بدت ماديسون كأنها توقعت ردّة فعل فيري، فبدأت بمهارة في تهدئة القطة.
“حسنًا، حسنًا. ما الذي أزعجكِ بالضبط؟”
[في ذلك اليوم، تلاقت نظراتنا أنا وهو…!]
“تلاقت النظرات؟”
[لقد كان يحدق بي بوقاحة!]
“فقط من أجل هذا…؟”
[مادي!]
بينما كانت ماديسون تواصل تهدئتها، بدأت القطة تسرد ما حدث.
قالت إنّها حين كانت تعبر حديقة القصر متجهة نحو غرفة ماديسون، لمحت غرابًا يطير قرب النافذة. لكن بدل أن يطير بعيدًا، حطّ على غصن شجرة وبقي هناك طويلاً.
تقول فيري إنها، وقد انزعجت من الأمر، تسلّقت الشجرة لتهاجمه، لكن الغراب لم يُبدِ أي خوف، بل حلق بهدوء بعيدًا حتى اختفى، الأمر الذي جعلها تغلي غضبًا.
[ثم نظر إليّ من الأعلى بتلك النظرة! كما لو كان يسخر مني!]
“ربما كان فقط يريد أن يرى إن كنتِ ستلحقين به أم لا؟”
[كلا! كان الأمر مختلفًا! شيء ما… شيء…]
“…أكان شعورًا سيئًا؟”
[نعم! …لا، لا!]
وبعد لحظة تفكير عميق، وجدت فيري أخيرًا التعبير المناسب.
[لقد شتمني بعينيه!]
“آه، فهمت.”
يا إلهي. لقد التقطت حتى أسلوب كلام ذلك الرجل بعد رؤيته بضع مرات فقط.
طقطق.
بينما كانت ماديسون تفكر بهذا الهدوء، كانت فيري تدور حولها وهي ترفع ذيلها منتصبة، في حالة حماس لا تعني الفرح بل نشوة إيجاد وصف دقيق لما كان يختنق داخلها.
[نعم! ذلك الغراب شتمني بنظراته، مادي!]
سآكله في المرة القادمة! عندما أراه مجددًا، سألتهمه حتمًا!
نظرت إليها ماديسون وهي تتعهد بذلك بنغمة أشبه بالأغنية، وسألتها مبتسمة.
“ألستِ أنتِ الوحيدة التي شعرتِ بذلك؟”
تقلصت حدقتا القطة حين التقت عيناها بعيني ماديسون الخضراوتين.
خفضت فيري صوتها فجأة وقد بدت جادة على نحو غير معتاد.
[لا تستهيني بحدس الحيوانات، مادي. سأغضب حقًّا.]
وأمام هذا الجدّ الذي لم تره منذ زمن، رفعت ماديسون الراية البيضاء.
“حسنًا، كما تريدين. يقولون إنّ الغربان أذكى مما نظن، ربما حقًا شتمكِ.”
[أرأيتِ؟ كنت محقّة!]
نسيت فيري غضبها وقفزت بسعادة، فيما ضحكت ماديسون بخفة وهي تنظر إلى ذيل القطة الأصفر المتمايل أمام عينيها كأنه يغريها.
نطقت ماديسون فجأة بدافع عابر.
“فيري.”
[همم؟]
التفتت القطة بعينين متلألئتين بالفضول، مشهد لطيف لدرجة أنّه يستحق أن يُدرج ضمن “أهم عشرة قطع تراث ثقافية يجب على البشرية الحفاظ عليها”.
خرجت الكلمات من فم ماديسون كأنها مسحورة.
“لو قلتُ إنني أريد أن أضع ذيلك في فمي لمرة واحدة، هل ستغضبين؟”
ميااااوووو!!
كانت تلك المرة الثانية ذلك اليوم التي ينفجر فيها ذيل فيري غضبًا.
***
ترددت كلمات فيري في رأس ماديسون طوال الليل.
الغراب شتمها بعينيه…؟ بالنسبة لماديسون، بدا ذلك ضربًا من الهراء.
ـ لا تستهيني بحدس الحيوانات، مادي.
لكن في هذا العالم، أشياء كثيرة غير منطقية قد تحدث أصلًا.
“صحيح، فأنا نفسي أتحدث مع قطة.”
نعم، مجرد قدرتها على التحدث مع قطة أمر غير منطقي، فكيف بامتلاكها ذكريات من حياة سابقة؟
وبعد تفكير طويل طوال الليل، اتخذت ماديسون قرارًا قبل بزوغ الفجر. كان هناك أمر تريد التأكد منه.
كانت تعلم أنه شبه مستحيل، ونادر الحدوث جدًا داخل الإمبراطورية، لكنها لم تستطع تجاهل احتمال خطر ببالها فجأة.
مع أول ضوء صباح، طلبت من المطبخ تجهيز فطور خاص، ثم أرسلت إلى سيد دعوة لتناول الفطور معها، متذرعة بأنها تريد أن تراجعا معًا بعض الأمور قبل قدوم معلم الآداب.
وبعد أن أنهت استعدادها، وصلت إلى قاعة الطعام في الوقت المحدد تمامًا. كان سيد في انتظارها بالفعل، فحيّاها بهدوء.
“صباح الخير.”
“صباح الخير.”
تبادلا التحية وجلسا في أماكنهما.
بدأت ماديسون الحديث بخفة، تخفي خفقان قلبها المتوتر.
“الطاهي أعدّ طبقًا خاصًا اليوم، ويقول إنه يجب أكله فور تحضيره ليكون في أفضل نكهة، لذا دعوتك لتشاركني الفطور. على أي حال، نحتاج لمراجعة بعض الأمور قبل أن يصل معلم الآداب.”
“آه، نعم.”
“طبعًا، هذا يعتبر عملًا إضافيًا، لذا ستحصل على أجر إضافي. فالعقد لا ينص على أن علينا تناول الفطور معًا.”
“صحيح.”
كان رد سيد عاديًا كالمعتاد.
فأضافت ماديسون بسرعة وهي تبتسم.
“لكن صدقني، سيكون لذيذًا جدًا. الطاهي واثق منه بحق.”
بعد لحظات، وُضع أمام سيد طبق ضخم من طائر مشوي بالفرن على صينية فضية. لم يكن دجاجًا، إذ بدا أكبر من أن يكون كذلك.
حدق سيد في الطبق مترددًا.
“تناوله قبل أن يبرد.”
قالت ماديسون مبتسمة بعينيها.
“حقًا… إنه كبير جدًا.”
“أليس كذلك؟ يقال إن الفطور يجب أن يكون مشبعًا.”
كان أمام كلٍّ منهما طائر كامل، يكفي لعشاء أكثر منه فطورًا.
وبينما بدأ سيد يقطع اللحم بسكينه، قالت ماديسون بنبرة عادية.
“هل سبق أن أكلت لحم الغراب، سيد؟”
“……”
توقف يده عن الحركة للحظة.
ولم تلاحظ ماديسون ذلك، فتابعت وهي تلوّح بشوكتها.
“أنا أكلته مرة واحدة فقط.”
“هكذا… حقًا؟”
“نعم. وكان الطعم… ليس سيئًا كما توقعت.”
“……”
“وأنت، هل جربته من قبل؟”
“لا، لم أفعل.”
“إذًا ستكون هذه أول مرة لك.”
رفع سيد رأسه إليها مستغربًا، فابتسمت ماديسون بمرح.
“هذا اللحم… لحم غراب.”
“……!”
طنين!
وقع السكين على الأرض بصوت حاد.
“…….”
“…….”
توجهت نظراتهما في اللحظة نفسها نحو السكين الساقط من يده.
وحين لاحظت ماديسون تصلب ملامحه، وقفت بسرعة قائلة بارتباك مصطنع.
“آه، آسفة! هل فزعت؟ كنت أمزح فقط.”
أجاب سيد وهو يزفر بخفة دون أن يغيّر ملامحه.
“……مزاح.”
“نعم. هل تعتقد أنني فعلاً سأقدّم لحم غراب؟”
رنّت الجرس تستدعي أحد الخدم، ثم أضافت.
“إنه لحم بط.”
“كنت أتساءل.”
أنزل سيد نظره إلى طبقه مجددًا.
“لقد بدا كبيرًا جدًا على أن يكون دجاجة.”
“صحيح؟ أنا أفضل الدجاج في العادة، لكن الطاهي أصرّ على أن هذا الطبق الجديد من إبداعه، فأردت تجربته.”
حين وصل الخادم، طلبت منه ماديسون إحضار سكين جديد لسيد، وبينما كانت تنتظر، رمقته بطرف عينها.
كان لا يزال متوترًا بوضوح، يحاول التأكد من حقيقة الطبق أمامه.
‘هل ردّ فعله هذا لأن ما قالته فيري صحيح؟’
لم تكن متأكدة بعد.
فالغراب ليس من الطيور المأكولة في الإمبراطورية، وأيّ شخص آخر كان سيُبدي على الأرجح ردّ فعل مشابهًا.
ربما فقط لأنه لا يملك معدة قوية.
‘أو ربما لأنه يحب الطيور كثيرًا فصدمته الفكرة.’
لكن شيئًا واحدًا كان مؤكدًا: سيد يملك مشاعر خاصة تجاه الطيور.
لا يمكن إنكار ذلك، فقد أسقط السكين من يده لمجرد سماع الفكرة.
حتى لو لم يكن السبب ما قالته فيري، فمن الواضح أن إطعامه للطيور لم يكن بدافع “الملل” فقط.
كانت ماديسون تعلم أن طريقتها في التأكد قاسية قليلاً، لكنها لم تستطع التراجع. فهي تفضل دائمًا اليقين التام.
وحين أعطت السكين الجديد لسيد بنفسها، قالت بلطف.
“كنت أمزح أيضًا بشأن أكلي للحم الغراب. لم أجرّبه أبدًا.”
“حقًا.”
“نعم. هناك الكثير من الأطعمة اللذيذة، فلماذا أختار ذلك بالذات؟”
“صحيح.”
استدارت ماديسون كأن الأمر انتهى عند هذا الحد، لكن سيد نطق فجأة من خلفها بصوت فيه مسحة من المزاح الثقيل…
التعليقات لهذا الفصل " 8"