عاد جورج إلى القصر عند المساء والسماء توشك أن تنفجر بالبكاء، كأنها تعرف ما سيقال داخل تلك الجدران.
لم يعلم أحدا بعودته ولم يرافقه سوى ظله، يتسلل عبر الباب الجنوبي كما لو أنه لصّ يعود إلى بيته المسروق.
كل شيء ساكن كأن القصر حبس أنفاسه منذ غيابه.
رائحة الخشب الرطب، ضوء المصابيح الواهن وتلك الهُدنة العتيقة بين الجدران والسكون كل شيء يهمس:
“لقد عاد.”
في الأعلى، عند نهاية الرواق وقف ديميتري كما لو أنه ينتظر نبوءة.
“الدوقة في الداخل أُشيع أنك عدت.”
“هل قالت شيئا؟”
هز كتفيه كمن يخشى حمل الكلام “لا لكنها ألغت اجتماع المجلس حين وصلتها الرسالة.”
جورج لم يرد، كانت قدماه تعرف الطريق جيدا وكأنها مشت عليه ألف مرة من قبل حتى فتح الباب.
كانت هناك واقفة أمام المدفأة، كما لو أن النار فيها تعجز عن تدفئة قلبها.
“إذا رفضت العرض.”
قالتها دون أن تلتفت، كمن يعلم الإجابة قبل أن يسمعها.
“ما كان عرضا، كان تهديدا مغلفا بورق معطر.”
استدارت إليه ببطء، نظرتها لا تحمل دموعا تحمل غضبا… فقط تعب امرأة وقفت طويلا في وجه العاصفة.
“وما قاله الإمبراطور؟”
ضحك ضحكة قصيرة، كأنها خرجت من بين أنقاض الصمت، لا فرح فيها بل رسالة لم تكتب.
“يريدني في المجلس الأعلى بشرط أن أترك الحدود خلفي، وأتنكر لزي الجندية.”
“طبعا رفضت.”
“لم أكن هناك لأفاوض.”
اقتربت منه خطوة، تنظر إلى عينيه كما لو أنها تبحث عن رجل يعرف متى يتراجع.
“إنهم لن يتراجعوا مرة أخرى، وجورج نحن لن نحتمل موجة ثالثة.”
ابتسم، تلك الابتسامة التي لا تأتي من الفرح بل من عناد ولد في العظام.
“وإن تراجعنا الآن، لن نصمد بعدها يوما.”
“القصر لا يحتمل حربا أخرى، جورج.”
اقترب منها، كأن المسافة بينهما هي ساحة المعركة الأخيرة:
“ولا يحتمل أن يرى ضعيفا أكثر.”
سكتت لكنها لم تبتلع كلماتها فقط تأملته طويلا، كأنها تود أن تتأكد أنه ما يزال ابنها.
“هل ستبدأ الليلة؟”
“لا جرس، لا نداء… فقط ترتيب البداية لا تحتاج ضجيجا.”
“ومن أول من يتحرك؟”
ألكسندرا لم تفهم مايدور في ذهن ابنها.
جورج ينظر إليها بنظرة سخرية”أنت… بصمتك فقط.”
طأطأت رأسها قليلا ثم قالت:
“افعل ما تراه صوابا، لكن لا تضع اسم العائلة أمام فوهة المدفع.”
اقترب، نظر في عينيها، وقال:
“سأضعه خلفها.”
خرج من الغرفة كمن خرج من صمت طويل، حاملا قرارا لا عودة فيه.
في الخارج، كان ديميتري واقفا كأن الوقت نفسه ينتظر أمرا.
“اجمع الملفات، الليلة نبدأ وغدا نتحرك.”
“اجتماع مصغر؟”
“لا فقط أريده وحده.”
تابعا السير في الرواق الطويل.
في الداخل، كانت ألكسندرا ما تزال واقفة تحدق في لهب المدفأة كأنها ترى نارا أخرى قادمة من بعيد لا تشعلها الحطب، بل قرار ابنها.
مع هذا، لم تهتز في مكانها.
كانت تحدق في اللهب وكأنها تحاول أن تتذكر آخر مرة احترق فيها القصر، لم يكن الحطب هو السبب.
بل قرار مثل هذا وفي عينيها، لم يكن الانكسار بل إدراك قاتل: أن الحرب هذه المرة ستأتي من الداخل.
من نافذة المكتب، رأى ظلا يتهادى في الحديقة.
ماري.
بثوب نوم بلون الرماد، ووشاح داكن يشد كتفيها كأنهما لا يريدان السقوط.
كانت تحمل شمعة، لا تضيء الطريق بل تظهر كم هو معتم ما حولها.
شمعة ضئيلة بين يديها بالكاد تمنع الظلمة من التقدم، جلست على المقعد الحجري وحدها.
ظهرها مستقيم، رأسها ساكن والنار الصغيرة تومض بين يديها كما لو أنها تخشى أن تنطفئ بها لا بها.
لم تلتفت.
بقي يراقبها لحظة ثم أغلق الستار وسقط المشهد في صمت لم يفسر.
التعليقات لهذا الفصل " 13"