كانت الظهيرة قد حلت، ثقيلة لا تبشر بشيء.
الضوء المسكوب على الأرصفة بدا كذهب شاحب، فقد لمعانه من فرط الانتظار.
توقفت العربة الداكنة أمام بوابة القصر الملكي، فصرخت العجلات على الحصى كأنها ترفض التوقف.
فتح الخادم الباب بصمت، وانحنى دون أن ينبس.
نزل جورج.
خطوته الأولى بدت كأنها توقظ الأرض تحته.
مظهره أنيق بلا غرور، صارم بلا عسكر.
لم يكن مظهره يقول من هو بل يشوش عمن يمكن أن يكون.”
رفع عينيه نحو الواجهة الرخامية، النوافذ المرتفعة بدت كعيون تنتظر أن تغمضها الحقيقة.
لم يحدث أحدا ولم يحدثه أحد.
الحاشية وقفت على الجانبين، كما لو أن عودته مرسوم عليها الصمت بقلم ملكي.
دخل.
مر عبر الردهة الطويلة، الأرضية اللامعة تعكس ظله دون أن تمنحه شكلا.
عند البساط الأحمر، توقف.
لم يخط فوقه، بل انتظر أن يستدعى.
وحين فتح باب القاعة، دخل بثقل يشبه الإعلان لا الطلب.
وقف الإمبراطور ويليام أمام النافذة، لا يلتفت.
ذراعاه خلف ظهره، وجسده متيبس كتمثال ينتظر أن يتهدّم.
انغلق الباب خلف جورج.
لم يتحرك أحد.
الهواء في القاعة كان كثيفا كأن الزمن قرر أن يحبس أنفاسه.
قال الإمبراطور، دون أن يستدير:
“تأخرت.”
نبرة لا تسأل… تعلن.
رد جورج بثبات:
“وصلت حين وجب الوصول، لا قبل ولا بعد.”
تحرّكت كتفا ويليام قليلا، ثم استدار ببطء.
نظرتهما اصطدمت، لا ترحيب و لا عتاب… فقط اشتباك صامت بين ذاكرة تأبى أن تموت وأخرى تُصرّ على البقاء.
قال ببرود:
“تظن أن الزمن يعمل لصالحك؟”
فأجابه جورج بحكمة:
“لا أظنه يعمل لأحد.”
مد الإمبراطور ظرفا مختوما نحوه، دون اقتراب:
“هذا ما جلبوك من أجله، اقرأه وافعل ما ينتظر منك.”
أخذ جورج الظرف، فتحه بهدوء، قرأ، ثم وضعه على الطاولة كمن يُعيد فكرة إلى قبرها.
“أوامر واضحة… غير أن الوضوح لا يثبت الصواب.”
“أُعطيك السلطة، لا الرأي.”
“وأنا أستخدم الأولى كي لا أخضع للثانية.”
ابتسم ويليام ابتسامة باردة، لم تبلغ شفتيه:
“لا زلت تتحدث كأنك لم تغادر الحصن يوما.”
“ومن قال إنني عدت إليه؟”
تقدم خطوة.
صوت حذائه على الأرضية الرخامية كان حادا، كأنه يجر خلفه قرارات لا رجعة فيها.
“أنت لا تأتي إلا حين تختنق الساعات.”
صمت.
استدار الإمبراطور نحو المرآة، تأمل انعكاسه كأنه لا يراه.
“الأوطان لا تبنى بالمرايا.”
توقف الزمن لحظة.
“إذا، أخبرني… هل عدت لتبني أم لتهدم؟”
ابتسم جورج إبتسامة غير مفهومة.
“عدت لأن الصمت صار خيانة والولاء قيدا.”
لم يجب ويليام، فقط ثبت عينيه عليه كأنه يختبر وزنه لا موقفه.
تحرك جورج بهدوء نحو الباب، لا انحناء و لا وداع.
فتح الباب وخرج وصوت خطواته كان كافيا ليقول:
“اللقاء انتهى… أو بدأ الآن.”
دقت خطوات جورج الرخام البارد عند خروجه من عرين الإمبراطور ورنينها لم يثر سوى الصمت.
لم يكن في الاستقبال حرس ولا صفوف من الموظفين المتملقين فقط الردهة تنبض بهواء راكد، كأنها تراقبه.
دخل جورج البهو الداخلي للقصر بخطى رزينة.
كانت ظهيرة باهتة، تكسو الجدران ظلالا باردة وتعكس النوافذ صمتا يشبه برك الزئبق الراكد.
لم يرفع عينيه عن الأرض الرخامية إلا حين توقف أمام الجنرال ألفيرد.
كان الجنرال واقفا بانتظام غير مفرط، كأن حضوره معد سلفا.
يديه خلف ظهره وعيناه تترصدان خطوات جورج كأنها تتفرّس شيئا يعرفه جيدا وربما يكرهه أكثر.
قال ألفيرد بصوت لم يعل، لكنه اخترق:
“دعيت إذا.”
رفع جورج نظره أخيرا، لا بحدة بل بنظرة تعلوها طبقة رقيقة من التهكم.
“بل سحبت.”
أجابه دون انفعال، ثم التفت قليلا إلى إحدى اللوحات الطويلة وكأنه يقيس مدى تدهور الذوق الملكي.
“رأيت أنك لم ترتد الشارة هذه المرة، أهذا عصيان؟”
“بل اختيار، يبدو أن الأوامر الجديدة لا تشترى بالشعارات القديمة.”
صمت، ثم تقدم خطوة.
لم يمد يده، ولم يطأطئ رأسه.
فقط قال:
“هل نحن هنا من أجل المسرحية المعتادة، أم أن الستار رفع أخيرا؟”
ظهر على فك ألفيرد انقباض خفيف.
لم يجب مباشرة.
راح يخطو ببطء حول جورج، كما لو أنه يختبر ظله.
“لا تزال كما أنت… لسانك أبرد من معاطف الشتاء وخطاك لا تسمع… لكنك نسيت من بيده الخنجر.”
“ومن قال إنك الوحيد الذي يُجيد الطعن؟” أجابه جورج بهدوء وهو يتجه صوب الباب الآخر، دون أن ينتظر إذنا أو يتلفت.
ألفيرد لم يمنعه.
فقط قال، بصوت خفيض بالكاد سمع:
“ستستدعى من جديد، لكن المرة القادمة لن تكون لمقابلة.”
فتح جورج الباب، توقف لحظة كأن شيئا في الهواء اختنق، ثم رد بنبرة ناعمة كطرف شفرة:
“إذا حدث ذلك، فاجعل تابوتك جاهزا.”
ثم مضى، فيما بقي الجنرال واقفا يحدق في الضوء الباهت الذي تسرب من الباب المفتوح، كأنه يدرك أن لعبة الشطرنج قد بدأت للتو.
خارج القاعة، كانت الممرات أكثر هدوءا من المعتاد كأن الهواء نفسه يترصد.
مشى جورج بخطى ثابتة، لا يلتفت، ولا يُظهر انزعاجا .
لم ينظر إليها… فقط دسّها في جيبه الداخلي، كأنه يعرف محتواها دون قراءتها.
من خلف إحدى الأعمدة، ظهرت خادمة شابة وقفت لدقيقة تراقبه يبتعد ثم همست بخوف:
“لقد وصل…”
صوت خفيض آخر جاء من الظلال:
“نعم… وبدأ العد التنازلي.”
ثم عاد الصمت، كأن القصر بكامله بكل زخرفته ومرآته المصقولة، يحبس أنفاسه في انتظار الفوضى القادمة.
التعليقات لهذا الفصل " 11"
شو لفت انتباهكم بهذا الفصل