7
الفصل السابع
مهما تجاهلتَ موهبةً، فإنها لا تختفي، موهبة المبارزة كانت تُعود في كامل الجسد لحظة إمساك السيف.
لكن إيزابيل أدركت مرة أخرى أنه لا بدّ من قمع تلك الموهبة في القفص من جديد.
لم تفكر حتى في مسح دموعها التي لم تتوقف. فاض الاستياء من ألمها المرير.
نظرت إلى ليونيل بحدة وسألته.
“هل كان هذا هدفك؟”
“هدفي؟”
“أليس إحضاري حية إلى هنا كان لتستمتع برؤيتي في هذه الحالة البشعة؟”
للحظة وجيزة، ارتسمت على وجه ليونيل ملامح تصارع أفكاره.
“نعم. كانت تلك نيّتي….”
“لقد فزت، سمو جلالتك. لقد أنكرت وجود الآلهة، فأصبحت الآن لست براهبة. ولن اكون ذي أهلية لكِ لأن أكون واعظتك، ولا رغبة لدي بأن أكون شيئًا آخر.”
كما لو انها لم يتبقى لها شيءٌ لتقوله، خلعت إيزابيل حجابها بحزم. بعد أن خلعت آخر أثرٍ لهويتها كراهبة، لم يتبقى لها شيء.
عندما أدركت إيزابيل، ذاتها تلك، انفجرت ضاحكة.
“إذن، بما أنك رأيت كل شيء، فلتقتلني الآن”.
” منظرك الحالي لا يستحق القتل الآن بعد”.
“هاها، اذا، ما الذي يجدر بي فعله حتى اكون مستحقة للقتل؟”.
نظرت إيزابيل إلى ليونيل بعينين غاضبتين وقالت. بدت مصممة على انتزاع موته منه، حتى لو كان ذلك يعني إهانة العائلة الإمبراطورية.
لكن ليونيل لم يسمح بذلك حتى.
“الم تعودي تكترثين لمصير الدير بعد تخليكِ عن الرهبنة؟”.
هذه الجملة فقط منعت إيزابيل من الضحك.
راهبات دير شاردونيّه الطيبات. لم تستطع إيزابيل التخلي عنهن.
استذكرت إيزابيل أنها حُرمت حتى من حرية الموت منذ زمن طويل، فجلست منهكة.
“يوليا. ادخلي.”
دخلت الخادمة يوليا التي كانت تنتظر في الخارج إلى المكتب بعد سماع تلقيها الأمر. وحتى عندما رأت إيزابيل جاثية منهكة لم تتأثر.
“خذيها إلى البرج الغربي.”
“حاضر، سمو الأمير.”
أمسكت يوليا بإيزابيل بحذر. تحركت إيزابيل كما لو كانت دمية تحت لمستها.
***
تجمعت تقارير الفصائل الموالية للأمير ليونيل المرسلة من جبهات الحرب ومناطق الإمبراطورية في مكتب العمل بقلعة أوتكيركين.
كان ليونيل يقرأ التقارير التي توافدت من جنوده المنتشرين في ساحات الحرب في أنحاء الإمبراطورية، حين راوده شعورٌ غامض بعدم الارتياح.
‘الدوق فييزنشتاين قام بدفع المزيد من القوات إلى خطوط الجبهة الامامية؟’.
كان الدوق فييزنشتاين أكبر داعميّ الأميرة لوّرا وكان معروفًا أيضًا بحذره الشديد.
ظن ليونيل ومستشاروه أن الدوق سيبقى في حالة سكون ليستجمع قواته خلال فصل الشتاء.
لكن المفاجأة كانت أن ذلك الرجل الحذر بدأ يتصرّف بعنفٍ غير معهود، إذ دفع بقواته مباشرة إلى الجبهة.
ظلّ لايونيل يتفحّص التقارير واحدًا تلو الآخر، يجمع التفاصيل ويوازن المعلومات بعناية، محاولًا فهم دوافع هذا التحرك.
وفيما كان غارقًا في خضم تلك الحرب الخفية التي تُدار بالحسابات والرسائل لا بالأسلحة، طرق أحد الفرسان الذين يحرسون بالخارج باب المكتب.
“مولاي، الخادمة يوليا تلتمس طلب الإذن بمقابلة جلالتك”.
” دعها تدخل”.
لم تكن يوليا في تلك الفترة مسؤولة إلا عن شخصٍ واحد فقط، لذا عرف على الفور فيمَ يتعلق الأمر.
دخلت الفتاة بخطواتٍ سريعة لكنها متزنة، وانحنت قبل أن تقول بصوتٍ خافت.
” لقد جئت لأرفع تقريرًا بحالة الاخت إيزابيل وأطلب شيئًا من جلالتك من أجلها”.
حين سمع اسمها، تذكّر لايونيل ما ورد في التقارير السابقة.
منذ اليوم الذي نُقلت فيه إيزابيل إلى الزنزانة الحبس الانفرادي في البرج الغربي، لم يذق فمها طعامًا ولا شرابًا.
ولعلمه أن الراهبة تتحمل صيامًا طويلًا متى ما قررت ذلك، اكتفى بأن يسمح ليوليا بالإشراف عليها، مراقبًا الموقف بصمتٍ من بعيد، دون إعطائها أي تعليمات مباشرة.
كان اليوم الرابع قد مرّ بالفعل.
“هل ما زالت ترفض الأكل؟”
“جئتُ لأرفع لجلالتك تقريرًا بهذا الشأن… لقد تمكنت أخيرًا هذا الصباح من جعلها تأكل شيئًا.”
“وكيف فعلتِ ذلك؟”
كانت نبرته تحمل فضولًا خالصًا، إذ لم يستطع أن يتصور كيف استطاعت إقناع تلك المرأة العنيدة.
خفضت يوليا صوتها باحترام وقالت بحذر.
“يا جلالة سموك، إن سمحتُ لي بالتحدث بصراحة ، لا يُمكنك إجبار شخصٍ مثلها بالقوة الغاشمة. حتى لو أجبرتها على تناول الحساء، فستبصقه دون تردد.”
“إذن؟”
رأت يوليا في عينيه اهتمامًا صادقًا، وتمنت في داخلها لو أنه كان يُظهر مثل هذا الاهتمام منذ وقتٍ أطول.
“لقد قلت لها أنني سأموت جوعًا معها إن لم تأكل، وبقيت معها طوال يوم أمس. بعد أن قضينا الليلة بأكملها على هذا النحو، لم يكن أمامها خيارٌ سوى الاستسلام.”
“……..”.
“يبدو أنها تخلت عن فكرة الصيام تمامًا، مولاي.
لذا لا داعي للقلق بعد الآن.”
لم يكن لايونيل غبيًا. لكنه،و بصفته أميرًا، لم يكن معتادًا على تخيّل هذه الطرق للتعامل مع أناس كهذه.
على أي حال، أدّت الخادمة الكفؤة مهمتها على أكمل وجه، واستحقت ثناءها. مع ذلك كلمة القلق التي قالتها أزعجته قليلًا.
كان على وشك أن يُلقي عليها تحذيرًا بعدم تفسير نوايا العائلة الإمبراطورية بهذا الشكل، لكنه توقف واكتفى بأن أعاد النظر مليًا إلى نفسه بصمت.
كانت تلك الخادمة حادّة الملاحظة على نحوٍ غير عادي.
تنهد لايونيل بعمق، وفرقع بأصابعه.
“هل يمكنني أن أُحضر للأخت إيزابيل بعض الكتب لتقرأها؟”
“كتب؟ هل قالت إنها تريد قراءة شيء آخر غير الكتاب المقدس؟”
“لا، لم تطلب… ولكنّي فكّرت أنه من الأفضل أن أُشغلها بالقراءة أفضل من أن تجلس على هذا النحو شاردة حتى تفقد عقلها تمامًا وتصاب بالجنون”.
كانت كلمات يوليا في ظاهرها اقتراحًا بريئًا، لكنها كانت في الحقيقة إشارةً دقيقة إلى أن حالة إيزابيل العقلية لم تعد بخير.
بدلًا من الاستجابة لتوسلات الخادمة، سأل ليونيل بصوت منخفض وعميق يقطع السكون اللذين وقعوا فيه.
“هل أعجبتكِ إيزابيل؟ تبدين متحمسةً لأجلها.”
“أنا انفذ اوامر سمو جلالتك”.
“لم آمرك أبدًا بإبقائها على قيد الحياة.”
“صحيح، لم تقل ذلك صراحةً.”
“يالها من وقاحة.”
“سأكون أكثر حذرًا، مولاي.”
كانت تلك الكلمات الأخيرة بمثابة تحذيرٍ منه، لكنه في الواقع لم يفعل سوى الاعتراف من حيث لا يدري بأن إيزابيل ما زالت تشغل باله.
قطّب حاجبيه ونظر إلى التقارير أمامه دون أن يقرأها فعلاً.
فطوال الأيام الأربعة الماضية، ورغم انشغاله بمئات الوثائق والأوامر الإمبراطورية التي تلقاها، ظل جزءٌ من ذهنه منشغلاً بمصير تلك المرأة، إيزابيل.
ولم يزل عاجزًا عن اتخاذ قرار.
‘يا له من سخف.’
حين اختار هدفًا مثل راهبة تبدو محملة بالأحزان ومحملة بقصةٍ ترفة، بدا عزمه أقرب إلى شرٍّ البحتة.
بعد أن قرر أن يقتل كثيرين في المستقبل، اعتبر أن سحق راهبة شريفة ومتفانية وقتلها جزءٌ من مصيره المروع الذي ينتظره ولا مفرّ منه.
لكن كلما واجهها وجهًا لوجه، وكلما تبادلا الكلام أكثر، تحوّل ذلك الشرّ شيئًا آخر.
طلاقتها باللغة الإمبراطورية سلسة وجذابة، شعرها البيجي المكسو بالحجاب الأسود، حواجبها المستديرة أحيانًا، وعيونها الفيروزية الواسعة والعميقة.
اشتدّت لديه رغبةٌ لمعرفة هذه المرأة أكثر.
صار يقضي وقتًا أطول يفكّر في إيزابيل مما كان يقضيه في التفكير بمن سيقطع رقابهم اليوم أو أي أرض سيدمّر غدًا.
والوقت الذي قضاه على هذا النحو كان ينهش ليونيل ببطء.
‘لو كنتُ سأقتلها، لكنتُ فعلت ذلك منذ زمن.’
إيزابيل ذكية، جريئة، ولا تتردّد في طعن من يترك لها ثغرة.
ولأن سلوكها في مثل هذه المواقف نال اعجابه، بدأ يخوض معها مجادلات ومحاورات تبادلية بينهما ليجردها من قناعها، ظنًا منه أنه سيبقى ذو نهج متوازن أثناء اللعب.
لكن عندما علم بماضي إيزابيل، انقلب شعوره رأسًا على عقب.
وعرضه بأن ينتقم نيابةً عنها لم يكن مجرّد ترف فكري، كان صادقًا.
“هاه……………”
وبينما كان ليونيل غارقًا في أفكاره، كانت يوليا تنتظر بصمت، وحين أطلق زفيرًا طويلًا تسلّل صوتها بهدوء.
“جلالتك، إن كان لا يزال لديك اهتمام بالأخت إيزابيل…………… فهلا عاملتها بقليلٍ من اللطف؟”
“………………ماذا؟”
“أستترك الزهرة لتذبل؟”
بعد الطائر، الآن أصبحت الزهرة؟.
ضحك ليونيل بسخرية خافتة. بدأ يدرك قليلًا لماذا كانت إيزابيل تتجرأ وتردّ عليه في المرات السابقة.
نصيحة يوليا كانت تستحق التفكير، لكن ليونيل هزّ رأسه رافضًا.
“ماذا تتوقع مني الراهبة أن أفعل إذا عاملتها بلطف؟ أتريدين مني أن أسحق روحها أكثر؟”.
“……….”.
رمقته يوليا بطرف عينها وكأنها تسأله كيف يمكنه قول شيء كهذا. كان ما فعلته كفيلًا بأن يطيح برأسها، لكن ليونيل لم يعاقبها.
كان قد فاز عليها، لكنه حطّم إيزابيل تمامًا هذه المرة، لكن ذلك كان بدافعٍ لحظي، دون أن يميّز الوسائل أو العواقب.
لم يستطع أن يقول إنه لم يندم على ذلك.
“سأتظاهر أنني لم أسمع ذلك. مفهوم، لذا يمكنك المغادرة الآن.”
“اشكر سموك. وسأستمر بأن أرفع تقارير منتظمة حول الأخت إيزابيل مستقبلاً.”
انحنت يوليا تحيةً بأناقة وغادرت مكتب الحكم، فرك ليونيل عينيه بيده ونظر من النافذة.
حتى في برد الشتاء، كانت العصافير تحلق في الأرجاء بحرية….فلما البشر ليسوا مثلها؟.
سؤال قديم ظل يتردد في ذهنه.
***
كانت قد تناولت الحساء للعشاء، وقرأت لبعض الوقت، لكن سرعان ما شعرت بالملل واستسلمت للنوم، هذا ما تتذكره.
إيزابيل، التي تُركت بلا عمل تقريبًا، كانت تنام من حينٍ لآخر، أو تحدّق في الفراغ بـ اللا شيء. حتى الصلاة لم تُصلِّها منذ أيام.
لكن إيزابيل لا تزال تتذكر بوضوح اللحظة التي حاولت فيها أن تعهد ليونيل بالانتقام منه.
في تلك اللحظة كانت إيزابيل صادقة. لم تستطع أن تصلي وهي تحمل تلك الذكريات.
‘سأسقط في الجحيم.’
لقد حاولت الانتحار عدة مرات بالفعل، وحتى أنكرت وجود الألهة. كان من الصعب أن تُغفر لها هذه الذنوب.
لم تشعر بالظلم أو الاستياء. كل ما كان يشغل روحها هو الفضول إذا كانت أصابعها مازالت متلاصقة بعضها ببعض كما ينبغي في الماضي.
وبينما كانت تفكر بهذه الأفكار المُرة، وجهت نظراتها نحو سماء الليل من نافذة الغرفة.
فجأة، سمعت صوت صراخ قادمًا من الخارج.
“همم؟”
كان الصوت خافتًا، لكن حاسة سمع إيزابيل الحادة لم تفوته.
فتحت نافذة غرفة البرج ونظرت إلى الخارج.
لم يكن هناك شيء ظاهر للعيان، لكن حدسها شعَر بأن شيئًا ما يحدث وسط الرياح العاتية.
“ماذا عساه أن يكون؟”
انتابها شعور غريزي حاد، فخرجت ببطء من الغرفة. بما أنها لم تُحتجز في الأصل، كان فتح الباب مسألة بسيطة بمجرد دفعه قليلًا.
وبينما كانت تتحرى الممر بحذر، لاحظت أصوات خطوات بعيدة.
وفي اللحظة التالية.
“هجم العدو! نحن نتعرض للهجوم!”.
وسط الصيحات، دوى صوت الجرس، معلنًا الهجوم في أرجاء القلعة مع صراخ محموم.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

عالم الأنمي عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!

إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 7"