يدك.
الصمت الذي تلا كلماتها لم يكن راحة، كان ضغطا جويا يسحق اللحظة.
رفع يده، لا بحنان بل كمن يجري تجربة على شيء هش، أراد أن يلمس خدها لكنها لم تتراجع.
كانت كجدار لم يتعلّم معنى الهروب ثم ارتفعت يدها.
لا كتمرد، بل كإجابة وصفعته.
الصفعة لم تكن قاسية، لكنها أنيقة و نظيفة، كأنها ولدت لتحفظ في الذاكرة.
لم يتحرّك فورا.
عينه لم ترمش، رأسه فقط ارتد قليلا، وكأن هناك ضوءا انطفأ فيه.
لكن للكبرياء قوانين لا تسمح بالهزيمة.
رد الصفعة بأخرى.
أقوى، لكنها خالية من العمق.
كانت حركة، لا رأيا و قال بنبرة لا تقرأ:
أعجبتني جرأتك و أزعجتني في آن معا.
نظرت إليه، والدم ما زال يدفن نفسه تحت جلدها وقالت بثبات:
وهل أذتك جرأتي؟ أم فقط عرتك؟
توقّف.
تلك التوقفات التي لا تصدر عن وعي، بل عن ارتطام داخلي.
ثم قال وهو يشيح بنظره إلى النافذة المغلقة:
أنت خطر صغير لكن لا تقلقي، سأكافئك أعدي لي فطوري.
ضعي عليه قليلا من الندم وخرج، يخلف وراءه عطرا باهظا، ورائحة كبرياء محترق.
جلست ماري على الكرسي المنزلق ببطء، للمرة الأولى منذ طلوع الشمس.
لم تلمس وجهها و لم تبكي أو تتكلم.
وضعت يدها على خدها، كما لو كانت تعدل موقع ذكرى جديدة.
الذكرى هذه المرة لم تكن مؤلمة كانت واضحة.
وكان الزمن في القصر لا يعترف بما نعرفه عن الوقت، لا يسير و لا يعود و لا يتقدم بل يتراكم مثل الغبار على ساعة نسيت أن تدق.
وحده صدى خطواته على الرخام بقي حيا ينادي الحياة التي لا تسمع فيها ضربات القلب، بل أوامر لا تحتاج شرحا ولا تأجيلا.
وكان الزمن في القصر لا يعترف بما نعرفه عن الوقت، لا يسير ولا يعود ولا حتى يتقدم،بل يتراكم مثل الغبار على ساعة نسيت أن تدق.
وحده صدى خطواته على الرخام بقي حيا، ينادي الحياة التي لا تسمع فيها ضربات القلب، بل أوامر لا تحتاج شرحا ولا تأجيلا.
في الممر المؤدي إلى المكتبة، حيث الأضواء تنكسر على الزجاج الملون مثل شظايا حلم قديم، لمحت ماري وجهًا مألوفًا.
ماكس، صديق الطفولة الذي كبر على حواف القصر مثلها، كان يقف عند النافذة يحمل كتابا مقلوبا بين يديه وكأنه يقرأ الهواء.
رفع بصره حين رآها، وابتسم ابتسامة لم تطف على السطح، بل خرجت من عمق يعرفها جيدا.
قال مازحا:
أخيرًا أراك تسيرين في غير وقت العمل، هل ضللت طريقك إلى المطبخ؟
ابتسمت ماري، وردت بخفة:
بل قررت أن أتمرد على جدول الخدمة لربع ساعة فقط.
هذا تمرد خطر، أخشى أن يُسجل في سجلات القصر.
ضحكت بخفة، تلك الضحكة التي لا تأتي كثيرا لكنها حين تأتي تشبه رائحة الخبز في الصباح الباكر، حقيقية ودافئة.
قال ماكس وهو يشير إلى مقعد صغير قرب النافذة:
اجلسي، هذا الركن لا يخون و الشمس تمر عليه سريعا ثم تختفي كأنها تحترمه.
جلست دون تردد، ونظرت إلى الحديقة من خلف الزجاج.
لم يكن ثمة شيء مميز، مع ذلك شعرت بشيء يشبه الطمأنينة لحظة عادية، لكنها ثمينة وسط اللاعادي.
قال ماكس وهو ينقب بين رفوف ذاكرته:
هل تذكرين شجرة السرو تلك؟ كنا نخفي تحتها أشياء سخيفة رسائل و أحجار وألعاب مكسورة.
وقطعة شوكولاتة ذابت بعد يومين!
ضحكا معا.
قال بعدها، وقد خفت صوته قليلاً:
رغم كل شيء، أنت ما زلت ماري القديمة.
نظرت إليه ولم تقل شيئا، لكنها شعرت أن جزءا منها تنفس.
وأنا ما زلت أحفظ تلك الرسائل، التفتت إليه بدهشة فابتسم وقال:
لا تقلقي لم أقرأها.
كاذب.
دائما!
ثم نهضا في وقت واحد وكأن لحظة اللقاء لم تكن طويلة ولا قصيرة، بل فقط كافية.
قالت ماري قبل أن تبتعد:
كان حديثا جيدا.
أجابها، وهو ينظر إلى السقف المزخرف وكأنه يحفظ جماله:
بل كان ضروريا.
ثم افترقا، دون أن يلتفت أحدهما إلى الوراء بعض اللقاءات تكون هدنة صغيرة في قلب الفوضى.
—
قرع باب المكتب.
لم يرد أحد، لكن الباب فتح.
دخل رجل بخطى هادئة، واقترب حتى وقف أمام المكتب دون تردد.
قال بصوت منخفض وثابت:
نعم، سيدي.
رفع جورج بصره وفي عينيه ذلك البريق المألوف، نصف استخفاف نصف اهتمام.
الواقف أمامه لم يكن خادما هذه المرة.
كان ماكس.
لم يكن صوت القفل مسموعا، لكن في تلك اللحظة، أحكم الصمت قبضته على كل شيء.
في قصر لا يعترف بالوقت ولا يحاسب الضوء وحدها الظلال التي لا تمشي في الضوء تعرف الحقيقة وتنتظر موعدها بصبر من تعود ألا يرى.
VIDEO
التعليقات لهذا الفصل " 14"
اتمنى ان الفصل نال اعجابكم