1
كانت ماري تعيش، لا كما يحيا الناس، بل كما يترك الغصن اليابس معلّقًا في شجرة لا يذكر أحد سبب بقائه.
تمضي في أيامها كمن يؤدي طقسا لا يدري لم وجد، ترسم ابتساماتها كما ترسم الريح خطوطا على الرمل، لا تبقى ولا تعني شيئا.
لم يكن في وجهها ما يلفت، إلا ذلك الحزن العميق الذي لا يظهر للعين، بل يستشعر كالرطوبة التي تسبق المطر وكالسكينة الثقيلة التي تسبق الفوضى.
حزن لا يحتاج إلى كلمات، بل إلى صمت يشبه صدى قلب أضاع طريقه.
ذلك النوع من الحزن الذي لا يصرخ، لا ينهار، لا يحدق بك في المرآة ليسألك “لماذا؟”
بل يجلس في زواياك، صامتا، كضيف قديم لم يغادر، يعرف البيت أكثر منك، ويتجول بين نبضك وأفكارك كأن له الحق في البقاء.
حزن لا يفيض، ولا يجف.
يسكنها كما يسكن الغبار بيتا مهجورا؛ لا يرى من بعيد لكنه حاضر، يلتصق بكل شيء في رائحتها و في نبرتها، في الخطوة التي تتردد دون سبب، في الضحكة التي لا تكتمل.
كان كالثقل على الصدر لا يفسر، كحبال خفية تشدها إلى قاع لا تعرفه، لكنه مألوف ولا تعرف متى بدأ ولا كيف.
لكنها تدرك تماما أنه لم يأت دفعة واحدة، بل تسرب إليها عبر السنوات، قطرة بعد قطرة حتى صار هواءها الذي تتنفسه.
هو ليس الحزن الذي يُكتب في الشعر، ولا يغنى في الأغاني.
بل حزن يتكون من تفاصيل باهتة:
من كوب قهوة بردت قبل أن تشرب أو من كتاب ترك مفتوحًا على صفحة لم تُستكمل، من مكالمة لم تأتي، من حوار لم يبدأ، من نظرة انتزعت قبل أن تفهم.
إنه الحزن الذي لا يبكي، لأنه تجاوز البكاء منذ زمن ، بات جزءا منها كأنه ظلها…
يتقدمها حين تشرق الشمس، ويلتحم بها حين يحل المساء.
هي لا تذكر آخر مرة شعرت فيها بالفرح…
لكنها تذكر جيدا أول مرة أحسّت بهذا الثقل، حين كانت تضحك والفراغ يتمدد داخلها، وحين لم يعد في صوتها رجع، بل ارتداد لوجع لم تعرف اسمه.
حزنها لا يطلب شيئا، لا خلاصا ولا عزاء.
هو فقط هناك، يراقبها كل يوم وهي تنجو بالكاد ثم تستعد للغرق من جديد.
كانت تستيقظ كل صباح على نفس الساعة، كأن الوقت سجان يوقظها ليعيد عقابها اليومي.
تعد قهوتها بصمت و ترتدي ذات المعطف و تعبر ذات الأزقة، تمر أمام ذات الوجوه وجوه لا تذكرها ولا تلاحظ أنها تتكرر و هي الأخرى، لا تحاول أن تكون.
لا تحاول أن ترى.
كانت تسكن شقة صغيرة في حي لا يحمل ذاكرة، جدرانها باهتة الأثاث فيه كأنه استعارة لحياتها كل شيء موجود لكنه بلا دلالة.
مرآتها عتيقة، فيها خدوش تعكس وجها غير مكتمل وجها تعرفه ولا تألفه.
على الجدار المقابل للنافذة، علقت ساعة متوقفة.
لم تحاول إصلاحها يوما ،كانت تحب أن ترى الوقت متجمدا، كأنها توهمت أن الخلل في الساعة قد يجمد الزمن داخلها أيضا
في قلبها غرفة مغلقة، تركتها منذ زمن، لم تجرؤ على الدخول إليها مجددا.
هناك حيث يقيم الصوت الذي لم يسمع، والعناق الذي لم يصل والخذلان الأول… ذاك الذي لا يشفى وحين كانت طفلة ظنت أن العالم بيت صغير، أنفاسه دافئة أحضانه وعود وأصواته موسيقى تطرب الطمأنينة.
لكنها كبرت سريعا أسرع مما ينبغي، كأن الأيام دفعتها من الحافة قبل أن تتعلم كيف تقف.
كشفت الحقيقة باكرا أن الأيدي التي تعد، قد تسحب أيضا.
أن الحب الذي يروى في الحكايات، لا يشبه ذلك الذي يزرع في القلوب ثم يترك ليموت دون ماء.
تعلمت أن القلب لا ينكسر مرة واحدة، بل على مراحل…
وأن أقسى أنواع الوحدة، هي تلك التي تأتيك وأنت محاطة بالجميع.
لم يكن الخوف من الآخرين ما يكبّلها، بل من نفسها.
من هشاشتها التي لا تراها، لكنها تعرف أين تسكن فيها و من تلك الرغبة القديمة، الدفينة في أن يقول أحدهم “ابقي، لن أرحل”، دون أن ترجو أو تتوسل.
كانت تكتب، لا كهواية، بل كمن ينقذ ما تبقى من عقله قبل أن ينفجر.
في دفتر مائل الأطراف، كانت تكتب عن امرأة لا تشبهها، لكنها تفهمها جيدا.
“كل مرة أنجو، أعود ناقصة أكثر…و كل مرة أقول هذه هي النهاية، أجد نفسي أكتب من جديد، كأنني لا أعرف كيف أتوقف.”
هكذا دونت، ثم مزقت الصفحة كما تمزق الأيام من تقويم الحياة، ولا شيء يتغير.
عادت للورقة البيضاء، تلك التي لا تحمل أحكاما، لا ترفض ولا تصفح فقط تنتظر.
في الليل، كانت تنهار ببطء ليس بكاء، بل صمتا، ذلك الصمت الثقيل الذي يحطم دون أن يصرخ ويؤلم دون أن يلمس المدينة تنسحب إلى ظلالها، والمصابيح في الشوارع تنطفئ رويدا وماري تغلق نافذتها لتمنع الريح من كشف ما تبقى من ضعفها.
كانت تقف أحيانا أمام نفسها في المرآة، لا لتزين، بل لتبحث عن أثر.
عن شيء يثبت أنها لم تتحول إلى ظل، أو إلى ذكرى تمشي في جسد حي ،في عملها كانت تؤدي ما يطلب منها بدقة عمياء.
لا تخطئ، ولا تتألق.
كانت ماري أشبه بالظل الذي يؤدي مهامه بدقة مدهشة دون أن يصدر عنه أثر، تنفذ المطلوب منها كما يؤدى النشيد في مدرسة قديمة ، آلي بلا روح.
تمر عبر أيام العمل كأنها طيف أدمن الغياب، جسد حاضر وعينان لا تمسكان بشيء.
يدها تكتب، عقلها يحسب فمها يرد بأدب لكنها من الداخل كانت بعيدة بعيدة جدا، كما لو أن كل ما يدور حولها يحدث في غرفة أخرى لا تخصها.
زملاؤها يمرون بجوارها كما يمر المرء بجانب شجرة على الرصيف، يرونها ولا يلتفتون.
لا أحد يسأل عن شيء و لا أحد يتوقف ليقرأ الصمت المكدس في ملامحها، أو ذلك الشرود المتكرر في عينيها و هي أيضا… لم تكن تطلب الالتفات.
ما كانت تبحث عن اهتمام ولا عن صداقات و لا تشارك في الأحاديث العابرة، لا تضحك على النكات التي لا تحمل طرافة، لا تبدي رأيا في قضايا المكتب ولا تتطوع للظهور في الصور الجماعية حين يحتفل أحدهم بعيد ميلاده.
وجودها كان أشبه بالفراغ المنظم.
جزء من المكان، لكن لا أحد يتوقف ليسأل: “من هي؟”
وإن غابت، فإن أول ما يقال: “هل كانت هنا أصلا؟”
لكنها بدأت تشعر في الآونة الأخيرة أن شيئا ما يتغير ولا تدري ما هو.
ليست المشاهد ولا الناس ولا المكان بل تلك النظرة في عينيها حين تستفيق…
نظرة فيها شيء من الشوق، لكنه ليس لشيء معروف كأن الحزن داخله انقلب…
صار يمهد الطريق لشيء غريب… لا حب ولا أمل بل انتظار.
انتظار لا تعرف له اسما ولا سببا.
لم تكن الحياة تجرحها بشدة… بل كانت تتركها حية بالكاد ،تمنحها ما يكفي لتبقى واقفة، وتسلب منها ما يكفي لتبقى فارغة.
وفي آخر الليل، حين يسكن كل شيء، تسمع صوتا داخليا يهمس
“ستحدث الأشياء قريبا وما أنت عليه الآن ، لن يكفي لما سيأتي. ”
وما أنت عليه الآن، لن يكفي لما سيأتي.”
ولأول مرة، لم تخف.
ابتسمت ابتسامة لا تنتمي للفرح، بل تشبه ذبول زهرة لم يُقطفها أحد، لكنها أرهقها الانتظار.
كانت تلك الابتسامة كأنها انحناءة صغيرة أمام ما لا يقال، لا يُفهم، ولا يطلب.
لم يكن في شفتيها وعد، ولا في عينيها ضوء، بل شيء يشبه التصالح المر مع السقوط…
استسلام بلا انكسار، كما يستسلم المسافر للصحراء حين تبتلع آخر خطواته لا لأنه تعب، بل لأنه أدرك أن لا وجهة له.
كأنها وافقت، لا طواعية، بل لأن الرفض نفسه فقد معناه.
لم تفهم لم تحرك شيء في صدرها حين حل الليل بصمته، ولماذا شعرت أن ثمة ستارا يسدل على فصل لم يكتب بعد.
ما كانت تنتظر شيئا، لكنها شعرت، دون منطق أو صوت، أن الحكاية بدأت، لا كالعواصف التي تقتلع بل كالماء حين يتسرب من شق خفي في جدار هادئ، لكنه لا يتوقف حتى يهدم.
لم تعرف من أين، ولا كيف ولا متى…
لكنها أدركت بحس لا يعلم، أن الأرض التي تحت قدميها بدأت تتحرك، وأن سكونها الطويل لم يعد كافيا لتخبئة الزلزلة المقبلة.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 منتدى المانهوا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 منتدى الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 5 - عودة الغائب إلى عرينه منذ 20 ساعة
- 4 - عتمة لها صوت منذ 3 أيام
- 3 - حين هربت الأشجار 2025-07-01
- 2 - المظلة التي لم تغلق 2025-06-29
- 1 - قبل أن أعرفني 2025-06-28
التعليقات لهذا الفصل " 1"