كان سِيد روزبوند غريب الأطوار قليلا، لكنه كان حقًّا الشخصَ الأنسبَ لأداء دور زوج ماديسون المؤقّت.
ذلك التبجّح المميّز والوقاحة السلسة التي فيه بدت وكأنها خُلقت خصيصًا لتُناسب مكانة زوجها.
بفضل ثقته المفرطة بنفسه، لم يشكّ أحد في غرفة القياس في طبيعة العلاقة بينهما، رغم أنهما قضيا نصف يومٍ كامل معًا.
وفي تلك الأثناء، تحرّك الخياطون بنشاطٍ لقياس مقاساتهما، وسؤالهم عن الطراز والزخرفة المرغوبة، حتى وصلوا إلى مرحلة عرض عينات وكتيّبات لأحدث موديلات الفساتين والبِزّات الرائجة في العاصمة.
في الحقيقة، كانت ماديسون ترى أن الفساتين لا تحتاج سوى إلى الأساسيات.
فطالما لم تكن مصنوعة من قماش مهترئ أو مثقوب، فكل الفساتين في النهاية متشابهة.
لذلك اختارت لنفسها طرازًا بسيطًا من بين ما هو شائع حاليًّا في العاصمة.
لكن مع سِيد، لم يكن الأمر بتلك البساطة.
فهو من أصلٍ عامّي، بل ومن غير المعروفين بين النبلاء، ما جعله في نظر ماديسون هدفًا مثاليًّا لمن قد يحتقره سائر النبلاء.
لهذا، لم يكن من الممكن أن تتركه يرتدي شيئًا “عاديًّا” في أول مناسبة يُقدَّم فيها أمامهم.
حتى لو كان زوجًا مؤقتًا لمدة عامٍ واحد فقط.
‘ما زال لي كبريائي على أي حال.’
حتى وإن علم البعض أن ماديسون وجدت زوجها عبر إعلان في الصحيفة، فهي لم تكن تنوي أن تسمح لأحد بالتقليل من شأنها.
ولا حتى أولئك الذين قد يظنّون، دون معرفة الحقيقة، أنها تزوّجت من عامّي بدافع الحب.
فبغضّ النظر عن كيفية لقائهما، سيد الآن هو سِيد روزبوند، ومن الطبيعي أن يُعامَل بما يليق بهذا الاسم.
من أجل مكانة أسرة روزبوند أيضًا.
لهذا، أمعنت ماديسون النظر في الكتالوجات ضعف ما فعلت حين اختارت فستانها.
المشكلة الوحيدة كانت أن المعنيّ بالأمر نفسه بدا بلا أي اهتمام.
رفعت ماديسون رأسها وهي تُقلّب بين الأقمشة ذات اللون الكُحلي الداكن والتصاميم المناسبة.
“ما الأمر؟”
سأل سيد وهو يرفع حاجبًا وقد كان واقفًا بجانبها.
نظرت ماديسون إلى عينيه الرماديتين من وراء عدسات نظّارته قبل أن تقول:
“ألستَ تفكّر في خلع نظّارتك؟”
“……نظّارتي؟”
تجمّد وجه سيد بشكل غير متوقَّع، لكن ماديسون أجابت دون مبالاة:
“نعم. أعتقد أن هذا الزي سيكون أجمل من دونها.”
ثم فكّرت أن مظهره سيبدو أفضل بكثير لو رفع شعره قليلًا عن جبينه.
في تلك الأثناء، ما إن بدأت تتأمّله وهي تسند ذقنها وتفكّر، حتى تدخّل الخدم في غرفة القياس بحماس:
“ذوقكِ مدهش كعادتكِ! هو أنيقٌ بالفعل، لكن من المؤكّد أنه سيبدو رائعًا حتى من دون النظّارة!”
“حقًّا؟”
“بالتأكيد! خصوصًا أن أزرار الأكمام هذه بتصميم فريد ولافت للنظر، وهي من تصاميمنا الحصرية في المتجر…”
كانت الخياطة تسترسل في الحديث عن مدى روعة متجرهم، عندما قال الرجل المقصود فجأة:
“لا.”
قاطَع الخيّاطة صاحبَة البذلة.
“لن أخلع النظّارة.”
قال ذلك وهو يمسك بالنظّارة بيده، بنبرة لا تقبل النقاش.
أمالت ماديسون رأسها بدهشة أمام هذا الإصرار الذي تراه لأول مرة منه.
“ولماذا؟ هل نظرك ضعيفٌ جدًا؟”
“نعم. من دون النظّارة لا أرى شيئًا.”
“آه! إن كان الأمر كذلك، فلا تقلق. متجرنا يُقدّم خدمة تصميم نظّارات مخصّصة حسب الطلب…”
“لا.”
قاطعهم للمرة الثانية، وبنبرة أكثر حزمًا.
بل حتى تراجع خطوة إلى الوراء وكأنه يحمي نظّارته، وهزّ رأسه بإصرار.
“نظري ضعيف جدًّا. هذه النظّارة صُنعت خصيصًا لي، ولا يمكنني الاستغناء عنها.”
“آه، إن كان الأمر كذلك…”
قال موظف المتجر بأسف خفيف:
“فلا بأس، لا يمكننا الاعتراض.”
أومأت ماديسون دون تردّد:
“صحيح. طالما أنه لا يرى من دونها، فماذا بوسعنا أن نفعل؟ ثم إنها تليق به على أي حال.”
لم تكن تنوي إجباره على خلعها بعد أن رفض بتلك الطريقة القاطعة.
ففي الحقيقة، اقتراحها لم يكن جادًّا منذ البداية، بل مجرّد فكرةٍ عابرة فحسب.
سواء خلع النظّارة أم لم يخلعها، لم يكن ذلك يعني الكثير في نظرها.
بل ربما من الأفضل أن يحتفظ بها ليبدو بملامحَ مميّزةٍ أكثر.
أما في داخل ماديسون، فقد أُضيف وسمٌ جديد إلى صورة زوجها المؤقت لعامٍ واحد:
‘الرجل المسكين الذي لا يملك مالاً كافيًا فاضطر لشراء نظّارةٍ باهظة الثمن مخصصة له.’
***
“الطراز رائع لأن العارض نفسه رائع! سنُراسلكم فور الانتهاء!”
غادر موظفو المتجر عند غروب الشمس.
همست ماديسون وهي منهكةٌ لدرجة أنها لم تعد تملك طاقة للعودة إلى غرفتها:
“لا أصدّق أني أفعل هذا مجددًا…”
“متى فعلت ذلك من قبل؟”
“في حفلة ظهوري الأولى في المجتمع.”
لم تكن تريد أن تعيش ذلك مجددًا أبدًا.
ضحكت بخفّة وهي تقول إنها لم تتوقّع أن تمرّ بالتجربة بهذه السرعة مرة أخرى.
أما سِيد، فاكتفى بإدارة رأسه بصمت.
كان متعبًا هو الآخر.
فهو الذي اعتاد الملابس البسيطة العملية، لم يقضِ يومًا كاملاً في اختيار بذلةٍ من قبل.
كان هذا النوع من الاهتمام بالمظهر أقرب إلى ذوق غارنت منه.
رغم أنها، في النهاية، مجرد غراب.
اخترق صوتها أفكاره:
“من الأفضل أن تبقى هادئًا وتُوفّر طاقتك قدر الإمكان قبل الذهاب إلى القصر الإمبراطوري.”
“……حقًّا؟”
“سمعت أنك تكره الأماكن المزدحمة، أليس كذلك؟ بمجرد أن تقف هناك عشر دقائق ستنهار من الإرهاق.”
‘على أي حال، ستُحبّ البقاء حبيس المنزل دون أن أقول شيئًا.’
كأن صمتها كان يحمل هذا المعنى أيضًا.
“وبالمناسبة، استدعيتُ معلمًا خاصًا لدروس عاجلة.”
“دروس عاجلة…؟”
رفع سِيد رأسه أخيرًا وقد أثارت عبارتها انتباهه.
“أي نوعٍ من المعلمين تقصدين؟”
“مدرّب آداب البلاط. لا تعرف شيئًا عنها، أليس كذلك؟”
“……”
“سِيد؟”
وبعد لحظة طويلة، خرج من فمه صوتٌ غامض:
“……آه، فهمت.”
بالطبع كان يعرف آداب البلاط.
فكيلوا نفسه لقّنه إياها قسوة في الماضي.
لكنّه لم يكن قادرا على الاعتراف بذلك لماديسون.
حتى في العشاء الأسبوعي الوحيد الذي يجمعهما، كان يتصرّف كـ “عامّي مؤدّب، لكنه ليس من طبقة النبلاء”.
رغم أنه قادرٌ تمامًا على مجاراة نبلاء البلاط لو أراد.
لذا لم يكن أمامه إلا أن يتقمّص دور الطالب المطيع مجددًا.
ثم أضافت ماديسون، وكأنها تذكّرت للتو:
“آه، سيأتي المعلم غدًا.”
“……؟”
“ألستِ تُخبرينني بذلك متأخرة قليلاً؟”
***
في تلك الليلة، في ثاني أكبر غرفة بقصر روزبوند، اندلع شجارٌ آخر بين إنسان وغراب.
[كان عليكم أن تستدعوني على الأقل!]
تراقص ظلّ جناحي الغراب على الجدار مع كل صرخة غاضبة لها.
“وماذا كنتِ ستفعلين لو جئت؟”
“هل كنتِ ستطلبين منهم أن يفصّلوا لك رداءً خاصًا بالغربان؟”
ضحك سِيد ساخرًا، فصرخت غارنت بانفعال:
[كنتُ على الأقل سأستمتع بالمشهد!]
“هاه، حقًّا…”
اتّكأ سِيد على ظهر الأريكة ورفع رأسه نحو السقف بتعب ظاهر.
“أنا متعبٌ بما فيه الكفاية، فلا تبدئي أنتِ الأخرى.”
[كيف يكون النظر إلى الملابس أمرًا مُتعبًا؟!]
‘كل تلك الأقمشة الملوّنة والحرير اللامع! ألا تعرف كم أنت محظوظ لكونك إنسانًا!’
تجاهلها سِيد وأغمض عينيه، وقد بدأ يشعر أنه آن الأوان لطرد هذا الطائر المزعج.
“بل كوني شاكرة لأنكِ وُلدت غرابًا.”
مالت رأس الغراب في حيرة:
[ولِمَ ذلك؟]
اقتربت من الطاولة بخطوات صغيرة وقد طوت جناحيها بفضول حقيقي، فأجابها سِيد ببرودٍ وهو ينهض قليلاً نحوها:
“لأنني على وشك أن أرميكِ الآن من النافذة.”
***
“كاااااااك!”
انطلقت صرخةٌ حادّة من الخارج، وفي اللحظة نفسها انتفشَ فراء القطّ المستلقي قرب النافذة وتضاعف حجم ذيله من الذعر.
تحوّل جسدها كلّه إلى حالة تأهّبٍ تام، وأصدرت مواءً حادًّا مرتعبًا.
[ذلك الإنسان! إنه يُطعم الغراب مجددًا!]
“اصبري يا فيري. لا يمكنكِ التدخّل في هوايات الآخرين مهما كانت.”
أطلقت فيري صوت “هاااخ!” حادًّا مليئًا بالغضب نحو ماديسون التي أجابت دون حتى أن تنظر إليها.
[سألتهمُ ذلك الغراب بنفسي!]
“افعلي ما تشائين.”
ومع ذلك، لم تُبدِ ماديسون أيّ اهتمامٍ يُذكر بفيرِي، لأنها كانت تعلم أنها ستتراجع عن تهديدها بعد قليل.
قفزت القطة من النافذة وهي تغلي غضبًا، ولم تمضِ سوى بضع دقائق حتى عادت مغطّاة بالأوراق اليابسة من رأسها حتى ذيلها. خطواتها المترنّحة وذيلها المتهدّل كانا كفيلين بإظهار فشلها الذريع لأيّ ناظر.
أطلقت القطة صوتًا حزينًا وهي تئنّ بأسى.
[لا أراه…….]
“أرأيتِ؟ قلتُ لك أن تتحمّلي.”
قالت ماديسون ذلك وهي تضمّ كرة الفراء الصفراء الصغيرة التي اندفعت إلى صدرها، تُهدّئها وتبدأ بنزع أوراق الشجر عن جسدها واحدةً تلو الأخرى.
بدأت فيري تتدلّل، تدلك خدّيها ورأسها على صدر ماديسون وهي تتذمّر بنعومة.
[متى سنقتل ذلك الإنسان يا مادي؟]
“حين يأتي الربيع القادم.”
[هذا بعيد جدًا!]
صرخت فيري ببكاءٍ مرير وهي تشهق. عندها، واصلت ماديسون تهدئتها وهي تتحدث بصوتٍ لطيف:
“فيرِي، قبل أن تأتي آخر مرة… كنتِ تريدين أن تقولي شيئًا. ما كان ذلك؟”
رفرفت القطة بعينيها وقد بدأت تغفو من أثر اللمسات المريحة، ثم رفعت رأسها ببطء.
[……همف. أيّ شيء؟]
“كنتِ تقولين شيئًا عن ذلك الغراب البشري أو نحو ذلك.”
رفرفت أذنا فيري وارتجفت شواربها وهي تحاول التذكّر، ثم فجأة ضاق بؤبؤا عينيها بسرعة، وكأنّ شيئًا مهمًّا قد تذكّرته للتوّ.
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى
التعليقات لهذا الفصل " 7"