أدركت ماديسون أنها تجسدت عندما كانت في العاشرة من عمرها.
أما استنتاجها أنّ هذا العالم ليس عالم رواية، فقد جاء بعد ذلك بقليل، حين بلغت الحادية عشرة.
الإمبراطور، الإمبراطورة، الأمراء، الدوقات، سيدات القصر… بعد أن درست بعناية كلّ الاحتمالات الممكنة وأحاطت بكلّ ما حولها، توصّلت إلى هذا الاستنتاج، لكنّ ماديسون أبقت في ذهنها دومًا احتمالاً ضئيلاً آخر:
أن يكون هذا العالم في الحقيقة رواية لم تقرأها بعد.
ولو كانت رواية هادئة خالية من الأحداث لكان ذلك مثاليًا، لكن إن كانت سيّئة الحظ، فقد تكون رواية مليئة بالمآسي والصراعات.
ولهذا، فعلت ماديسون كلّ ما بوسعها كي تضمن البقاء طويلًا في هذا العالم.
لم يخطر ببالها خيار “العيش بهدوء لعمر طويل” أصلاً — فلو أرادت ذلك، لدخلت أحد الدير فحسب.
بين خياري “العيش بهدوء لعمر طويل” و”العيش بقوة لعمر طويل”، اختارت ماديسون الخيار الثاني.
وكانت النتيجة ما تعيشه الآن: مكانة مستقرة وثروة كافية.
بهذين الأمرين فقط، يمكنها أن تعيش في أيّ مكان دون أن تواجه مشاكل تُذكر.
لذلك، كان لقب عائلة البارون روزبوند وثروته شيئًا لا يمكنها التفريط به، ولأجل ذلك كانت مستعدّة لعقد زواج مزيف إن لزم الأمر.
أما اختيارها لسيد من بين عدد لا يُحصى من المرشحين للزواج، فكان سببه امتلاكه صفات تجعله غير مؤهل ليكون “البطل”، إضافة إلى كونه رجلاً وحيدًا بلا أيّ صلات أو علاقات.
احتمال أن يصبح رجلٌ بلا نسب ولا مال بطلاً في قصة ما كان ضئيلاً للغاية.
صحيح أنها فكّرت في احتمال أن يكون بطل الرواية يتيمًا يتحوّل لاحقًا إلى بطلٍ عظيم، لكنها استبعدت ذلك، لأنّ هذا النوع من القصص خرج منذ زمن عن الموضة، كما أنّ سيد لم يكن يبدو كمن يمتلك ملامح بطلٍ أسطوري.
ومع ذلك، ولتجنّب أيّ طارئٍ محتمل، أجرت ماديسون مقابلة دقيقة بأسئلة مدروسة بعناية، وخطّطت حتى لتفاصيل ما بعد المقابلة، لكن يبدو أنّ ذلك لم يُرضِ فِيري.
– ‘قلتُ لكِ أن تختاري شخصًا يكره الطيور! لماذا أضفتِ تلك الأسئلة الغريبة؟!’
تردّد صدى صراخ فِيري الحادّ في ذهنها.
‘يا لها من فتاة غريبة.’
هل ما زالت غاضبة؟
ارتجفت ماديسون وهي تتذكّر المرة السابقة التي غضبت فيها فِيري، إذ اضطُرّت حينها إلى استبدال جميع أغطية الأسرة والأرائك والوسائد في الغرفة.
هذه المرة، ربما لن تكتفي فِيري بغرفتها، بل ستقلب القصر بأكمله رأسًا على عقب.
لقد أصرت فِيري مرارًا على أن يكون شخص يكره الطيور أحد الشروط الأساسية، لكن ماديسون تجاهلت ذلك ظنًّا منها: ‘مستحيل أن يأتي من بين كلّ هؤلاء شخصٌ يحب الطيور حقًّا.’
لكن لم يخطر ببالها أن يأتي بالفعل شخصٌ يعشق الطيور… بل ويطعمها بنفسه أيضًا.
منذ اللحظة التي سمعت فيها فِيري أنّ ماديسون تنوي البحث عن زوج، بدأت في كره ذلك الرجل المجهول حتى قبل أن تعرف من هو.
قالت إنّها لا تستطيع السماح بدخول رجلٍ غريب إلى مجالها الخاص.
ومع ذلك، قالت أيضًا إنّها لا تنوي قتله…
‘إنها طيّبة على نحوٍ غريب أحيانًا.’
كانت ماديسون تريد أن تعيش طويلاً وبثبات، ولتحقيق ذلك، كان لا بدّ من السيطرة على كلّ المتغيّرات والاحتمالات الممكنة. فما الذي قد يردعها عن فعل أيّ شيء في سبيل البقاء؟
فهذا العالم لم يكن رحيمًا بالضعفاء، ماديسون، بصفتها ضعيفة، كان عليها أن تجهّز وسائلها للدفاع عن نفسها.
ومع أنها شعرت ببعض الأسف تجاه سيد، إلا أنها كانت مستعدّة حتى للقتل إن تطلّب الأمر ذلك.
فما الذي يضمن أن لا ينتهي مصير رجلٍ يدخل في زواجٍ تعاقدي مثل هذا إلى الفناء؟
قد تحدث أمور غير متوقعة — كأن يخرج سيد سيفًا أسطوريًا من حجرٍ ما، أو أن يلتقيا بعد الطلاق بسنواتٍ فيعودان للحب، أو أن يتحوّل إلى شريرٍ مظلم. لذا، كان من الأفضل أن تقطع كلّ احتمال منذ البداية.
‘ومن يدري؟ ربما يقلبه المال رأسًا على عقب فيحاول اغتيالي من أجل الثروة.’
رغم أنه لا يبدو طمّاعًا أو متحمّسًا لأيّ شيء، إلا أن شعورًا غامضًا بعدم الارتياح ظلّ يسكن قلب ماديسون.
أليست طبيعة البشر متقلّبة؟
فـمن يتذوّق طعم المال، تنقلب عيناه، كانت هذه إحدى الحقائق المنقوشة في أعماق قلبها.
وفوق ذلك، إن وقع أمرٌ جلل — كحربٍ أهلية أو غزوٍ من عالم الشياطين — فإنّ الاهتمام بنفس واحدة أسهل بكثير من الاهتمام باثنتين.
لذلك، لم تكن ماديسون تنوي تغيير خطّتها.
حرّكت قدمها قليلاً وهي تتخيّل مستقبلاً لن يحدث على الأرجح.
‘بالمناسبة، كانت فيري تريد أن تقول شيئًا في النهاية… ما الذي كان؟’
شعرت كأنها نسيت شيئًا مهمًا.
وبعد أن أعادت في ذهنها كلّ ما دار بينهما من حوار، تذكّرت أخيرًا كلمات فِيري الأخيرة:
‘لكن الغراب الذي كان يطعمه ذلك الرجل…’
“آه…”
غير أن تذكّرها لتلك الجملة لم يعنِ أنها فهمت معناها.
‘الغراب… ماذا به؟’
هل كان لذيذ الشكل؟ أم مزعج المنظر؟
حاولت تحليل المقصود لكنها سرعان ما توقّفت، مقتنعةً بأنها كانت مجرّد شكوى سخيفة أخرى.
فِيري اعتادت دائمًا على التذمّر بلا سببٍ وجيه.
ومع ذلك، قرّرت ماديسون أن تتأكّد من الأمر في المرة القادمة، فالتأكّد ليس بالأمر الصعب، وقد كان من مبادئها الأساسية ألا تتجاهل أيّ تفصيل مهما بدا بسيطًا.
‘إذا كانت فِيري لا تزال تذكره حينها، طبعًا.’
***
بعد يومين، وصلت الخياطة التي أرسلتها دار الأزياء كما هو مقرر.
وأثناء ذهابها للقاء الخيّاطة، كانت ماديسون تسير في الممرّ جنبًا إلى جنب مع سيد.
كان الممرّ خاليًا بعد أن أرسلت الخادمات مسبقًا، فخيّم عليه الصمت.
كُسر هذا الصمت حين قاربا نهاية الممرّ، إذ فتحت ماديسون فمها بصوتٍ منخفض بعد أن تأكدت من خلوّ المكان.
“معظم الناس لا يعرفون أنني وجدت زوجي عبر إعلان في الجريدة، إلا القلّة من المطلعين على الأخبار.”
ثم تابعت وهي تنظر إلى الأمام دون أن تلتفت إليه:
“لأنني نشرت الإعلان في صحيفة صفراء رخيصة، من تلك التي لا يلتفت إليها الأرستقراطيون مطلقًا.”
ولأن ماديسون لم تلتفت إليه، فقد فعل سيد الشيء ذاته، مثبتًا نظره إلى الأمام بينما أجابها:
“أفهم.”
“حتى الخيّاطة التي سنلتقيها اليوم على الأرجح لا تعرف شيئًا. فمحلّها ليس من تلك التي يقصدها النبلاء الكبار.”
كان منطقها واضحًا: النبلاء الكبار الذين يستخدمون المعلومات كسلاح، والعامة الذين يتلذذون بالقيل والقال — بخلاف هذين الطرفين، فمعظم من يقعون بينهما لا يعلمون شيئًا عن هذا الزواج.
“حقًا؟”
“نعم. لذا فالأرجح أنهم يظنّون أننا زوجان عاديان.”
“لكن بما أنني من العامة، وبما أننا لم نقم حفل زفافٍ رسمي، ففكرة ‘الزوجين العاديين’ تبدو مستبعدة.”
رمقته ماديسون بنظرة جانبية متعجّبة. لماذا يُحسن الكلام فقط في مثل هذه اللحظات؟
ثم أعادت نظرها إلى الأمام وقالت ببرود:
“المغزى هو أننا يجب أن نبدو كزوجين عاديين، حتى لا تبدأ الشائعات الغريبة.”
“وما المقصود بزوجين عاديين؟”
“الزوجان العاديان هما…”
توقّفت ماديسون في منتصف الجملة.
ما هو تعريف الزوجين العاديين أصلًا؟
فالزيجات بين النبلاء غالبًا ما تكون سياسية بلا حبّ، ويكفي أن يحافظ الطرفان على حدود الاحترام المتبادل.
أما هي وسيد فحالتهما مختلفة، فهما مزيج من نبيلة وعاميّ.
ولذلك، احتاجت إلى قصة أكثر إقناعًا، قادرة على تخطي حاجز الطبقة الاجتماعية.
“… نحن نُحب بعضنا بشدّة، هذا هو السيناريو.”
نظر سيد إلى أعلى رأسها بفضول هادئ.
“لقد التقينا صدفة في الخارج، ووقعنا في الحبّ من النظرة الأولى. ورغم الفارق الطبقي بيننا، قررنا الزواج. لكن نظرًا لوجود من يراقبنا، أجلنا حفل الزفاف وأتممنا عقد الزواج فقط.”
أنهت ماديسون سرد قصتها المرتجلة بسلاسة، لكن جاء ردّ سيد ببرود خال من الانفعال:
“غير مبتكرة.”
تجمّدت ماديسون لحظة، ثم تمتمت:
“آه… حقًا؟! وهل تملك أنت فكرة أكثر إبداعًا؟”
“لكن، كما يُقال، للكلاسيكيات سحرها الدائم.”
رمقته ماديسون بوجهٍ مذهول — هل غيّر رأيه بهذه السرعة؟
“إنك…”
كانت على وشك أن تردّ، لكن…
“آه، ها نحن ذا.”
انقطعت كلماتها فجأة عندما انفتح الباب أمامهما بلا إنذار.
عندها فقط أدركت أنّها كانت تمسك بذراع سيد في مشهد يوحي بعلاقة حميمة جدًا.
نظرت ماديسون بعين تحمل الخيانة إلى يد سيد الموضوعة على مقبض الباب، ثم إلى يده الأخرى التي أمسكت بيدها دون أن تُمنح فرصةً للردّ… لكنها لم تستطع أن تُكمل نظرتها، لأن سيد همس في أذنها قائلًا:
“ابتسمي يا ماديسون، ألسنا عاشقين مولعين ببعضنا؟”
وما إن رفعت ماديسون زوايا شفتيها تلقائيًا حتى دوّى صوتٌ جماعي من موظفي دار الأزياء وخادمات القصر الواقفين في صفٍّ واحد:
“مرحبًا، سيدة ماديسون روزبوند.”
انحنوا جميعًا تحيةً لها، ولحسن الحظ لم يلحظ أحد ذلك التغيّر المفاجئ في ملامح وجهها.
حبست ماديسون ارتجافة شفتيها بكلّ ما أوتيت من قوّة، وأجابت بصوتٍ متماسك:
“…أرجو أن تعتنوا بي اليوم.”
لسببٍ ما، انتابها شعورٌ غامض بأنّ هذا اليوم لن يمرّ بسلام.
***
على الرغم من أنّ سيد كان هو من وصف قصّتها بأنها مبتذلة ومملّة وتفتقر إلى أدنى قدرٍ من الإبداع، إلا أنّه شارك في تمثيليّتها بجدٍّ والتزام.
كانت هيئته وهو يمسك بيدها متشابكة الأصابع، يتفحّص بتركيزٍ الأقمشة الملوّنة المختلفة، صورة مثالية لزوج محبّ يعتني بزوجته.
وحين غادر الخيّاطون القاعة للحظات، همست له ماديسون، فكان رده ببرود ووقاحة.
“أنت بارع في التمثيل.”
“أنا بارع في كلّ شيء أصلًا.”
“آه، حقًا؟”
“فالمرء سيفعل أيّ شيءٍ إن كان يريد البقاء.”
“آه… فهمت…”
‘ما هذا الرجل بالضبط؟’
لكنها سرعان ما أقنعت نفسها.
حقًا، من هو الشخص الطبيعي الذي يدخل منزل امرأة غريبة ويقبل أن يلعب دور زوجها لعام كامل؟
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى
التعليقات لهذا الفصل " 6"