تشنج وجه ماديسون التي كانت على وشك التنفس براحة، فبدا مزيجًا غريبًا بين الرغبة في البكاء والضحك في آنٍ واحد.
“ولِمَ أكلت يرقة؟”
“كنت جائعًا.”
“وهل جعلتك تشبع؟”
“كنت صغيرًا وقتها، وكان يكفيني أن آكل واحدة لأشبع.”
“…….”
“…….”
حدقت ماديسون فيه بنظرة غاضبة، وهي تردّ على كل كلمة دون أن تدعه ينتصر في الحوار. وفي الوقت ذاته، كانت فكرة واحدة تدور في رأسها بلا توقف:
‘كيف انتهى بنا الحديث إلى هذا؟’
لقد أرادت فقط أن تعرف ما إن كان ذلك الرجل من “نفس نوعها”.
‘ولماذا بحقّ السماء أستمع لتجارب شخص يتحدث عن أكل اليرقات صباحًا؟’
ثم ألقت اللوم في ذهنها على فيري.
‘فيري، اللعنة عليك حقًا!’
حوّلت ماديسون نظرها بعيدًا عن سيد، وراحت كتفاها ترتخيان. بدا أنها تحاول إقناع نفسها بشيء ما، فتمتمت بصوت خافت:
“حسنًا، لا بأس. قد يحدث هذا. لا بأس أن يأكل المرء يرقة… أحترم الأذواق على أي حال.”
“ما أكرم هذا التعاطف.”
“……طالما أنت في بيتي، آمل ألّا تمرّ بلحظة جوع واحدة.”
خرج صوتها واهيًا قليلاً، ثم أضافت بفتور:
“لا أريد أن أسمع لاحقًا أن زوجي كان يلتقط النمل ليأكله.”
وانتهى الحديث عند ذلك الحد. عادت ماديسون إلى مكانها، ومسحت فمها بمنديل.
أدرك سيد من تصرفها أنها لم تعد راغبة في متابعة الحوار.
أكملا طعامهما بصمت، وكلٌّ منهما منشغل بطبقِه. وبعد الوجبة، وبينما كانا يحتسيان القهوة الطازجة، تحدثت ماديسون بنبرة عملية تمامًا، لتخبره بما يجب الحذر منه أمام معلّمة آداب السلوك.
“كما قلت لك بالأمس، نحن زوجان نعيش حبًّا عميقًا. تصرف بناءً على ذلك.”
“حاضر.”
“لا داعي للمبالغة كما فعلت البارحة، فقط تصرّف كأننا على وفاق جيد. على أي حال، لن نضطر للالتصاق ببعضنا كثيرًا.”
لم يظن سيد أنه تصرف بشكل مبالغ فيه في اليوم السابق، لكنه لم يقل شيئًا. إن قالت سيدته إن تصرفه مفرط، فذلك يعني أنه كذلك.
فسأل بدلًا من ذلك:
“هل تنتهي الدروس اليوم؟”
“إن كنت جيدًا بما فيه الكفاية، نعم. لكن إن رأت المعلّمة أنك تحتاج المزيد من التدريب، فسنمدّد التعليم.”
صفّقت ماديسون بيديها وكأنها تذكرت أمرًا مهمًا.
“ولا تقلق، ستحصل على أجرٍ إضافي مقابل ذلك، فلا تكره الأمر كثيرًا وحاول أن تتعلم جيدًا. من يدري؟ قد تحتاج هذه المهارة لاحقًا.”
“لم أقل يومًا إنني أكره ذلك.”
“بالطبع، وإن كنت تكره المال، يمكننا الاستغناء عن المكافأة الإضافية.”
“ولم أكره المال أيضًا في حياتي.”
“طبعًا، كما هو متوقع منك.”
رجل يأكل الحشرات من شدة الجوع، ويؤدي أدوارًا تمثيلية بسبب قلة المال.
‘من الطبيعي أن يكون المال عزيزًا عليه.’
“أشكركِ على الإطراء.”
‘ما خطب هذا الرجل بحق؟’
تقلصت ملامح ماديسون للحظة ثم عادت لطبيعتها.
لقد أنهكتها هذه المشادات الصباحية السخيفة.
‘ما كان عليّ أن أصدق فيري.’
ارتشفت آخر جرعة من القهوة دفعة واحدة، ثم وقفت فجأة.
“معلّمة الإتيكيت ستأتي بعد ساعة، فاسترح قليلاً إلى أن تصل. لديّ بعض المهام، سأذهب الآن. أراك لاحقًا.”
لم تُتح له فرصة للرد. غادرت القاعة دون أن تلتفت وراءها، وظلّ سيد يحدّق في ظهرها حتى اختفت عن الأنظار.
وما إن أُغلق باب القاعة، حتى تمتم بهدوء:
“سمعتِ ذلك، أليس كذلك؟ يبدو أن صاحبة هذا القصر تكره الطيور بشدة، فلا تعودي إلى هنا مجددًا.”
وجه كلامه إلى الغراب المرتجف خارج النافذة.
***
وفي الجهة الأخرى، كان حال ماديسون مشابهًا.
ما إن عادت إلى غرفتها حتى رمت نفسها على السرير، وشعرت بوزن خفيف على ظهرها. لقد كانت فيري، قطتها، تدوس على كتفيها بانتصار وهي تهتف بحماس:
[مادي! كيف كان الأمر؟ ألم أقل لك إنني كنت محقة!]
“محقة أو لا… النتيجة صفر في كل الأحوال…….”
[لماذااا؟]
اقتربت القطة بوجهها منها بفضول، فأجابت ماديسون وهي تربّت بخفة على الدفء المتسلل بين عنقها وكتفها:
“كل ما حصلت عليه هو قصة عن تجربة أكل يرقة.”
[ماذااا!]
قفز ذيل القطة فجأة، وغرست مخالبها في ثوب ماديسون.
[قلتُ لك إن هذا الرجل غريب الأطوار!]
“آه، لا أريد التفكير في الأمر. دعيني أنام.”
تسللت كلماتها وهي تغوص بين الوسادة والغطاء:
“استيقظت باكرًا جدًا، أنا مرهقة…….”
[الآن؟ لااا! معلّمة الإتيكيت ستصل قريبًا يا مادي!]
لم تكن ماديسون تريد أن يخطئ في القصر الملكي أو يتصرف بحماقة هناك.
ولو أنها بالتأكيد لم تكن تتمنى أن تراه يجمع اليرقات كطعام أيضًا.
‘……لكن، على الأقل يمكنه الفهم، لذا سيتعلم بسرعة إن علّموه جيدًا.’
أقنعت نفسها بتلك الحجة، ثم قررت:
“حسنًا، فليكن.”
غطّت نفسها مجددًا بالبطانية وقالت:
“افعلي ما تشائين. أنت قطة ذكية، فقط راقبيهم جيدًا. ولست مضطرة للحضور أنا بنفسي، أليس كذلك؟ الأمر مجرد مجاملة.”
[مادي!]
“وإن حاولت المعلّمة قتل سيد من شدة الغضب، أيقظيني آنذاك فقط.”
[مااادي!]
عضّت القطة الغطاء وسحبته بقوة.
[أنتِ من استدعاها يا مادي!]
“ممم… لكن وجودي ليس ضروريًّا…….”
[قلتِ إن عندك رسالة لتوصيلها أيضًا!]
‘……آه.’
ترددت قليلًا، ثم حسمت أمرها بسرعة.
“أنت تعرفين ما عليكِ قوله، أليس كذلك؟”
[مادي!]
استسلمت ماديسون ودفنت رأسها في البطانية أكثر.
“……أثق أنكِ ستفعلين ما يجب.”
[مادي……!]
“ميوو… مييااوو!”
ظلّت مواءاتها الحزينة تتردد طويلًا.
***
فجأة!
حين فتحت ماديسون عينيها، كان غروب الشمس قد بدأ خلف النافذة. التفتت لترى القطة تلعق كفّيها، ثم نظرت إليها بوجه يوحي بالاحتقار.
[استيقظتِ أخيرًا يا مادي؟]
لكن صوتها بقي بريئًا وعاديًّا كطفلة صغيرة.
تمطّت ماديسون بتعب وهي تدير رقبتها المتصلبة.
“وأين معلّمة الإتيكيت؟”
[غادرت.]
“ولن تعود؟”
[بل ستعود. سمعتها خلسة تقول إن التعليم يحتاج إلى المزيد.]
“أوه، يا إلهي.”
ارتجفت ماديسون فعلًا من الاشمئزاز، بينما أخذت القطة تخرخر برضا.
[أنتِ غريبة فعلًا يا مادي. أنتِ من استدعيتها بنفسك.]
***
ومنذ ذلك اليوم، بدأت ماديسون تتجنب معلّمة الإتيكيت بكل جهدها.
فهي بالكاد تحتمل حضور الدروس بنفسها، فكيف تجلس وتشاهد شخصًا آخر يتلقاها؟ كان ذلك عذابًا حقيقيًا.
لكنّ جهودها آتت أُكلها، إذ استطاعت تجنب كلٍّ من سيد والمعلمة تمامًا حتى يوم حفل التنصيب.
ورغم أنها لم تخبر زوجها المجتهد بذلك، فقد كان لديها سبب وجيه لتفادي المعلّمة.
فمعلّمة الإتيكيت تلك كانت تبدأ باللوم كلّما رأت ماديسون، وقد أرسلت إليها مؤخرًا رسالة مليئة بالتوبيخ متنكرة في ثوب التحية.
— “ماديسون روزبوند! كيف تجرئين على اختيار زوجك دون استشارتي؟ ألم أقل لك مرارًا إنني سأختار الشخص المناسب لك؟ هل تعلمين كم صُدمت حين أخبرتني فيري؟”
كانت الرسالة مجرد عذر لتوبيخها، لذلك انتهت رحلتها سريعًا نحو الموقد، حيث احترقت تمامًا. ولو علمت المعلّمة بذلك، لما اكتفت بتوبيخها ليومٍ واحد.
‘ثم إنني لست بحاجة لدروس إضافية على أي حال…….’
هكذا واصلت ماديسون تبرير نفسها شيئًا فشيئًا، إلى أن اقترب يوم الحسم.
****
يوم حفل التنصيب
“يسعدني رؤيتك بعد زمن.”
سمعت ماديسون الصوت الهادئ وهي تنزل السلالم بثوبها الأنيق.
رفعت بصرها فرأت سيد يقف عند أسفل الدرج بانتظارها.
“……بالفعل.”
كان لقاءهما الأول منذ زمن.
فبين انشغال سيد بدروسه وحرص ماديسون على الاختفاء، لم يلتقيا ولو مرة واحدة.
“…….”
على الرغم من أنه كان زوجها الذي رأته لأكثر من أسبوعين، فإن مظهر الرجل الذي ارتدى بدلة رسمية أُرسلت من دار الأزياء وسرّح شعره بمستحضر خاص بدا لها غريبًا بشكلٍ ما.
تجاهلت ماديسون ذلك الشعور عمدًا، وبدأت تتفحّصه من رأسه حتى قدميه بعناية.
‘بمجرّد أن يُلبَس بهذه الأناقة، يبدو أفضل بكثير.’
وبالفعل، لم يكن هناك أي أثر لذلك الفتى من عامة الشعب الذي كان يلتقط اليرقات ليأكلها.
أومأت ماديسون برضا.
‘يبدو كأصغر أبناء عائلة غنية.’
“يبدو أنكِ كنتِ مريضة للغاية.”
قالها سيد وهو ينظر إلى ماديسون التي كانت تتأمل هيئته. فعادت بسرعة إلى الواقع وأجابته بشيءٍ من الإحراج الخفيف:
“نعم، قليلاً فقط. أصبت بنزلة برد.”
“يبدو أنكِ تعافيتِ الآن، وهذا حسن الحظ.”
مجرد تحية عادية، ومع ذلك، لِمَ بدا وكأنه يلمزها بسخريته؟
ربما لأنّها لم تحضر ولو مرة واحدة من دروسه الخمسة في الإتيكيت، رغم كلّ أعذارها المتكرّرة.
‘أنا فقط طيبة، ولهذا أشعر بوخز ضمير بلا داعٍ.’
وبينما كانت غارقة في وهمها ذاك، مدّ سيد يده إليها، وقد أتقن تمامًا تصرفات النبلاء وآدابهم.
“هل تتكرّمين بمنحي شرف مرافقة زوجتي الكريمة؟”
‘انظري إليه! لقد أصبح شخصًا مختلفًا حقًا.’
رمقت ماديسون بعينيها حيثما قد يكون معلم الإتيكيت، وقالت بنبرة خفيفة فيها شيء من الإعجاب:
“……بكلّ سرور.”
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى
التعليقات لهذا الفصل " 9"