استيقظ جورج في ساعة باكرة، قبل أن تستيقظ الشمس من خلف ستائر الضباب.
لم تكن غرفته، بل غرفة المعيشة الجانبية التي اعتاد أن ينسحب إليها حين يعجز النوم عن التصالح مع رأسه.
لم يحتج لتفسير، فالعتمة وحدها كفيلة بأن تشرح لروحه لماذا لم يعد مكانه في سريره مقنعا.
نهض من على الأريكة الجلدية، وجلس للحظة كأنما يستعيد جسده من حلم ثقيل.
لم يكن منهكا، بل يقظا على نحو مؤلم ضغط على زر الجرس القديم بجانب المدفأة.
لم تمض دقيقة حتى خادمة شابة دخلت بانحناءة صامتة.
قال جورج دون أن ينظر إليها:
“أخبريهم أن يحضروا لي حماما… لا باردا ولا حارا، دافئ بالكاد.”
خرجت الخادمة ، وبقي هو يتمدد في وقفته لحظة ثم أخذ طريقه إلى الحمام الكبير، حيث ينتظره ماء معطر بأوراق النعناع اليابس وخليط خفيف من المسك، جهز كما أوصت والدته ذات مرة “لينعش الدم لا ليثمله”.
بعد الاستحمام، ارتدى ملابسه ببطء مدروس.
سترة داكنة بلا أكمام، قميص أبيض مكوي بعناية، وربطة عنق من الحرير الرمادي تعقد عنقه كما لو أنها توقيعه الرسمي وسلسلة جيب فضية تتدلى من جيب سترته كأنها تذكره بأن الزمن لا ينتظر أحدا.
في بهو المنزل، لمح من بعيد أثر والدته تجلس بصمت أمام نافذة الطعام.
كانت ترتدي فستانا كحليا بسيطا، تتأمل فنجان الشاي الذي لم تلمسه.
مر بقربها، وطبع قبلة خفيفة على جبينها دون كلمات.
لم يكن في الأمر وداع، بل نوع من الاعتذار المؤجل.
توجه إلى مكتبه.
جلس خلف الطاولة، وسحب ستارة النافذة، ليكشف عن الحديقة الشتوية وقد كسَتها قطرات الصقيع كأنها مجوهرات حزينة.
كان يستعد للكتابة، أو التظاهر بالكتابة حين طرق الباب طرقا خفيفا.
دخلت مسؤولة الخدم بزيها الرمادي المعتاد.
بين يديها ظرف عاجي، مختوم بشمع ملكي أحمر تحمله مسؤولة الخدم الخدم فقط حين لا يُسمح لأي حرف أن يقال قبل الحبر.
وضعته أمامه وانسحبت كما تدخل الطيف، أمسك جورج بسكين فضي، وكشف الختم.
📜 الرسالة الملكية:
> مملكة ثورنهيلم الملكية
ختم القصر الملكي – بتاريخ السادس عشر من شتاء العام1846
إلى حضرة الدوق جورج إلدرايث
ابن الدوق هنري الأسبق، تحية تليق بمقامكم النبيل
بناء على مداولات المجلس الملكي المصغر، ووفقا لما تقضي به أعراف البلاط في حالات الشغور غير الرسمي للمناصب العليا وبالنظر إلى ما آل إليه الوضع العام في شؤون التاج والعلاقات الدولية المستجدة مع ممالك الشمال.
يطلب منكم الحضور الفوري إلى القصر الملكي الكائن في العاصمة وذلك للتشاور العاجل بشأن المسائل ذات الطابع السيادي والتي لا يمكن البت فيها دون إطلاعكم ومساهمتكم المباشرة، بوصفكم أحد حملة الدم النبيل والمخولين سابقا بمهام داخل المجلس الاستشاري الأعلى.
حضوركم لا يعد التزاما فخريا، بل ضرورة تقتضيها المرحلة الراهنة حفاظا على توازن البلاد.
بسم جلالة الملك فريدريك الأول، ملك ثورنهيلم وسيد المقاطعات الجنوبية.
أمين الختم الملكي، اللورد ڤارسين لوكستر
طوى جورج الورقة، ثم أعاد فتحها.
ليس شكا في محتواها، بل كما لو أنه كان يبحث عن جملة غابت أو تورية خبيئة بين الأسطر.
لم يجد.
قال أخيرا، بنبرة ساخرة بالكاد تخفي شيئا:
“إذا لم يتم إعفائي رسميا… كل هذا الوقت وهم يحتفظون بمقعدي.”
نهض، توجه إلى خزانة الكتب وأخرج منها صندوقا صغيرا بداخله خاتمه الرسمي القديم، نظر إليه طويلا ثم وضعه في جيبه.
فتح الباب، وتحدث إلى رئيسة الخدم:
“أبلغي سيباستيان أن يجهز العربة فورا،سأغادر خلال نصف ساعة… إلى ثورنهيلم.”
أغلق الباب خلفه، كأنما يطوي ما تبقى من عزلة ومضى نحو ما لا يمكن التراجع عنه.
خرج جورج من مكتبه بخطى لا تحدّث الأرض، بل تكتب فوقها.
لم يكن في حركته استعجال بل نوع من التوقيت الموزون، كأنه يضبط نبض اللحظة.
خلفه، بقيت النافذة نصف مفتوحة، والرسالة الملكية مستوية على سطح الطاولة كما لو أن وجودها هناك كان مقصودا، لا مهملا.
على حافة السلالم، توقف دون أن يبدو عليه التردد، عيناه مرتا على الفراغ تحته لا بحثا عن وجه، بل كأنه يحصي صدى من لم يظهر بعد.
نزل.
خطوة، فخطوة… صوت حذائه الرصين ارتطم بخشب السلم الملمع، ليس كضجيج بل كإعلان خافت عن حضور لا يطلب إذنا.
عند المدخل، وقف سيباستيان دون أن ينطق.
فقط أمال رأسه تحية، كأنه يعلم أن الكلمات لا تنفع في هذا النوع من اللحظات.
لكن شيئا غريبا حدث.
ضحكة أنثوية.
ناعمة كوشوشة حرير في ممر مهجور.
لم تكن عالية، لكنها بلغت جورج تماما كما تدس ورقة داخل جيب مغلق.
رفع عينيه للحظة، لا نحو مصدرها بل نحو الليل.
ثم ركب.
جلس كأنه في قاعة عرش خفية، لا في عربة.
أغلق الباب وراءه دون أن يلتفت وترك الضحكة تتبخر خارجا، كأنها نقطة في معادلة لم يحن وقت حلها.
تحركت العجلات وابتلعتها عتمة الطريق ببطء وفي داخل العربة، ساد الصمت.
صمت لم يكن خاليا…
بل مليئا بشيء لم يكشف بعد.
شيء يشبه ابتسامة لا تظهر، أو خطة لم تبدأ أو خيانة لا تزال تتنفس في الظلال.
وكان جورج يفكر، لكن لا أحد سيعرف بما فكر.
ليس بعد.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 10"
اتمنى اغنية الفصل والفصل نال اعجابكم