الفصل الثاني: شقيقة البيهموث.
أول ما أدركته كينيميا وهي تُبقي أيان إلى جوارها هو أنّ مجرد بقائه قربها يكفي ليجعل الجميع يرمقها بنظرات إعجاب مبهوتة.
“يا للعجب، ريكاشا يحرس الآن سيدتنا الصغيرة؟”
“نعم! الأمر أنّه… في الواقع…”
وبحسب الشائعات المتداولة في قصر الدوق، كانت حكاية بطولة كينيميا التي ظهرت فيها ريكاشا تسير على النحو التالي:
كينيميا ليون (ابنة الدوق / 11 عاماً)، تلك التي تمشي وخلف رأسها هالة من النور، علمت في أحد الأيام بأنّ المجرم الشنيع الذي اقتحم أراضيها ليس سوى فتى بسنّها.
“ربما كان مجرماً فظيعاً، لكنّ الأطفال يستحقون الرحمة!”
هكذا تقول الرواية. كينيميا ذات القلب الواسع، التي تشبه القديسين بزرقة قلبها، نزلت بنفسها إلى السجن السفلي لتُحرّر ذلك الصبي.
قيل إنها استخدمت التوبيخ الشديد ممزوجاً بالعطف الرقيق لتلين قلبه… وعندها نهض أيان، محطّماً قيوده بقوته الخاصة، وقال:
“أيتها الفتاة… لقد تأثّرت بسخائكِ. بلغني فضل سعة صدركِ، وسأحميكِ من الخطر.”
“حسناً يا ريكاشا، سأقبل عونك بكل سرور.”
وهكذا انتهت الحكاية إلى أنّ كينيميا نالت حارسها الشخصي… شائعة امتلأت بالمبالغات من طرفها إلى طرفها.
“كنت أعلم أنها ستصنع عظيماً في المستقبل! لقد وُلدت وصوت بكائها يهزّ الجدران!”
“وأنا أيضاً! كنت أعرف وهي ما تزال في بطون أمهاتها أنها ستكون مختلفة!”
“صحيح! انظُرن إليها الآن، حتى مع كل تلك الشائعات السيئة، ثابتة شامخة. حقاً إنّ عزيمتها ليست كعزيمة غيرها.”
لم تعرف كينيميا مَن الذي نشر تلك الشائعة المثيرة للسخرية…
لكنّها احمرّت قليلاً تحت وطأة النظرات المشوبة بالإجلال.
…ربما هذا ليس سيئاً تماماً.
ثم أدركت الأمر الثاني: مهما تظاهر أيان كروتز بالهدوء والتصرف كلطيفٍ ضخيم الجثة… فهو ليس شخصاً جيد الطباع مطلقاً.
مثل ما يحدث الآن تماماً.
وقفت كينيميا تحدق في أيان الذي كان يُفرغ عشرات قطع البسكويت في سلة القمامة دون اكتراث.
“ما هذا الذي تفعله؟”
“الخادمات أعطَينني إياه.”
أجاب أيان ببرود.
ولأن ملامحه جميلة… بل جميلة جداً على الرغم من أنها تكره الاعتراف بذلك، ولأنّ لقب لِيگاشا يرفرف فوق رأسه، فقد أصبح أكثر شخصية محبوبة لدى الخادمات الصغيرات.
ربما لهذا أعددن له البسكويت بحرص شديد.
“لكن لماذا ترميه؟ ألن تأكله؟”
وحين رمقت كينيميا البسكويت الملقى بحسرة، مال أيان برأسه قليلاً وقال:
“ولماذا يجب أن آكله؟”
“…..؟!”
إجابة صدمت تفكيرها.
“لأنه… أُعِدَّ خصيصاً لك! إنه دليل اهتمامهن بك…”
لكن أيان – بوجه لا يعرف معنى الامتنان – سأَلها:
“وماذا في ذلك؟”
كم تبلغ نسبة البشر الذين قد يجيبون “وماذا في ذلك؟” حين يُقال لهم إنّ شخصاً ما قدّم لهم هدية بجهد واعتناء؟
خطر ببال كينيميا كلمات مثل: اعتلال الشخصية، اضطراب معاداة المجتمع، سيكوباتية… ثم أصدرت أمراً إلى أهل القصر ألّا يقدّموا له شيئاً بعد الآن.
وأخرجت “المفكرة” خاصتها ودوّنت تحت اسم أيان:
[أيان]
الضغينة: نجمة ؟ / 10
الخطورة: 10 / 10
ملاحظة: اضطراب في الشخصية (معادٍ للمجتمع).
كما توقعت… خطرٌ محدق.
***
قاعة اجتماعات قصر الدوق.
كان أول من كسر الصمت بين المستشارين هو الكونت برون.
“أليس الوقت مناسباً للاستعداد؟”
“استعداد لأي شيء؟”
سأله الكونت دينيس الذي كان دائم الاصطدام به. فعبس برون وقال:
“اللقب طبعاً! منصب الدوق لا يزال شاغراً، فإلى متى تبقى سيدتنا الصغيرة مجرد ابنة دوق؟ إنّ الإمبراطور…!”
“إيّاك! لا تثرثر بما قد يجرّ الأذى على سيدتنا!”
“على أية حال، بما أنّ جلالته يؤجّل الموافقة على وراثة اللقب، أليس علينا نحن أن نتحرك هذه المرة؟”
“بهذا الشكل المفاجئ؟”
تساءل البارون روميو.
“مفاجئ؟ ألم تسمع يا بارون روميو؟ هل نسيت كم هي عظيمة سيدتنا الصغيرة؟”
“آه…”
تذكّر الروايات… وهزّ رأسه. فابتسم برون راضياً.
“لقد نضجت تلك الصغيرة وأصبحت راشدة بحق. فمن الواجب أن نكون سنداً لها.”
“وهذا السند هو السعي لمنحها اللقب؟”
“لا يمكن تنفيذ الأعمال الكبيرة دون مكانة تليق بها. وأنت تعلم ذلك أيضاً.”
“… صحيح، ولكن… حصولها على اللقب يعني أيضاً تضاعُف مسؤولياتها. هذا إن تركنا وضع أسرة ليون داخل الإمبراطورية…”
قطع الكونت دينيس كلامه. فهو يحب كينيميا كباقي المستشارين، ولهذا أراد لها أن تعيش حياة هانئة كأميرة مدللة داخل القصر.
وخاصة أنّ كينيميا الحالية ليست كينيميا السابقة.
ففي مجتمع النبلاء تنتشر الشائعات السيئة عنها كالحقيقة، ولهذا اعتقد أنّ بقاءها داخل القصر تحت حماية الجميع خير لها.
حتى برون الذي كان متحمساً، خفَت صوته.
عندها التفت البارون روميو نحو الماركيز إيلاي الذي كان يبتسم راضياً.
“ما رأيك يا سيد إيلاي؟”
“أنا؟”
نظر إليهم الماركيز إيلاي بوجه بشوش وقال بود:
“أعتقد أنّ سيدتنا الصغيرة ستتجاوز أي ظرف مهما كان.”
“حقاً؟”
“سيد إيلاي لطيف على سيدتنا الصغيرة أكثر من اللازم.”
“صحيح.”
“ألم يكن كايت العظيم ابن التاسعة حين قطع رأس القائد المعادي في سالو؟ أما سيدتنا الصغيرة، فقد كانت منذ صغرها ذات ذاكرة خارقة… والآن بلغت الحادية عشرة، فلا يمكن اعتبارها طفلة وحسب. أنا… سأدعم كل ما تريده.”
عمّ الصمت الجميع، ثم دخل خادم قائلاً:
“سيدتنا الدوقة تدخل.”
اصطف المستشارون فوراً ونظروا إلى جهة الباب.
دخلت فتاة بشَعر ذهبي باهت وملامح لطيفة، تخطو بخفة. وما إن رفعت عينَيها الواسعتين نحوهم، حتى ارتخت وجوههم تلقائياً.
لقد كانت الدوقة الصغيرة التي ربّتها أربع عائلات بأكملها كأنها ابنتهم.
لم يكن بينهم من لا يُحبّها.
لكن الجو اللطيف ما لبث أن تبدّل حين دخل خلفها الفتى ذو الشعر الأسود… مساعدها المخيف.
فتى ريكاشا المذكور في الشائعات…
يبدو أصغر مما قيل… لكن هالته غريبة.
كيف ينظر إلينا بهذا البرود؟ حتى وإن كان صغيراً… يبقى ريكاشا! مدهش…
قال البارون روميو:
“يبدو أن فانيسا لم تحضر اليوم.”
ارتجف جفن الكونت دينيس قليلاً.
كانت مربية كينيميا ترافقها دائماً في الاجتماعات.
هل أحضرت هذا الصبي بدلاً عنها لتُظهر للمستشارين إنجازها؟
يا لها من طريقة للتعبير عن تطورها!
وما إن همّ أن يتحدث، حتى قالت كينيميا بصوت واثق:
“يبدو أنّ الجميع قد حضر.”
كان أسلوبها مهيباً.
لو كانت كينيميا المعتادة لقالت مبتسمة: “جميعكم هنا!”
شعر المستشارون بالتغيّر فوراً.
ومع علمهم بأنّ النبلاء أصحاب المسؤوليات يمرون بلحظة يستوعبون فيها موقعهم، فهموا هذا التحول اللحظي.
تقدمت كينيميا نحو مقعدها الكبير. وكان على الكرسي وسادةٌ سميكة.
لكن…
“…!”
توقفت في مكانها وقد ابتلعت ريقها.
ما هذا… جبل إيفرست؟
كان آخر من استخدم هذا الكرسي هو والدها، تروي ليون.
كان ذا قامة طويلة، فطلب كرسياً خاصاً يناسب طول ساقيه… ومزخرفاً بالذهب أيضاً.
رفعت كينيميا رأسها تنظر إلى الكرسي المذهّب. بالنسبة لطفلة… كان مرتفعاً جداً.
وكانت المربية فانيسا وحدها هي من كانت ترفعها وتضعها عليه.
راقبت كينيميا نظرات الجميع. كلهم يحدقون بها.
عليّ أن أصعد وحدي.
كانت لديها خطة خاصة، ولذلك لم تُحضر فانيسا.
لم يبقَ في القصر بعد ما حدث سابقاً سوى أربعة من الخدم، وجميعهم مخلصون ويحبّونها للغاية…
لكنها فكّرت:
بعد الآن يجب أن يكون الأمر مختلفاً.
لو تُركت كل القرارات للمستشارين، فلن تتغير الأمور أبداً.
وإن بقيت مجرد طفلة في الحادية عشرة، فسيتدخل الكبار في كل صغيرة وكبيرة.
لا يمكنني السماح بذلك.
وللتمكن من معالجة الأمور بثقة، تحتاج إلى مظهر “المالكة المهيبة”. وكان عليها أن تبني هذه الصورة الآن.
ولهذا قررت استغلال الشائعات لصالحها… فلتكن “الدوقة الشابة الجديرة بالوراثة”، وليس “الطفلة الضعيفة المختبئة في القصر”.
لكن لو بكت الآن لتطلب المساعدة فقط لأنها لم تستطع الجلوس على الكرسي…
ستكون مجرد ابنة لطيفة، وليست سيدة القصر.
حسناً… سأضع قدمي على طريق القمّة…!
وضعت كفيها على الكرسي.
هذا سهل!
خطتها: الارتكاز على اليدين ثم رفع الركبتين والصعود.
في ذهنها، بدت الحركة مثالية… خفيفة كالفراشة، ثابتة كالنحلة.
لكن…
“……!”
ما إن وضعت ركبتها، حتى انزلقت على سطح الوسادة الناعم.
“آه!”
تخبطت قليلاً، ثم… هوت لتجلس على الأرض.
“أوه…”
“يا للعجب…”
ترددت تنهدات الأسف بين المستشارين.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 4"