4
«هل تحبين شرب شاي ؟ » سأل جاكس الشرير بنبرة هادئة وهو يضع طبق الكوكيز و البسكويت على الطاولة الصغيرة في وسط حديقة الأزهار
كانت الطاولة محاطة بمظلة كبيرة مزخرفة بالورود ، تُلقي ظلًا باردًا ومنعشًا على المكان ، تحميهم من أشعة الشمس الحارقة
نظرت بومني نحو كوب الشاي الذي امتلأ من تلقاء نفسه، يتصاعد منه بخار برائحة عطرة و زاهية كأنها مزيج من الورد والياسمين
تجمدت عيناها عليه لوهلة… بدا كل شيء مثاليًا أكثر مما يجب ، لكن هذا لا يعني أنها تنوي شرب كوب شاي
«الجو… مشرق اليوم» قالت بومني بتوتر ، وهي تحاول كسر الصمت الغريب لقد كانت تداعب حافة كوبها بأطراف أصابعها
ارتسمت على وجه جاكس الشرير ابتسامة خفيفة ، ورفع فنجال نحو فمه بهدوء قبل أن يجيب بهدوء و هو ينظر لإنعاكسه فيه
«صحيح… الشمس لا تغرب أبدًا في بلاد العجائب»
ارتشف رشفة صغيرة ، ثم أكمل روايته و هو يقلب فنجان في يده قائلا : «منذ اليوم الذي سرقت فيه الابنة الثانية للملك كينغر الشمس ، اختفى الليل من عالمنا إلي الأبد …»
توقف لحظة ، صوته هبط بنغمة أكثر هدوء مكملا: «يقال أن الملك كينغر سقط في دوامة من حزن الذي لا يتنتهي… لذا سلّم العرش لابنته الأولى ، الأميرة رقاثا»
اتسعت عينا بومني ، تجمّد الكوب بين أصابعها ، حتى كادت أن تسكب الشاي على الفستانها خرج
صوتها راعشا :«ا… الأميرة رقاثا؟!»
ابتسم جاكس الشرير وهو يضع فنجانه بهدوء على الطاولة، و قال وصدره يعلو بكل فخر :«نعم، نعم… الجميلة التي تحب الورد الأحمر وتمنع أي أحد من اقتلاع أزهار حمراء في المملكة آه ، يا له من جمال…»
تجمدت بومني في مكانها، أفكارها تتراكض بسرعة كين جعل رقاثا أميرة بكل جدية ؟! وجعل كينغر ملكًا أيضا ؟! إلى أين وصلت هذه المغامرة بالضبط؟
رفعت نظرها نحو جاكس الشرير بتوتر واضح متمتمتا : «و… وأين الأميرة الثانية الآن؟ تلك التي سرقت القمر ؟»
ضحك جاكس الشرير بخفوت قائلا : «من يدري؟ ربما مازلت تفكر بسرقة شيئا اخر »
كانت بومني متفاجئة إلى حدّ كبير ، لم تتوقع أن كين ذهب بعيدًا لدرجة أن يصنع قصة كاملة بخلفية درامية وشخصيات مفصلة لكل واحد منهم
ابتسم جاكس الشرير بخفوت و هو يحدق لأزهاره ذابلة في زواية قائلا : «الوضع ليس سيئًا كما تظنين… الأميرة تحكم بعدل و إنصاف ، وهي طيبة فعلًا الأمر فقط… أن الجميع يشتاق إلى الليل ، كان يجعل الأشياء أكثر صدقًا ، أليس كذلك؟»
بومني ، لم تعرف ما يجب قوله ، اكتفت بنظرة مضطربة و ضحكة متوترة قبل أن ترفع الكوب وتشرب الشاي دفعة واحدة ، محاولة إخفاء بذلك ارتباكها
راقبها جاكس الشرير للحظة ، ثم ابتسم مجددًا ابتسامة ذكرتها ببسمت جاكس معتاد ليقول لها : «يقولون إن فتاة غريبة ستأتي من العالم الآخر و تنقذنا من هذا النهار الأبدي…»
صمت قليلًا ، قبل أن يضيف بقهقة مبغوضة:
«لكن ألا تظنين أن هذا يبدو سخيفًا بعض الشيء؟»
فجأة… توقفت النسمة هواء التي كانت تمر أمامها
كل شيء تجمّد للحظة ، الفراشات الوردية في الهواء ، أوراق الزنبق التي كانت تتحرك بخفة بفعل رياح ، حتى بخار الشاي المتصاعد من الكوب انقطع في منتصف الهواء كصورة متوقفة
رمشت بومني باستغراب ، قلبها بدأ يخفق بقوة ، ثم التفتت نحو جاكس الشرير لتجده ما زال في وضعه ذاته ، يبتسم…
عادت الفراشات للحركة دفعة واحدة ، و النسمة الباردة عادت و كأن شيئًا لم يكن
«ما هو السخيف؟» سألت بومني بحيرة وهي تحاول تجاهل ماحدث في الثانية السابقة
أكمل جاكس شرير بصوت خافت «أعني… لماذا نعلّق آمالنا على فتاة لا نعرفها ، ولا تعرفنا؟ أليس الأجدر أن نحاول نحن إصلاح ما فسد بأنفسنا؟»
لم تجبه فوراً بل هو أيضا يراقب البخار المتصاعد من كوبه و الذي كان يتشكل على وضعيات مختلفة لكين
بومني لم تملك كلمة غير صمت هي الأخرى ، غير قادرة على مجارته
كلامه بدا منطقيًا جدًا و غريبًا، لكن منطقي أكثر
جاكس الذي تعرفه لم يكن ليقول شيئًا كهذا…
ربما لأن هذا الآخر جاكس الشرير ليس مجرد نسخة معاكسة، بل مرآة تُريها زاوية لم تفكر بها من قبل من طرق التي يفكر بها جاكس
لماذا وثق الجميع في أليس أساسا ؟ لقد كانت فتاة صغيرة غريبة عنهم ، بلا مصلحة ولا سبب لإنقاذ أحد لماذا صدّقوا أنها الحل؟ هل كان الأمل في طفلة عاجزة أسهل من مواجهة عجزهم؟
تمتمت بومني بصوت خافت «لأن القصة نصّت على وجود بطل…»
أمال جاكس الشرير رأسه قليلًا إلى الجانب ، في نظرة فضولية ، لم يفهم ما قصدته
لكن الهدوء غريب في ملامحها و الشرود الذي خيّم على عينيها ، جعله يختار الصمت بدل سؤال
بعد لحظة صمت قصيرة ، قال بنبرة أكثر ابتهاجا وهو يضع مرفقه على الطاولة ، مستندًا بكفّه إلى خده :«أوه، صحيح… لماذا ناديتني بـ جاكس الشرير؟ هل أشبه أحد معارفكِ؟»
نظرت إليه بومني باستغراب ثم قالت:«أليس هذا اسمك؟»
ابتسم ابتسامة متوترة، ثم همس دون أن يرفع عينيه عن فنجان الشاي الذي ما زال ممتلئًا:«لا… اسمي فليكس»
كانت نبرة صوته متوترة تحمل خلفها لحنا من الحنين و الاشتياق و انعكاسه على فنجال شاي كان مشوه و غير واضح
بدأت عينا بومني تفقدان بريقهما تدريجيًا ، والأشياء من حولها تغدو ضبابية غير واضحة للعين إطلاقا
حاولت رفع يدها و نطق أي كلمة ، لكن ذاك الثقلُ الغريبًا سحب جسدها نحو الأسفل
خمولٌ ثقيل غطى الهواء حولها حتى أصبحت تواجه صعوبة في رفع رأسها
قال فليكس بصوت هادئ وهو يميل قليلًا نحوها ، يسكب الشاي على الأرض بلا أي مبالاة :«لو كنت مكانكِ… لما شربت شيئًا منحه لي شخص لا أعرفه»
لم تفهم ما إن كان يلومها أم يسخر منها ، لكن نبرته كانت مزيجًا لم تتوقعه من الهدوء والبرود ذاك توتر الذي كان يميزه اختفى كأنه لم يكن
وقف من مقعده و اقترب منها بخطوات بطيئة ، حتى صار ظلّه يغطيها و ربت على رأسه لوهلة
رأت وجهه من خلال عينيها غائرتين لم يعد يشبه جاكس أبدًا و لا حتى تلك نسخة الأخرى التي عرفته عنه في تلك مغامرة
همس بصوت منخفض و هو يتلمس خصلات شعرها : «الفتيات أمثالك… يسهل أن يتحطمن»
توقف لحظة ، نظر إليها مطولًا قائلا :«من مؤسف أن فتيات مثلكِ هن من يخسرنا اولا »
كان قلبها ينبض بعنف يدق كاطبل عنيف يكاد يخرج من صدرها
كل محاولة لتحريك أطرافها باءت بالفشل؛ جسدها مثقل ، وصوتها عالق في حنجرتها
كانت نظراتها المرتجفة تتشبث بوجه فليكس ؛ وجه بارد غير مبالي ينظر إليها كما لو أنها شيئا أكثر من كونها شخصا
انزلقت دمعة على خدّها بصمت ، ثم لثانية اقشعر كل جسدها معترفة بالخوف الذي كانت تحاول إنكاره
قبل أن تغمض عينيها أخيرًا ، لمحت شيئًا… طيفًا بنفسجيًا صغيرًا يعبر الهواء بسرعة البرق ، يترك خلفه أثرًا ورديًا خافتًا
في لحظة التي بدأت بومني تغيب عن الوعي ، لون الزهري حولها سقط بسرعة
✦••┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈••✦
✦••┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈••✦
✦••┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈••✦
كان آخر ما رآه فليكس قبل أن يغيب عن وعيه هو أيضا ، أرنبًا صغيرًا بنفسجيًّا منفوشًا ، يلوّح بأذنيه بخفة قبل أن يركله في وجهه ركلة سريعة و قاضية
سقط فليكس أرضًا بلا حراك قبل أن يقاوم حتى ، بينما الأرنب هبط برشاقة بجانبه ، ينفض غباره الصغير الذي تكون عليه
في اللحظة نفسها ، دوّى صوت ارتطام حاد في الأرض لضرب الارنب بنفسجي ساقه بعنف و سرعة فيها و الغضب يتجلى من ملامحه
كان مستعدًا ليمزّق ذاك القارض الزهري إربًا… لكن عادت أفكاره لحالة بومني
لمع بريق حوله و فجأة تضخّم شكله في وهج سريع ، قبل أن يعود إلى حجمه المعتاد
التفت نحوها بخطوات مترددة ، ثم جثا على ركبتيه، يزيح خصلات شعرها الطويل عن وجهها
كانت بومني نائمة بعمق خفّ نبضه ، و تلاشى الغضب من عينيه ، لتدلى عيناه براحة بينما كان بتنفس صعداء
حدّق في كوب الشاي المقلوب ، ثم في الأرنب الصغير الابيض الذي يرمقه من بعيد بعينين واسعتين
عض جاكس أصبعه السفلي بغيظ ، وهمس بمرارة:«قارض لعين… »
تنهد ، و ارتجفت أنفاسه وهو يحدّق فيها…
الشَّعر الطويل يُناسبها أيضا كيف ينساب على كتفيها و يحث في داخله رغبة في لمسه ، ومع ذلك… ظل يفضلها كما كانت ؛ بشَعرٍ قصيرٍ ، وقبعة مهرّجٍ التي لطالما كانت تعجبه
مدّ يده نحوها بترددٍ ، لامس الهواء قريب من رأسها لأنه يهاب أن يلامسها فعلًا… ثم سحب يده فجأة
خفض رأسه و نظر لقبضة التي سحبها في صمت ، وأغمض عينيه لوهلة
جدارُه الذي شيّده بصبرٍ طوال وجوده هنا في السيرك الرقمي ، بدأ يتشقق في حضورها و هذا ليس جيدا اطلاقا بالنسبة له
✦••┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈••✦
✦••┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈••✦
✦••┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈••✦
فتحت بومني عينيها بذعر لهاثها متقطع و يدها تتحسس جسدها كأنها تبحث عن طمأنية ، ثيابها و بشرتها كل شيء… بخير ، لكنها لم تشعر بأنها بخير أبدًا
نظرت حولها بعينين غائرتين ؛ السرير ناعم والحرير يلامس جلدها برقة ، والغرفة ملكية بكل تأكيد . آخر ما تتذكره… كانت مع فليكس لا، جاكس الشرير أو أياً يكن ذاك الشخص
لكن…. لماذا هي بالذات؟ لماذا عليها أن تُلقى دومًا في مواقفٍ تجعلها تشك بمن تثق بهم؟
ارتجفت كتفاها حين سمعت صوت مقبض الباب يدور ببط سبقتها شهقت قبل أن تتيبّست أنفاسها عندما دخل جاكس
وقعت عيناه عليها جسدها المرتجف ، نظراتها المتوجسة ، قبضتاها المتشبثتان بالغطاء لم يكن من صعب ملاحظة كل هذا فيها مما دفعه لتحديق إليها بتلك عيون كرواية واسعة التي لا يمكن لأي أحد قرأتها
خطا نحوهما بخطوتين فقط… ثم توقّف
عيناها الضيقتان التقتا بعينيه
ارتعش صوته وهو يحاول أن يتكلم، لكن كلماته علقت في حلقه
أما هي، فكل ما استطاعت فعله هو أن تهمس بصوتٍ مبحوح:«ابقَ مكانك… أرجوك»
توقّف جاكس عن التقدّم فعلا ، وتلاشت تلك اللمحة الخاطفة من التوتّر عن وجهه
ليعود إلى نبرته المعتادة المليئة بالاستفزاز و ابتسامته مزعجة معتادة قائلا :«لدي مئة سؤال في رأسي على الأقل ، لكن لا أظن ان واحد منها هو حول كونك ترتجفين متل جرو مبلول»
أدار العصا بين أصابعه ، متنهدًا لكوني هذا الموقف لم يكن من حسابته قائلا في هدوء :«لم اكن اناوي أستعملها لهذا نوع من المواقف أبدًا…» تمتم، ثم لوّح بعصاه في الهواء بلا اهتمام
فجأة، امتلأت الغرفة بانفجارٍ من الألوان و بريق ؛دمى قطنية ودباديب محشوة سقطت من العدم وغطّت السرير، وعلب شوكولاتة تناثرت على الأرض كأنها مطر حلوى، وفي حضن بومني تحديدًا… دمية صغيرة تشبهه تماما و ترتدي بذلة رسمية
تجمّدت أنفاسها للحظة، و نظرت حولها بعينين واسعتين وملامح مذهولتين
أمال جاكس رأسه، ينظر إلى العصا التي ما زالت تبعث شرارات خفيفة، وقال هو ينقر على تلك عصى بفخر : «هاه… عملت أخيرًا»
نظرت بومني إلى ما حولها بذهولٍ و عيونها تلمع كطفل الصغير ، لم تكن تتوقع أيًّا من هذا
الألوان و الدمى، الجو الفوضوي الجميل الذي يهم الغرفة… كان كل شيء غير منطقي ، حتى لسانها عجز عن التعبير
غير أنّ جاكس سبقها بالكلام ، وهو ينظر إلى عصاه بنوعٍ من الفخر الممزوج بالاستسلام قائلا : «معكِ ساحر البلاط الملكي هنا ، عزيزتي ، لا أعلم ما الذي جرى لكِ ، لكن في هذه القلعة… لن يمسّك أحد بسوء»
مدّت بومني يدها و احتضنت الدمية الصغيرة التي تشبهه ، تلك دمية التي كانت ترتدي بذلة رسمية أنيقة
نظرت إلى جاكس وقد هدأ أنفاسها رويدا رويدا وقالت بصوتٍ مبح:«هل يمكنك أن تخبرني… كيف وصلتُ إلى هنا؟»
ادار جاكس عصاه في الهواء، لتتشكل منها بريق يرسم صورًا لأشخاص جانبيين من عالم كين يدفعون بعربة صغيرة تحملها نحو القصر
«بحسب ما سمعت» قال وهو يتابع المشهد وكأنه يروي حكاية
«أنّ بعض الشخصيات الجانبية هم من أحضروكِ إلى هنا ، أيّ شيءٍ آخر حدث… فكان تحت سيطرة كين ، وهو عادةً لا يسمح لمغامراته أن تخرج بطريقة مؤذية»
ثم التف نحوها بابتسامة جانبية ، وصوته يحمل نبرة استفزاز معتادة : «لِمَ السؤال؟ هل فاتني شيء… ممتع؟»
ابتسمت بومني بخفوتٍ وهي تنظر إلى الدمية بين يديها بدلًا من جاكس
أطراف أصابعها تمرّ على قماشها الناعم في شرودٍ ، لم ترفع عينيها نحوه بل همست بنبرة واهية : «لا… لم يحدث شيء.»
ساد بينهما صمت قصير ، خالٍ من أيّ تبرير أو محاولةٍ لشرح من أي من طرفين
أعاد جاكس قبض يديه خلف ظهره ببطء، وانحنى قليلًا للأمام مبتسمًا طريقته معتادة تلك :«لا أتوقّع شيئًا أقلّ من هذا»
( يتبع )
✦••┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈••✦
Chapters
Comments
- 4 - بومني في بلاد عجائب ( 2 ) منذ 5 ساعات
- 3 - بومني في بلاد العجائب منذ 5 ساعات
- 2 - معجزات السيرك الرقمي منذ 5 ساعات
- 1 - الحمى الرقمية منذ 5 ساعات
التعليقات لهذا الفصل " 4"