استمر التوتر بين الاثنين لبعض الوقت.
وفي نهاية مواجهة خانقة، كانت الغراب هي من خفضت جناحيها أولاً.
خرج صوتٌ واهنٌ يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة من منقارها.
[سيدريون…]
“قلتُ إن اسمي سيد.”
[تِشه.]
على وجه سيد العنيد ارتسمت ملامح إصرارٍ لا يمكن أن يلين.
ــ ‘ذاك الرجل كلما نهيته عن شيء، ازداد إصرارًا على فعله.’
كانت هذه جملة قالها كيلوا ذات يوم عن سيدريون.
وأضاف حينها أن من الأفضل، في مثل هذه الحالات، أن تتركه يفعل ما يريد.
هبطت ريشات الغراب خائرة بوضوح، وقد أدركت الهزيمة.
يبدو أنّ قدرها أن تعود دون أن تحقّق شيئًا.
اقتربت الغراب بخطوات صغيرة نحو النافذة، كأنها تستعدّ للرحيل.
وقالت غارنت بصوت خافت ككلمات أخيرة:
[سأنقل إلى سيّدي كيلوا أنّ سيد يريد قضاء إجازة لمدة عام.]
“بل أخبريه أنّكِ لم تجديني مطلقًا.”
[لن يصدق ذلك.]
“اجعليه يصدق.”
نظرت الغراب إلى سيد نظرة يأس خافتة، ثم أطلقت صوتًا خفيفًا يشبه الأنين.
ورغم أنه بدا وكأنه احتجاجٌ منها، أدرك سيد من شكل ظهرها أنّ غارنت ستجد طريقة لتبرير الأمر أمام كيلوا.
مهما يكن، هناك سببٌ يجعله يُبقيها إلى جانبه حتى الآن.
فالغراب كانت ذكية، ومخلصة إلى حدٍّ كبير.
“غارنت.”
ناداها سيد بصوت منخفض قبل أن تغادر.
فالتفتت الغراب نحوه متسائلة عمّا سيقوله هذه المرة.
قال سيد بهدوء:
“في المرة القادمة التي تأتين فيها، سأحضّر لك بعض اللحم.”
“كااااااك!”
صرخت الغراب ثم حلّقت في سماء الليل.
ظلّ سيد يحدّق طويلاً في السماء التي اختفت فيها غارنت، ثم أغلق النافذة بهدوء.
***
بعد مرور عدّة أيام على زيارة ليلية لم يعرف بها أحد، حلّ يوم الاثنين.
وخلال وجبة العشاء، سمع سيد من ماديسون كلامًا لم يكن يتوقّعه إطلاقًا.
توقّفت يده التي كانت تهمّ بغمس البطاطا في الصلصة في منتصف الهواء.
“القصر الإمبراطوري، تقولين؟”
“نعم، هناك حفلُ تنصيب للألقاب الأسبوع القادم.”
أجابت ماديسون بهدوء وهي تقطّع ستيك السلمون الموضوع أمامها، بأسلوب عابر كما لو كانت تقول: “العشاء غدًا سيكون من لحم الضأن.”
لقد كانت قد أخبرته للتو أنه يجب عليه حضور حفل التنصيب في القصر الإمبراطوري الأسبوع المقبل.
“ألم يكن تنصيب الألقاب يتم تلقائيًا من دون الحاجة إلى الذهاب إلى القصر الإمبراطوري؟”
أجابت ماديسون:
“هذا في حال لم يكن لدى العائلة إقطاعية. أما عائلة روزبوند، فلها أرضٌ خاصة، ولذلك يتم التنصيب رسميًا في القصر.”
ثم أضافت وكأنها تبرّر:
“صحيح أن روزبوند ليسوا من أصحاب الألقاب الرفيعة، ولا من العائلات العريقة أيضًا.”
“أفهم.”
أومأ سيد بهدوء وهو يضع قطعة البطاطا في فمه، فيما كانت أفكاره تسخر من كذبها الواضح.
كانت تقول إن عائلتها ليست بتلك العظمة،
لكن سيد لم يصدق كلمة من ذلك.
فلو كانت عائلة روزبوند حقًا تافهة كما تزعم،
لما امتلكت تاونهاوس فخمًا كهذا في قلب العاصمة.
ثم إن هذه المنطقة تحديدًا تُعرف بأنها موطن النبلاء الأثرياء.
أما المبلغ الذي وعدته به كمقدم للعقد، فكان وحده كافيًا ليؤكد له أن أسرة روزبوند عائلة ثرية جدًا.
لو أرادت ماديسون، لكان بإمكانها أن تجد زوجًا نبيلًا لائقًا بسهولة.
فلماذا إذًا اختارت أن تتزوج رجلاً غريبًا مجهول الهوية مثل سيد؟
سؤالٌ خطر بباله فجأة، لكنه فضّل أن يصمت بدلًا من طرحه، فذلك لم يكن من شأنه أصلاً.
في رأسه، كانت تدور أفكارٌ حول الغراب الذي جاءه قبل أيام، وحول زيارة القصر الإمبراطوري المقبلة.
إن تنصيبها كـ بارونة هو السبب الذي جعله يعيش في هذا المنزل أصلاً.
وبحسب العقد، كان عليه مرافقتها إلى القصر بصفته زوجها.
‘رغم أنّ الأمر مزعج، لكن لا مفرّ منه.’
فهو يعيش هنا كضيف مستأجر، وعليه إذًا الالتزام بطلبات صاحب المنزل.
أنهى تفكيره وقال بلباقة:
“سأستعدّ لذلك.”
“حسنًا، ومن المفترض أن يأتي هذا الأسبوع أحد من مشغل الأزياء لتجهيز ملابسنا للحفل.”
“حسنًا، سأكون على استعداد لذلك أيضًا.”
ابتسمت ماديسون برضاٍ واضح، وأخفى سيد انزعاجه بابتلاع ملعقة من كريمة السبانخ وكأن شيئًا لم يكن.
***
من جهتها، كانت ماديسون منهمكة في تناول الطعام، دون أن تعرف ما الذي يدور في رأس الرجل الجالس أمامها.
لكنها، طوال العشاء، لم تكفّ عن مراقبته خلسة.
كان بداخلها شعورٌ غامض يخبرها بأنّ هناك ما يثير الريبة.
صحيح أنها لا تعرف الكثير عن سيد، لكنها أحسّت أنّ هناك شيئًا غير طبيعي في الموقف.
وبينما كانت تحاول التقاط حبة بازلاء بالشوكة، أدركت فجأة ما الذي كان يزعجها.
رفعت رأسها ونظرت إليه مباشرة.
كان سيد غارقًا في تناول طعامه بطمأنينةٍ تامّة، غير مدركٍ أنّها تراقبه.
تصرفُه الطبيعي جدًا هو ما جعلها تشعر بعدم الارتياح.
‘هل من الطبيعي ألّا يُبدي أيّ ردّة فعل؟’
هل هذا كل ما لديه؟
بعد أن أخبرته بأنه سيتعين عليه الذهاب إلى القصر الإمبراطوري الأسبوع المقبل، اقتصر رده على: “أفهم.”
أليس من المفترض أن يشعر أيّ شخص من عامة الشعب بالخوف أو التوتر عند سماع ذلك؟
فلماذا بدا هادئًا ومتماسكًا إلى هذا الحد؟
‘هل يمكن أن يكون معتادًا على القصر الإمبراطوري؟’
… لا، مستحيل.
‘مستحيل.’
لا بدّ أنّه فقط شخصٌ هادئ لا يُظهر مشاعره بسهولة.
لكن رغم ذلك، شعرت ماديسون بضرورة التأكد.
وضعت الملعقة برفق، وعقدت حاجبيها بقلق ظاهر.
ثم خرج صوتها مفعمًا بالاهتمام الصادق:
“هل أنت بخير؟ أعني… بشأن الذهاب إلى القصر الإمبراطوري.
إن كنت لا ترغب في الذهاب لأجلي فقط، فـ…”
“ليس كذلك. أنا هنا من أجل هذا الدور تحديدًا.
إنه واجبٌ عليّ، فلا داعي للقلق.”
‘هل هو شخص يتحلّى بروح المسؤولية؟’
“هذا مطمئن. يبدو الأمر مرهقًا لك بما أنها أول مرة لك في القصر. أما أنا، فقد كنت أكره الأماكن المزدحمة منذ صغري.”
“وأنا ما زلت أكرهها حتى الآن.”
“آه، إذن…”
“لكن طالما أنني سأكون هناك لأراقب ماديسون فقط، فلا بأس بذلك.”
“…… هذا…”
تلعثمت ماديسون للحظة قبل أن تومئ بخجل بسيط.
“صحيح… نعم.”
فهو سيذهب بصفته زوجها، لذا من الطبيعي أن يكون تركيزه عليها فقط.
لكن لماذا قالها بهذا الشكل تحديدًا؟
شعرت بالحرج دون سبب، وأخذت تحرّك الملعقة في طبقها، ثم أدركت فجأة أنها لم تذكر أهمّ ما في الأمر.
رفعت رأسها بسرعة، وهذه المرّة كان صوتها يحمل قلقًا حقيقيًا:
” هناك شيء آخر… عندما نذهب إلى القصر،
قد تسمع بعض الأحاديث غير السارّة.
أعني… بشأن علاقتنا. لقد حاولتُ قدر الإمكان أن أنشر إعلان الزواج بطريقة لا تجذب الانتباه، لكن، كما تعلم، الأخبار تنتشر بين الناس…”
كانت تحاول أن تدور حول الحقيقة، لكن مغزى كلامها كان واضحًا:
الناس يتحدثون بأنّ ماديسون روزبوند قد تزوجت رجلاً مجهول الأصل من العامة،
بعد أن نشرت إعلانًا مفتوحًا للزواج.
صحيح أنها وعدته بمبلغ كبير كعربون،
وهي تدفعه فعلاً، لكنها ما زالت تشعر بالذنب تجاهه.
فهو يسمع الآن كلامًا لولاها لما سمعه قط،
ولهذا شعرت ببعض المسؤولية نحوه.
“على أيّ حال، لا تُلقِ بالاً لتلك الأحاديث.
إن لم تحتملها، أخبرني فورًا.”
ابتسم سيد بخفة.
“أقدر ذلك، إنه أمر مطمئن.”
“أنا جادة!
إن بدأ أحدهم بالكلام عنك بسوء، فقل لي فورًا.”
“حسنًا.
سأبلغك فورًا حتى لو شعرت فقط أن أحدهم ينوي الحديث عنا.”
“لا داعي لأن تسميه إبلاغًا رسميًا…”
لكنها تابعت بحماس، رافعة قبضتها الصغيرة بثقةٍ وإصرار:
“أستطيع التعامل مع ذلك بنفسي!”
“حسنًا، شكرًا لك.”
‘لكن لا يبدو عليه الامتنان كثيرًا…’
فكّرت ماديسون بتوجّس وهي تعود إلى طبقها بصمت.
بعد ذلك، لم يُسمع سوى صوت الأواني المتصادمة الخفيف.
وقبل أن تُقدّم الحلوى، قررت ماديسون كسر الصمت الذي خيّم على المائدة.
“بالمناسبة، لماذا توقفت عن إطعام الطيور هذه الأيام؟”
“آه…”
“طلبتُ من هدسون أن ينظّف فضلات الطيور، لكنه قال إنّ الطيور لم تأتِ كثيرًا في الأيام الأخيرة، لذلك…”
ثم أسرعت تضيف بتوتر واضح:
“آه، لا أقصد أنني ألمّح إلى شيء أو أضايقك بهذا، إن أردتَ، يمكنني أن أطلب منه تجهيز طعام الطيور كل يوم.”
“لا أشعر بالحرج من مثل هذا الأمر.”
“آه، فهمت. هذا… حسنٌ إذًا، أمرٌ مريح، أليس كذلك…؟”
تلاشى صوتها في نهاية الجملة على نحوٍ غامض، قبل أن يقطعه صوت سيد الهادئ:
“كنتُ أطعم الطيور فقط لأنه نفدت مني الكتب التي أقرؤها، لم يكن الأمر نشاطًا أنوي المداومة عليه.”
“……حسنًا، هذا أيضًا… مطمئن نوعًا ما.”
“…….”
“لا، لا، ليس مطمئنًا بهذا المعنى. سأطلب المزيد من الكتب لك، نعم.”
عدّلت ماديسون كلامها بسرعة، محاولةً تبرير نفسها وهي تواصل قائلة بنبرة ودّية:
“تبدو ممن يحبون القراءة كثيرًا.”
“……نعم.”
“وتحب الطيور أيضًا.”
“يمكن قول ذلك، نعم.”
“آه، فهمتُ… إذًا هكذا الأمر…”
ثم أضافت ماديسون بصوت خافت متردّد:
“أما أنا فأحبّ القطط.”
تعمّدت ألّا تضيف أنها لا تحبّ الطيور.
وبينما كان يستمع إليها، فكّر سيد في نفسه:
‘يجب أن أطلب من غارنت أن تكون حذرة في المرة القادمة التي تأتي فيها.’
وهكذا مرّ ذلك العشاء في يوم الاثنين،
بجوّ غريب من الارتباك والهدوء في آن واحد.
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى
التعليقات لهذا الفصل " 4"