كانت الشمس قد بلغت كبد السماء، لكن ضوءها بدا وكأنه يستأذن قبل أن يلمس الرخام.
الهواء في الممرات لم يكن يتحرك، بل يسترق السمع.
خطوات جورج كانت ثابتة، لا تسابق شيئا ولا تنتظر أحدا، كأنها تعرف أن من يسرع يراقب ومن يتباطأ يستدرج.
عند نهاية الرواق الجنوبي، فتحت نافذة ليس بيد أحد بل كأن القصر نفسه قرر أن يتنفس.
من خلف الستارة، صوت ناعم لا يبحث عن لفت النظر، بل يختاره:
“لماذا لا تطرق الباب، يا سيد جورج؟”
توقف.
لم يلتفت.
قال بصوت أقرب إلى حافة سيف:
“لأن الطرق يمنح لمن ينتظر إذنا.”
الستارة أزيحت ببطء.
ظهرت الأميرة.
نايله.
مظهر لا يتوسل الجمال، بل يختصره و وقوفها لم يكن زينة بل بيان موقف.
قالت، وهي تتقدم نحوه بخطى هادئة:
“سمعت أن الإمبراطور استقبلك بلا مرافقة تلك علامة.”
أجاب، وعيناه على الفراغ أمامه:
“ربما… أو مجرد فخ منمق.”
ابتسمت.
لا كأنثى بل كخبيرة تشتم رائحة الخطر وتدعوه إلى الرقص.
“وهل ستقبل الرقصة، يا سيد الحرب؟”
أجابها:
“تعتمد على اللحن… ومن يعزف.”
توقفت أمامه مباشرة.
العطر كان خفيفا.
لا يغزو، بل يترك أثرا يشبه ذكرى نجت من النسيان.
قالت، بلهجة لم تكن مهادنة ولا ساخرة:
“القصر مزدحم بأشخاص يكثرون الكلام ويخشون الفعل.”
نظر إليها أخيرا.
نظرة لا تزن الجمال… بل المعنى.
قال:
“وأنت؟ ماذا تخشين؟”
ردت، بصوت يشبه الكتابة بالحبر الأسود:
“أخشى من الصمت إذا نطق… ومن النطق إذا كان سلاحا في يد خاطئة.”
مرت لحظة، ثم أشارت بيدها نحو الشرفة.
“تعال، دعنا نتحدث حيث لا تسمعنا الجدران.”
سارا معا.
الطريق لم يكن طويلا، لكن الصمت بينهما كان ممتلئا أكثر من أي حديث.
عند الدرابزين الحجري، وقفت وقالت:
“ستطلب منك أمور كثيرة… بعضها نيابة عن العرش وبعضها بالنيابة عن الظل.”
“وأنت؟”
“أنا لا أمثل أحدا… سوى الحقيقة التي يخشاها الجميع.”
أجابه بنبرة منخفضة:
“الحقيقة بلا سلاح… تموت واقفة.”
ردّت بنبرة أعمق:
“لكنها تدفن في قلوب لا تعرف الموت.”
نظر جورج إلى الساحة السفلية.
الخدم يمشون كأنهم بيادق و الحرس يبدون كمشهد مرسوم بدقة لا عفوية فيها.
قال:
“هل من سبب حقيقي لدعوتك؟ أم أنني لوحة يجب أن تتأمليها؟”
ابتسمت، وهذه المرة ابتسامة صدق نصفها شفقة ونصفها تحد:
“دعوتك… لأذكر
الذي يعرف متى يصمت، هو وحده الذي يستحق أن يسمع.”
ثم أدارت ظهرها ومشت.
لا استعجال، ولا تباطؤ وحين غابت عن نظره سمع صوت الريح أخيرا وقد قررت أن تتحرك.
عاد جورج إلى جناحه في الطابق الشرقي.
الهواء هناك لم يكن مختلفا لكنه بدا كأنه يراقب.
فتح الباب، دخل.
الصمت داخلي لكنه ليس فارغا.
كل شيء كان في مكانه، عدا شيء واحد.
ورقة مطوية، تحت الباب و نصفها ما زال عالقا في الخارج.
انحنى ببطء، التقطها.
لم يكن ظرفا مختوما،ولا ختم إمبراطوري ولا حتى توقيع نبيل.
فقط طي نظيف، كأن من وضعها لا يحب الفوضى لكنه يجيد زرعها.
فتحها.
خريطة بسيطة.
ممر خلفي في القصر، يؤدي إلى غرفة صغيرة لا يُستخدم فيها الحرس ولا تزرع فيها الزهور.
وفي الزاوية السفلى، كتب بخط دقيق كالسم:
“ليست كل الطرق تؤدي إلى العرش… بعضها يقود إلى المقصلة.”
جورج لم يرم الورقة، ولم يهرع.
بل جلس.
وضع الورقة على الطاولة.
تأملها.
العقل لم يتحدث بعد، لكن الغريزة كانت تصرخ من الداخل.
“من أرسلها؟ نايله؟ لا، الأسلوب لا يشبهها.”
“الإمبراطور؟ مستبعد لا يلعب بالخيوط بل يقطعها.”
“إذا من؟”
أحس فجأة أن الجدران أقرب مما يجب وأن الهواء ثقيل لا بسبب الصيف بل لأن أحدا لا يريده أن يتنفس طويلا.
نهض.
فتح نافذته.
في الأسفل، لا أحد و لكن هناك إحساس بأن العيون لا ترى، لكنها موجودة.
هناك فقط، تحفظ الأشياء التي إما تنقذك أو تقتلك.
قال لنفسه بصوت شبه مسموع:
“إذا كان هذا اختبارا فمن الأجدر أن أكون أنا من يضع الأسئلة.”
ثم خرج.
خطوته الأولى كانت بلا صوت، كأنه قرر أن يبدأ اللعبة بقواعد لا يعرفها أحد.
وفي جناح آخر من القصر…
كانت نايله وحدها.
أو هكذا بدا لمن يمر من تحت نوافذها.
لكن الهواء في الغرفة كان مشحونا، كأن صمتا دار فيه اجتماع بلا أصوات.
جلست عند الطاولة المربعة، تقرأ شيئا مطويا بعناية.
لم يكن ذلك هو الأمر الإمبراطوري، بل نسخة مزورة و مطابقة للرسالة الأصلية.
ختم الإمبراطور واضح و الخط ذاته، لكن الفقرة الأخيرة كانت مختلفة تماما.
من زاوية الباب، انفتح ظل بهدوء.
رجل بخطى مدروسة اقترب، ثم توقف دون أن ينطق.
قالت نائلة، دون أن ترفع عينيها:
“هل وضعت الرسالة كما أمرت؟”
أومأ دون صوت.
أضافت:
“تحت الباب، دون أن يراك أحد؟”
“قبل أن يصل بدقائق، الخدم لا يشكون لأنهم لا يجرؤون على السؤال.”
أغلقت الورقة ببطء، ثم وضعتها في صندوق صغير من الفضة وأقفلت عليه القفل الذهبي.
قالت، كأنها تحكي لنفسها:
“ما وصله ليس أمرا، بل فخ بلغة الأوامر.”
“وهل سيكتشف التزوير؟”
نظرت إليه أخيرا.
كانت نظرتها هادئة… لكنها لا تسمح بالخطأ.
“هو لا يُخطئ في القراءة لكنه يخطئ حين يعتقد أنه الوحيد الذي يقرأ.”
وقفت.
سارت إلى النافذة، ثم تابعت بصوت منخفض لا يخاطب أحدا بعينه:
“لن أسحب منه السلطة بل سأجعله يشك في كل ما بيده.”
“وعندما يبدأ في السؤال سيبدأ في السقوط.”
خرج الرجل بهدوء.
وبقيت وحدها مع الضوء المسكوب على أطراف فستانها ، تتأمل قصرا من حجر وتبني فوقه قصرا من احتمال.
التعليقات لهذا الفصل " 12"