6
الفصل السادس
على حدود إمبراطورية ألِيبَان، قلعة اوتْكِيرّْنكِينْ
على مَدار عدة أيام، أصبحَت عادة إيزابيل الصباحية هي التحدُث مع ليونيل في قاعة الاستقبال.
لم يكن القاء الموعِظة يجديّ نفعًا مَعه، إذْ كانت إيزابيل تأتي بمُوضوعات متَنوعة، من التاريخ الى أساطير الجمال وحتى الحروب، محاولةً أن تسْتَكشِف ما يُثِير اهتمام ليونيل منها.
بالطبع، معظم ما تَعرِفه كانت من قبيل الثقافة العامة لسيدة مُتعلمة أو بدافع شغف شخصيّ، لذا لم تكن مُلِمّة بهذه الأمور بشكل حَرفي، لكن ليونيل لم يكن من النوع الذي يَنتَقِد بشِدة.
ومع ذلك، كلما دارت الأحاديث وعادت لتصبّ في مواضيعٍ لاهُوتِيَة، كان ليونيل يسْخَر بِحدة لاذعَة.
” بالطبع أنا أؤمن بوجود الآلهة، هناك كثير مِن مَن يصِفونَنِي أحيانًا بالكفر والتَجْدِيف، لكن الالهة دومًا ما تلقي عليهم بعقابها…….. مستخدمةً يديّ انا لتنفيذ ذَلك”.
رغم ظنها أنها اعتادت على طريقته في التعبير عن رأيه، كانت إيزابيل تفقد الكلمات في كل مرة يتكلم فيها بسخرية بهذا الشكل.
كلما طال الحديث بينهما، شعرت أكثر بأنها تَتزَزَع من داخلها، فكانت تعضّ على شفتيها وتحاول أن تتصرف كَراهِبَة بكل ثباتٍ قَدر الإمكان.
حتى عندما غَيّْر مكان إقامتها وأعادها الى الموقع الذي يَسبِقه، بقي سلوكها ثابتًا وصارمًا.
ولم يكن ليونيل يسخر من هذا الثبات الذي تتحلى به بحد ذاته.
لم يتخلّيا عن روتينهِمَا الصباحي، واستمرّ بينهما هذا التَوازٌن الغريب، الذي لا يَنكَسِر.
كان الأمر كذلك حتى أحد الأيام، بعد مرور أسبوع تقريبًا.
“صاحب السمو؟ قد غادر جلالته في حملة عسكرية بالأمس.”
“آه، فهمت”.
كانت الإمبراطورية في حالة حرب، وليونيل، كأمير وقائد، لم يكن شخصًا يملك وقت فراغ كثيرًا.
وجدت إيزابيل نفسها حرة بدون قصد، لكنها لم تشعر برغبة في فعل أي شيء.
اكتفت بالتآمل وأداء صلواتها في سكون تام.
كانت يوليا تغرقها بالمديح بقولها عنها انها راهبة مخلصة وكونها معجبة بإخلاصها التي تتحلى به، لكن تلك الإشادة كانت تثقل كاهل إيزابيل. فحتى أثناء تَعَبُدها، كان ليونيل لا يفارق تفكيرها.
‘ انه شخص نبيل، لكنه غارق في معاناة روحه المضطربة……….’.
تفكير كهذا لم يكن الموقف الذي يجدر أن تتحلى به كراهبة.
أمضت إيزابيل وقتها تحاول التخلص من أفكارها المشتتة واستعادة توازنها.
في مساء اليوم العاشر، جاءت جوليا على عجلة من أمرها لرؤية إيزابيل.
“الأخت إيزابيل؟ هل ما زلتِ مستيقظة؟”
“…ما الأمر؟”
“سمو الأمير قد عاد. وبمجرد وصوله، سأل عنكِ، وقال إنه يرغب في التحدث إليكِ إن كنتِ بخير مع ذلك.”
“سأذهب.”
أجابت إيزابيل فورًا. فهي كانت ترى أنه طالما تحمل لقب واعظة الأمير وتهدر طعامه، فعليها أن تقوم بواجبها.
رافقت يوليا إيزابيل إلى مكتب الأمير.
ولأنها لم ترَ ليونيل إلا في صالة الاستقبال من قَبل، فقد شعرت ببعض التوتر وهي تسير خلفها.
وحين دخلت المكتب، التفت ليونيل نحوها وهو يخلع رداءه. كانت تفوح منه رائحة الدم بشكل طفيف.
“سموك، هل عدت سالمًا؟”
“أنتِ قلقة عليّ. يا للغرابة.”
ردّت إيزابيل بنبرة تساؤل خفيفة، من نبرته التي كانت منفرة بعض الشيء.
“بصفتي واعظة سموك، أليس من الطبيعي أن أقلق عليك؟”
“حقًا؟ ظننتُ أن لديكِ أمورًا أخرى تقلقين بشأنها إلى جانب نفسكِ..”
“ماذا تعني بذلك يا سمو الأمير؟”
“ألستِ فضولية لتعرفي أين كنت؟”
شعرت إيزابيل بدمها يبرد فجأة، ورفعت نظرها نحوه بوجهٍ جامد.
عندها جلس ليونيل على الكرسي وقال بصوت هادئ وخامل.
“لا تقلقي، لم أذهب إلى كاليا. كانت مسألة داخلية.”
“……..لكن، رائحة الدم عالقة بك.”
“أنفك حادٌّ جدًّا. لا تهتمي، لم أقتل كثيرين على أية حال.”
في مثل هذه اللحظات، لم تكن إيزابيل تعرف كيف ينبغي أن تتصرف كراهبة. دون أن تشعر، شبكت يديها وبدأت تهمس بصلاة.
راقبها ليونيل وهو يميل رأسه قليلًا.
“بما أنك تصلّين الآن، فقد سمعت مؤخرًا أن الفيلق الخامس من فرسان كاليا تكبّد خسائر فادحة وأُعيد تنظيمه.”
“…….أحقًا؟”
أجابت إيزابيل دون أن تفهم ما علاقتها بأمر كذلك، لكن ليونيل واصل كلامه دون اكتراث.
“لكنِ سمعت أن الفارس الذي عُيّن حديثًا قائدًا لذلك الفيلق، قد وُجّهت إليه تهمة ما بعد الخسارة الفادحة التي الحق بها الفيلق، وأُقيمت من أجلها جلسة تحقيق. بدا الأمر مثيرًا للاهتمام بعض الشيء.”
تحوّل بصر ليونيل، الذي كان يحدّق في الفراغ، نحو إيزابيل.
“تشير التهمة إن ذلك الفارس، منذ بضع سنوات، ارتكب فعلًا جنونيًا بقطع كِلا خنصري يديّ إحدى النبيلات.”
“…………..”.
“لكن الغريب في الأمر، أنّ الشائعات التي تدور حول تلك النبيلة الضحية ليست بعادية. كانوا يقولون إنها عبقرية في فن المبارزة، حتى إن نخبة الفرسان أنفسهم لم يكونوا قادرين على مجاراتها أثناء القتال بالسيف.”
عاودت الذكريات القديمة بالظهور وطعن إيزابيل كما لو كانت نصل سيف. قبضت على صدرها وهي تزفر أنفاسها بصعوبة، ومن ثم، لم تستطع أن تتنفس مجددًا.
حدّق ليونيل مباشرةً في إيزابيل، التي كانت تبتلع ألمها، دون أن يُشيح بنظره عنها.
“يا للعار… أن تسقط عبقرية كهذه وتنهار بهذه النهاية التي ليست بمُشَرفة. لأمر مؤسف حقًا.”
ذرفت إيزابيل الدموع لأول مرة.
أدرك ليونيل أن هناك قصة تكمن وراء حالة يديها من لحظة رؤيته لهما، وكان قد طعنها طعنات مؤلمة عدة مرات من قبل، محاولًا قياس رد فعلها.
لكن ما يحدث الآن كان أشبه بتعذيب حقيقي، لم تستطع إيزابيل فعل شيء سوى البكاء والأنين من الألم عاجزة عن فعل شيء شيء آخر.
ليونيل، الذي قيد إيزابيل بعذاب يزهق الروح ويمزقها، قام من كرسيه وأخذ بفتح صلب الموضوع مباشرة.
” لا أفهم لما بقيت الآلهة التي ترى كل شيء صامتة وساكنة هكذا……… لو كنت بمكانها….”.
اقترب ليونيل ببطء ووقف أمام إيزابيل. لتحدق به إيزابيل بنظرة فارغة.
تحدث كصوت إلَهِّي لا يُقاوم.
“كنت سأنتقم لك”.
عندما التقت بنظراته حادة الشدة، شعرت إيزابيل وكأن عقلها قد تلاشى بالكامل.
“إيزابيل، إذا أردتِ انتقامًا دمويّ، فسأقوم به من أجلك.”
“انتقام…………….”
“سأكون إلَهَكْ.”
كان ذلك فعلا تجديفيًا شديدًا على القداسة، لكن إيزابيل لم تجرؤ حتى على التفكير في إدانته. بالكاد استطاعت منع نفسها من الإيماء برأسها دون وعي.
حتى الآن، كانت إيزابيل تعيش في خضم المعاناة والألم، مستسلمةً لمصيرها. ربما لو عبدت الرجل الذي يقف أمامها كإلهٍ على الأرض وتنسى كيف تفكر كشخص طبيعي، لشعرت بالراحة.
لكن قبل أن تفقد كل إرادة للمقاومة وكل معنى اكتسبته خلال حياتها، وقبل أن تجثو على ركبتيها أمام أسد المصيدة الذي كان على وشك الانقضاض عليها، قال هو الآخر بتعالٍ.
” لم يعجبني ما فعله بإقتصاصه لأجنحة طائري اولاً”.
” أرجوك توقف عن هذا!!”.
صرخت إيزابيل بعنف، رافعة رأسها وهي تمر في نوبة غضب.
الفارس الذي قطع كِلا من اصبعيها الخنصر ليكسر لها اجنحتها، والأمير الذي أصر على وضع الطائر المكسور في قفصه، كلهم كانوا جنسًا مجنونًا.
اشتعلت أعين إيزابيل التي كانت فارغة بالسنة الحقد والغضب، حتى بعد أن صرخت، لم يكن هناك أي خوف من العواقب أو رعب من تبعات الأمر. غمرتها الرغبة العامرة في طعن خصمها الذي يقف أمامها وقتله.
“أنا لست طائراً! ليست كذلك! ولن أكون!”
“فمن أنتِ إذًا؟”
“راهبة تَتْبَع الديانة المينيسة……!”.
“هل ما حصلتِ عليه قسرًا من المكان الذي أُرسلتِ إليه بأصابعكِ المقطوعة هو حقًا هويتكِ الحقيقية؟”.
“ذلك…………..”.
لم تستطع إيزابيل الرد فاخْتَلَّت همّتها وتدلت كتفاها. كأن أحدًا رَشَّ الماء البارد على النار فبات كل ما تبقّى دخانًا ورمادًا.
“………….. فَمِن ثم، من أكون؟”.
“من يدري، ومن المفارقة أنني في وضع مماثل أيضًا”.
على وجه ليونيل المتنافس على حقّ ولاية العرش، مرّت لمحة من الاستهزاء بالذات.
كانت إيزابيل، غير قادرة على قراءة تعبير وجهه، تفكر مليًا فيما إذا كان ما اكتسبته في المكان الذي أُرسلت إليه قسرًا هو هويتها الحقيقية وليس سابقتها التي جُرِدت منها.
فجأة مدّ ليونيل غمد السيف الذي كان مثبتًا في حزام خصره نحو الأمام، ليبرز مقبض السيف بطريقة تُسَهّل على إيزابيل الإمساك به.
“اسحبيه.”
“…جلالتك؟”
“إن لم تكوني طائرًا، فاسحبيه.”
كان ليونيل يُغوي إيزابيل علانية الان.
في العادة، ما كانت لتُمسك به أبدًا، لكنها الآن منهارةٌ نفسيًا.
مدّت إيزابيل يدها اليمنى، التي تحتوي على أربعة أصابع فقط، وأمسكت بمقبض السيف، ثم سحبته ببطء.
نظر ليونيل إليها في صمت. لتسأله إيزابيل، وهي بالكاد تُمسك السيف بصعوبة.
“ما الذي عليّ أن أفعله الآن؟ هل يجب أن أقدم على الانتحار؟”
“أنا أعلم بالفعل أنّك لا تهابين فكرة الموت. اذا فما قيمة فعل شيء كهذا؟”
“إذًا، ماذا عليّ أن أفعل………………”
“افعلي ما خشيتي فعله.”
قبل ثلاث سنوات، كانت إيزابيل الحاملة للسيف لا تخاف شيئًا في العالم. لكن الآن، مجرد الوقوف وهي ممسكة بالسيف كان مخيفًا للغاية.
كان التحقق من رثاء موهبة مدمّرة أمرًا قاسيًا للغاية.
نظرت إيزابيل إلى ليونيل وهي تبكي، ظل ليونيل ثابتًا، يقابلها بنظرة باردة بالرغم من مظهرها الحزين.
لم تستطع إيزابيل حتى التفكير في رمي سيفها، بل اقتربت من الكرسي المجاور لها وهي ترتجف بشدة.
مسند الكرسي كان مصنوعًا من خشب رفيع نسبيًا. في السابق، كانت تستطيع أن تشقه بضربة واحدة دون عناء.
لكن الآن بدا صلبًا للغاية.
“آه…………….”
حتى وهي تسير ناحية الكرسي، كانت موهبتها المصقولة تعمل على قياس المسافة ورسم المسار الأمثل لنصل سيفها.
لكن الشعور في يدها، وهي تمسك بالسيف، كان مزعجًا للغاية.
‘لا…….’
غياب الإصبع الصغير لم يكن يعيق حياتها اليومية بشكل كبير، فاستطاعت التكيف، لكن عند حمل السيف، اجتاحها شعور رهيب بالضعف
تذكرت تدريبات إعادة التأهيل المأساوية قبل ثلاث سنوات، أيام كانت كالجحيم، مليئة باليأس المستمر.
قررت أن هذه المرة ستكون الأخيرة، وعضّت على أسنانها بإصرار.
“آه..”.
حتى في تلك اللحظة الوجيزة، وبينما كانت تستنشق الهواء من بين أسنانها وترفع سيفها، شعرت بمشكلة.
بدون إصبعها الصغير الذي يدعم ثقل طرف السيف وهو يتحرك للخلف، سيطر إصبعها الرابع، فكان الوضع غير مستقر تمامًا.
أغلقت إيزابيل عينيها محاوِلة كبح رغبة الانكسار في روحها، ثم لوّحت بالسيف.
تحرك جسدها بتناغم مع إرادتها. استُخدمت الكتف والذراع والمعصم لتوليد تسارع في حركة الدوران بالسيف، والمقبض كان يحتاج إلى أن يسحبه الإصبع الصغير ليكتمل القوة والسرعة.
لكنها كانت تفتقد آخر رافعة، فانتهى السيف بوخز بشدة في ظهر الكرسي بشكل فظيع.
-دوي-
النتيجة التي توقعتها بحدسها، أصبحت واقعًا أمام عينيها.
ضحكت إيزابيل وهي تبكي.
“هاها….. هاهاها…….”
أدركت مرة أخرى أن المعجزات لا وجود لها، فأسقطت السيف أرضًا.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

عالم الأنمي عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!

إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 6"