1
رغم كل محاولاتها لإقناع نفسها بالعكس، لم تستطع بومني التكيف مع أجواء السيرك ، كان في داخلها صوت خافت يرفض التصالح مع ما يجري حولها
كانت خطواتها القصيرة تتردد على أرضية السيرك الخالية، يعلو صداها في الصمت ، لم يكن هناك أحد، لا أصوات ولا حركات، حتى الغرف بدت خاوية تمامًا، والقاعة التي اعتادت أن تضج بالاجتماعات غمرها الصمت
لفت عيناها على أرجاء السيرك بقلق واضح ، كأن الفراغ إبتلع كل شيئ ، لايهم كم نادت بأعلى صوتها كان الصمت هو رد الواحيد عليها
داهم القلق صدرها و شبكت أصابع يديها معا عندما كان جسدها صغير ينكمش شيئ فشيئا كاعادته متمتة بصوت خافت : « أين…..الجميع ؟»
منذ أول يوم لها هنا ، لم يكن صمت شيئا هي معتادة عليه في السيرك ؛ بكاء كينغل المعتاد أو مقالب جاكس ، هدوء زوبل و ناقشها العقيم مع كين و رڨاثا و محاولاتها لمساعدة كينغر في أين ماكان يفعله
تمزق ستار صمت الذي كان يسود المكان صوت مألوف إخترق مسامعها ، صوت كين مبهج و الحيوي كالعادة يطفو فوقها و ببل الفقاعة الذي لا يفارقه أبدا
ارتسمت على ملامحه بهجت معتادة و هو يهتف بصوته عالي : « أوه عزيزتي بومني ! لقد أستيقظتي أخيرا ! هل انتي مستعدة لمغامرة جديدة يوم ؟! »
لم تفاجئها كلمات كين معتادة ، لكن غرابة موقف ظلت تخنقها ، أين الجميع ، يستحيل أنهم ذهبوا في أحد مغامرات كين دون إعلامها
إبتلعت ريقهما محاولة استجماع شجاعتها ، ثم رفعت بصرها و إليه و سألته بتردد و حذر : « كين ….أين جميع ؟ »
التزم كين صمت لوهلة ، معلقا عيناه عليها لوهلة في عينه كما لو أن هناك شيئ تحطم للحظة خاطفة فيهما ، في لحظة واحدة هي رأت ذاك الخلل الذي أصابه قبل أن يعود لحالته سابقة مبهجة
متجاهلا ماحدث توى أجاب على تسؤلها بوضوح و صراحة : « مالذي تتكلمين عنه بومني ؟! لقد تم تجريد الجميع ، أنسيتي ذلك ؟ »
علق الهواء في حلقها و إرتجفت عيناها من وبعد صدى كلماته في رأسها ، لم تحتج سماع المزيد ، ركضت أسرع مايمكنها مع خفقان قلبها سريع الي رواق حيث كانت غرف الجميع
كل الغرف كانت تحمل وقع كابوس نفسه ؛ كل وجوه على أبواب غرف مشطوبة بلون الاحمر ، وقع كلمات كين سابقة يرن في رأسها مثل جرس
” لقد تم تجريد الجميع”
تراجعت خطوة الي وراء و نبست في صمت بينما شفتاه كانت ترتجفان : « مستحيل ….»
لا يمكن أن يكون هذا وقعا ، يستحيل أن تكون الواحيدة التي تحافظ على صحتها عقلية وسط هذا الجنون
همست بصوت مبحوح و هي تحدق نحو الغرف واحدة تلو الأخرى ، الوجوه التي إعتادت عليها ، رحلت و تركتها واحيدة هنا : « كين ….»
رد عليها بصوته مبتهج المعتاد : « نعم عزيزتي بومني ! »
كان يرى إرتجافها و إنهيارها و هي ترفض تقبل حقيقية التي أمامها إلى الآن بدأت العلامات تظهر بوضوح عليها ، أخطاء برمجية متقطعة تغطي جسدها كأن عملية التجريد بدأت تلتهمها ببطئ
تساقطت قطرات من جفنيها التي اكتست بالدموع و معها إنطفاء كل شرارة أمل كانت لديها في إيجاد طريق الخلاص من سجن الرقمي ، رفعت رأسها و نظرت إليها بنصف ابتسامة مكسورة ارتسمت على شفتيها
همست بصوت متحشرج بكاد يخرج منها : « أنا … أريد…عودة للمنزل ..»
⊱ ────── {.⋅ ✯ ⋅.} ────── ⊰
⊱ ────── {
⊱ ────── {.⋅ ✯ ⋅.} ────── ⊰
فتحت بومني عيناها بذعر بينما تتخبط أنفاسها على صدرها كانت غرفتها غارقة في الظلام ، و العرق قد غمر سريرها حتى التصق بالاغطية
تمتمت بصوت خافت بكلمات غير مفهومة بينما كانت تقبض يدها على قميصها في موضع قلبها ، في محاولة يائسة لطمأنة نفسها مع جفاف حلقها و تعطشه لقطرة ماء
حاولت بومني إلتقاط أنفاسها ثقيلة حتى تسلل لمسامعها صوت ضجيج خارج غرفتها ، لم تستطيع تحديد ماهو بضبط فذهنها مازال مرتبكا
في الخارج كانت رڨاثا واقفت و هي تشبك يديها بإحكام و ملامح وجهها مشدودة و قلقة كانت عيناها مائلتان تعكسان توترا واضحا
تمتمت بقلق : « هذه أول مرة تتأخر بومني في الاستيقاظ …مهما طرقت باب فهي لا تستجيب »
حاول زوبل تهدأت موقف ، واضعا مشبك سلطعون خاصته برفق على كتف رڨاثا و قال بصوت هادئ مطمئن : « بومني بخير … أنا واثق من هذا، يمكننا أن ننادي كين لفتح باب في حال لم تفتحه بعد قليل»
جاكس لم يضيع فرصته في مقاطعة زوبل كالمعتاد بواقحته ملوحا بالمفاتيح : « زوبل ، زوبل ، زوبل … كم أنت ممل ! بدلا من إنتظار كين يمكننا دوما فتح باب غرفتها بأنفسنا »
قلب مفاتيح التي بين يديه محاولا تحديد مفتاح غرفتها من بينها و إبتسامته مستفزة لا تفارقه
صرخت رڨاثا بغضب عليه تجاعيد حاجبيها تعمق حدة ملامحها و هي تقبض يديها بقوة : « جاكس ! لا يمكنك أن تفتح باب غرفتها من دون إذنها ! »
التف جاكس إليها بإبتسامته عابثة ، يتمايل بحركات درامية مزعجة مبالغا فيها و هو يلوح مفتاح
قال بإستفزاز واضح : « أوه، رڨاثا … عزيزتنا بومني محبوسة في غرفتها! هل تتوقعين مني أن أقف مكتوف اليدين وأتجاهلها بكل بساطة؟»
بكل إزعاجه معتاد أدخل مفتاح في قفل مستمعا باللحظة في صمت
ضاق ذرع رڨاثا من تصرفاته ، بينما زوبل كان يراقبه مدركا أن جاكس في أعماقه حقير النزعة ، لكنه ليس غبيا ، خلف كل ألعابه و نوايه الملتوية حدود معينة ، إن تجاوز الحدود فهو سوف يوقفه بلا أي تردد
إرتجفت يد جاكس لثانية ، بينما مفتاح مازال عالقا في قفل باب ، تلك ابتسامة المستفزة تلاشت لثانية خاطفة ، في لحظة برز ذاك خوف دفين في عينه و عقله يفكر في فكرة واحدة فقط
” ماذا لو بومني قد لاقت مصير نفسه…التجريد ، تماما كما حدث مع كوزمو ؟ “
منذ تلك مغامرة التي تحولت لمواجهة بالأسلحة ، لم يعد يخوض أي محادثة جدية معها ، حتى أن محاولاته للسخرية منها قد توقفت ، لقد اختار فقط تجاهل وجودها
النظر إليها يتطلب شجاعة و هو لا يتحلى بتلك شجاعة بعد الان بعد ما قاله له لها ، هو ليس نادما على كلامته لحد ساعة
هذا أفضل له و أفضل لها من الأفضل أن تبقى بعيدة عنه ، هو غير مستعد ليفتح قلبه لأي أحد هنا …ليس بعدما حدث لريبت
أدار جاكس المفتاح على القفل ، و فتح باب ببطئ اندفع أمامه ذاك الظلام دامس في غرفتها ،ظلام ذكره تماما بظلام غرفة كوزمو في ذلك اليوم المشؤوم
إبتلع رقيه بصعوبة ، و تصلبت ساقاه الطويلتان مكانهما لم يجرؤ على تقدم خطوة واحدة نقيض رڨاثا التي اندفعت دون تفكير الي داخل
كانت بومني مازلت في السرير جسدها خامل تماما و متعب لم تتوقع أنه يمكنها شعور بمثل هذه المشاعر البشرية في السيرك الرقمي الذي يعتمد على محاكاة إيجابية فقط مناسبة للأطفال
« أوه يا إلهي بومني ؟! هل انتي بخير ؟ » انحنت رڨاثا سريعا لتتحقق من حالتها بعيون ممتلئة بالقلق ، لا يوجد أي خلل أو اعطاب على بنيتها الرقمية هذا بعث لحد كبير الطمأنينة فيها
طوى زوبل يديه على بعضهما خف قلقه غير واضح عندما تقين أنه لم يحدث لها شيئ كبير و قال بينما هو يدخل الغرفة أيضا : « ربما أصيبت بحمى رقمية ، لن اصدم بعد الان من محاولات كين لجعل لعبة واقعية »
تسمر جاكس عند الباب للحظة ، ابتسامته مستفزة تلاشت و عيونه اتسعت أكثر من عادة لكن سرعان ما تدراك الموقف ليستعيد قناعه المعتاد ليخطو للداخل كما لو أن شيئ لم يكن
قهقه بسخرية واضحة جلية ، واضعا يده عند خصره مستخفا من الموقف قائلا بتكهم لاذع: « إياك أن تموتي بومني »
رمق زوبل جاكس بنظرة بغيضة ، نظرة حادة تحمل ورائها استياء عميق ، لكنه قرر في نهاية تجاهله و عدم منحه لذة انتصار في استفزازه
نهش قلق رڨاثا المسكينة ، ازداد ثقل صدرها ،حتى لم تعد قادرة على البقاء
اندفعت الي خارج الغرفة مع صوتها دون أن تلفت حتى : « سأحضر كين حالا ! ابقيا مع بومني ! »
لم تكن تحتاج سماع رأيهما فهما لا يملكان خيار في كل أحوال
لم يكن جو بين زوبل و جاكس الافضل أغلب أوقات و الان ازداد صمت بينهما ، عينا جاكس كانت تتبع جسد بومني
جسدها أصغر من الجميع يبدو أضعف و أوهن من أي وقت مضى ، لأول مرة لاحظ أنه لا ترتدي قبعة مهرج التي أخفت جزء كبير من رأسها يمكنه الان ملاحظة كيف أنها كانت تملك جسد أقرب للبشر بينهم
قطع زوبل شرود جاكس بحزم و هو يتجه نحو الباب : « سأذهب لإبلاغ كينغر وكانغل بما يحدث لبومني. إيّاك أن تقوم بأي تصرف غبي »
خرج من الغرفة متعمد ترك الباب مفتوح على آخره ، هو لا يثق بفكرة ترك جاكس واحيد مع بومني
نظر جاكس الي بومني ملاحظا تفاصيلها لصغيرة ؛ رموشها اطول من بقية ارتعشت بخفة ، خصل شعرها قصيرة بنية التي تغطي بعض من وجهها و كيف أنها تبدو نصف نائمة ربما لا تعي كثير حول مايحدث
جلس جاكس على كرسي قريب من سريرها ، و عيناه مازلت معلقة على وجهها في لحظة غفلة مد يده لوهلة ليزيح بعض خصلات التي انسدلت على وجهها
لكن ما أن لمست يده وجهها سحب يده بسرعة مع حمرة اكتست وجهه
ظل صامتا لوهلة ، ثم تنهد مستسلما و أدار رأسه بسرعة خلفه حتى يتأكد أن لا أحد يشاهده ، عاد ينظر إليها مرة أخرى و مد يده هذه مرة مبعدا بقية خصلات من وجهها
كان تصرفا لطيفا من شخص غير لطيف
تمام بنفور و هو يشيح نظره بعيدا ، مغطيا ارتباكه بعد أن وقف : « حمقاء … »
لم تمضِ سوى لحظات حتى عادت رڨاثا مسرعة، وخلفها كين ، في الوقت ذاته دخل زوبل ومعه كينغر وكانغل تزامن وصولهم مع لحظة وقوف جاكس قرب السرير
لم تمضي ثواني على زوبل ما أن لمح القلم في يد جاكس، ونظرته مستفزة وهو يستعد بوقاحة ليرسم على وجه بومني المغشي عليها ، في تلك اللحظة لم يتردد، اندفع نحوه وضرب رأسه بقوة مستخدمًا مقبض يده السلطعونية قاطعًا فعلته قبل أن تبدأ
قال زوبل بعيون حادة و هو فعلا هذه مرة عازم أن يتصرف بجدية أكبر مع جاكس: « توقف عن قيام بأشياء غبية »
كان الصمت طغيان على الغرفة بعد ذلك مستغلا كين ذلك ، طافيا و فاتحا ذراعيه بشكل درامي مترقبا لحظة لا تعوض في العرض
علا صوته بالبهجة و نبرة طفولية ثقيلة : « مغامرة اليوم هي العناية برفيقة سكن المريضة … وتقديم الدواء لها! »
سقطت كلماته على ذاك جو مشبع بالقلق ، لم تخلق أي ابتسامة بل يبدو أنها زادت من ثقل الموقف لديهم
انكسر قناع كانغل و ظهر ذاك ذاك قناع باكي عليها و قالت بتوتر و هي تعلب بيدها شرائطية : « هو … هل هذا يعني أننا نلعب لعبة مستشفى الان ؟ »
أجاب كينغر بعد ثواني قصيرة بعد أن لمست يده كتف بومني التي هي من منظوره شبه ميتة بالفعل مجيبا : « لا أدري … لكن لا يبدو الأمر ممتعا…بومني لا تتحرك اصلا »
عبس جاكس بوضوح هذه المرة، بينما يده مستندة على خصره، وصوته يقطر انزعاجًا : « لا بد أنك تمزح معي…»
لم يكن يتقبل فكرة أن تتحول المغامرة الحالية إلى محور يدور حول بومني… ليس بعد ذلك الجدال الأخير معها
أما بومني، فلم تكن واعية كفاية لما يدور حولها. البرودة تغزو أطراف جسدها، وأصواتهم جميعًا غير قابلة للفهم و عالية و مزعجة
تقدّم زوبل خطوة، واضعًا يده السلطعونية على ذقنه ، قبل أن يقول بهدوء : «لا يهم ما تسميه يا كين… مغامرة أو لا، علينا فقط تأكد من أنها سوف تكون بخير »
رفع كين يديه عاليًا وكأنه يفتتح عرضًا جديدًا، محاولًا أن يكسو صوته المعتاد بالبهجة حتى يخفف من التوتر: «لا تقلقوا! بالعناية اللازمة سوف تكون بومني بخير! إنها فقط… مريضة بحمى رقمية، لا أكثر ولا أقل!»
دار حول سريرها بحركات درامية مبالغ فيها، ثم أضاف بابتسامة عريضة: «كل ما تحتاجه هو الراحة… بعض الدواء في أوقاته… والقليل من الاهتمام. وحيها ها هو الوعد مني ستعود إلينا مشرقة كما كانت!»
ثم أشار بيده إليهم و أتم كلامه : «وطبعًا… هذه مهمتكم أنتم! تأكدوا أنها سوف تشفى»
تنفست رڨاثا ببطء، محاولةً تهدئة أعصابها، وعلت وجهها راحة خفيفة ، تتمتم بصوت منخفض تطمئن نفسها : «إذن… حمى رقمية فقط… حسنًا، هذا أفضل من أي احتمال آخر»
أما زوبل، فقد عقد ذراعيه وتقدم خطوة أقرب، صوته جاد وحازم: «إذا كان هذا كل ما في الأمر، فعلينا إذن الالتزام بدقة. أوقات الدواء، ودرجة حرارتها، والتأكد من أنها لا تسوء أكثر.»
في المقابل، قهقه جاكس بسخرية مريرة وهو يضع يديه على خصره، ثم مال بجسده قليلًا للأمام:
«مغامرة، أليس كذلك؟ يا للروعة… أنتم فعلا تمزحون معي ، منذ متى كانت راعية مرضى مغامرة معترف بها حتى ؟ »
كان صوته لاذعًا، لكنه لم ينجح تمامًا في إخفاء التوتر الذي انعكس لثوانٍ على عينيه وهو يرمق بومني الممددة ، بسبب كلمات كين مبهمة فأي خطأ ربما يكلف فكرة تجريدها
تمتم في صمت بينه و بين نفسه : « سحقا ….»
( يتبع )
Chapters
Comments
- 4 - بومني في بلاد عجائب ( 2 ) منذ 8 ساعات
- 3 - بومني في بلاد العجائب منذ 8 ساعات
- 2 - معجزات السيرك الرقمي منذ 8 ساعات
- 1 - الحمى الرقمية منذ 8 ساعات
التعليقات لهذا الفصل " 1"