2
أدركت ماديسون أنّها تتذكّر حياتها السابقة عندما كانت في العاشرة من عمرها.
لكن مجرّد معرفتها بذلك لم يجعل حياتها تتغيّر بشكل درامي. فهي وإن كانت قد بُعثت من جديد، إلّا أنّ العيش بحدّ ذاته لم يختلف كثيرًا عمّا كان عليه من قبل.
فقط كانت تتعلّم أسرع من الآخرين، وتنضج قبلهم بوقت طويل.
ولهذا، عندما توفّي والدها، كانت ماديسون في الخامسة عشرة فقط، لكنها تمكّنت من تجاوز المحنة بثبات نسبي. وبعد أربع سنوات، حين بلغت التاسعة عشرة، توفّيت والدتها أيضًا، فدخلت في يأس عميق. لكنّها سرعان ما استعادت تماسكها، وبدأت تسخّر كلّ ما تملكه من معرفة وذكريات من حياتها السابقة لحماية أسرتها وميراثها.
لم يمضِ أسبوع حتى وجدت الحلّ. لكن المشكلة أنّه لم يكن من السهل تنفيذه.
باختصار، كانت تخطّط لما يُسمّى بـ زواج تعاقدي.
غير أنّ هذا الزواج كان يزخر بالثغرات والمضاعفات المحتملة.
فكيف يمكنها أن تجد شريكًا مناسبًا لهذا الزواج؟ وكيف تضمن تنفيذ الاتفاق؟ توقيع العقد وحده لم يكن كافيًا، إذ كانت هناك نقاط كثيرة تبعث على القلق.
خصوصًا أنّها كانت تعرف جيّدًا ما يحدث عادة في روايات الفانتازيا الرومنسية، فحرصت على تجنّب جميع تلك الكليشيهات بفضل ذاكرتها السابقة كقارئة نهمة لتلك القصص. ولهذا قرّرت أن تتفادى جميع الفخاخ المعتادة التي ترافق الزواج التعاقدي.
وأثناء بحثها عن الزوج، وضعت ماديسون عدّة شروط بنفسها:
الشرط الأوّل: ألّا يكون له عائلة.
فالكليشيهات التي تتضمّن أعمام أو أبناء أو أهل يتوسّلون ألّا يحدث الطلاق كانت مرفوضة تمامًا.
الشرط الثاني: ألّا يحبّ الأطفال، وألّا يهتمّ بـ واجبات الزوجين.
فهي لا تريد زوجًا يتغيّر ليلاً ويقول: “علينا أداء واجبنا كزوجين.”
الشرط الثالث: ألّا تكون له رؤيةٌ مستقبلية أو ماضٍ خفي.
كأن تكتشف لاحقًا أنّه أمير دولة مجاورة أو سيد برج السحرة المفقود — تلك كليشيهات قديمة رفضتها تمامًا.
بعد أن أضافت بضعة قواعد أخرى، نشرت ماديسون إعلانًا في صحيفة صفراء. فهي لم تكن ترغب أبدًا أن يطّلع النبلاء الآخرون على الأمر.
وحين شاع خبر بحث وريثة عائلة روزبوند عن زوج، توافد عددٌ كبير من الرجال للمقابلات، جميعهم متحمّسون لإرضائها.
فسألت أحدهم إن كان يملك عائلة، فأجاب متفاخرًا بانتمائه لعائلة كبيرة، ووعدها بأن يكون سندًا لها بعد فقدان والديها.
وسألت آخر إن كان يحبّ الأطفال، فقال إنّه سيُنجب عشرة منها لو أرادت، ليبنيا معًا أسرة سعيدة.
وحين سألَت عن واجبات الزوجين، كرّر الجميع الإجابة ذاتها عن الحبّ الأبدي والعشرة الطيبة وما إلى ذلك…
لكنهم جميعًا رُفضوا دون تردّد.
إلى أن جاء سيد. كان ذلك الرجل المنحرف تمامًا كما أرادته.
فقد طابق شروطها من نواحٍ عدّة.
أولًا، مظهره.
في روايات الفانتازيا الرومنسية، نادرًا ما يكون بطل القصة ذو شعرٍ بني. قد يكون بطلاً ثانويًا لو اجتهد، لكن ليس أكثر — وذلك فقط إن لم يكن يرتدي نظارات.
أما سيد، فكان ذا شعر بني ويرتدي نظارات. أي أنه محكوم عليه ألا يكون بطل أبدًا.
ثانيًا، لم يكن له أقارب، ولا عائلة، ولا حتى لقب نبيل.
فعادةً ما يكون لأبطال تلك القصص أسماء طويلة مزيّنة بالألقاب، لكن سيد لم يكن يملك شيئًا من ذلك.
وهذا يعني بطبيعة الحال أنّه بلا عائلة — وهو ما يتوافق تمامًا مع شرطها.
ففي أغلب القصص، تقع عائلة الزوج في غرام البطلة ولا يستطيعون فراقها، لكن سيد كان محصّنًا من مثل تلك الكليشيهات.
كما أنّه لم يكن قد نشأ في ميتم. فبحسب معايير ماديسون، اليتيم أيضًا خطر، إذ قد يظهر فجأة دوقٌ من كبار النبلاء ويقول له: “لقد وجدنا ابني المفقود!” — وهذا مرفوض تمامًا.
‘مستحيل أن أسمح بشيءٍ كهذا.’
كما قال إنّه لا يملك أي طفل قريب منه. ففي كثير من القصص، يلعب ابن الأخ أو الأخ الصغير دور من يتوسّل للبطلة ألّا ترحل، لذا فضّلت ماديسون تجنّب هذا الاحتمال أيضًا.
ثالثًا، لم يكن له ماضٍ غامض.
وهو أمر شديد الأهمّية. إذ لا يمكن أن تكتشف بعد الزواج أنّ زوجها شقيق الإمبراطور الوحيد، أو مجرمٌ شهير متخفٍّ، أو سيد برج سحري مفقود.
رجل بلا عائلة، بلا أصدقاء، بلا ماضٍ، ولا يحبّ الأطفال — بدا خيارًا مثاليًا.
ورغم أنّها لم تثق بكلامه تمامًا، فإنها كلّفت أحد معارفها بالتحرّي عنه أكثر.
وبعد مقابلاتٍ استمرّت شهرًا، اختارت ماديسون سيد. ولم تشكّ لحظة في صحة قرارها.
ومرّ أسبوع على تسجيل الزواج، لكن سيد لم يفعل شيئًا يُذكر. كان يقضي يومه في غرفته، نائمًا أو يقرأ.
وفي مساء كلّ اثنين، حين يجتمعان لتناول العشاء حسب الاتفاق، سألته إن كان يحتاج شيئًا، فجاء جوابه مملا:
ــ “أحتاج إلى كتب أقرؤها.”
فأسرعت ماديسون بالاتصال بالمكتبة وطلبت كلّ ما صدر حديثًا من كتب في مجالاته المفضّلة.
مرّت أيامٌ أخرى، ولم يُرَ له أثر. وجوده كان شبه معدوم. حتى لو كان في البيت صرصور، لكان أوضح حضورًا منه.
‘بهذه الوتيرة، قد يموت في غرفته دون أن يكتشف أحد ذلك.’
وأثناء تصفيف شعرها في أحد الأيام، سألت خادمتها بيتي بلهجة عابرة:
“سيد؟ هممم…”
فكّرت بيتي قليلًا قبل أن تجيب:
“في الآونة الأخيرة، صار يُطعم العصافير أثناء تنزّهه. قبل أيامٍ أخذ طعامًا لها من دانيال.”
حتى الخدم في المنزل لم يُولوا وجوده اهتمامًا يُذكر، فهم جميعًا يعلمون أنّ هذا الزواج بلا حبّ، وأنّ الانفصال قادم لا محالة.
“طعام للعصافير؟” تمتمت ماديسون بدهشة.
“هل يشعر بالملل؟”
إن كان يطعم العصافير، فلا بد أنّه لا يجد ما يفعله. تذكّرت كيف قال لها أثناء المقابلة إنّه “لا يملك أي طموح خاصّ.”
لكن… إطعام العصافير؟
‘هل يُعقل أن يجد متعة في ذلك؟’
لم تكن ماديسون من محبّي الطيور، فلم تفهم تصرّفه. رأت انعكاسها في المرآة، مائلة الرأس بتساؤل.
وفجأةً، ومضةٌ خاطفة عبرت ذهنها — إحساسٌ مشؤوم لا يمكن تجاهله.
رفعت يدها لا إراديًا لتغطي فمها المفتوح.
“آنستي؟” نادت بيتي بقلق، لكن ماديسون لم تسمعها.
‘لا يمكن…!’
كانت ماديسون شديدة الريبة بطبيعتها، وغالبًا ما أنقذتها شكوكها من كوارث محتملة.
‘مستحيل… لا يكون ذلك تنكّرًا، أليس كذلك؟’
اتّسعت عيناها أكثر.
أليس كثيرًا ما يظهر في القصص أبطالٌ يخفون هويتهم الحقيقية، ويتواصلون مع الحيوانات أو يستخدمونها كجواسيس؟
يتظاهر بإطعام العصافير، بينما يرسل الحمام الزاجل برسائل، أو يتحدّث إلى الطيور نفسها!
بالطبع، سيد شخصٌ عادي — ويجب أن يبقى كذلك — لكن فكرة ماذا لو بدأت تزرع الشكّ في عقلها.
فهي تعرف جيّدًا من يمكنه فعل شيءٍ كهذا. شخصٌ قريبٌ جدًا منها…
ــ “ميآو.”
مرّ في ذهنها طيف قطة صفراء صغيرة.
تغيّر وجه ماديسون فجأة إلى ملامح الجدّ والقلق.
يجب القضاء على أيّ احتمال للخطر قبل أن يقع.
وبنبرةٍ مصطنعة الهدوء، قالت لنفسها:
“سأذهب لأرى كيف يُطعم الطيور.”
“يا إلهي، آنستي، أنت لا تحبّين الطيور.”
“لن أذهب لرؤيتها، بل لرؤية ذلك الرجل.”
ارتسمت الجديّة على وجه بيتي فورًا.
“حتى لو لم يُعجبكِ، لا تطلقيه الآن. فقد يستغرق العثور على زوجٍ آخر وقتًا أطول هذه المرة.”
“لن أطلّقه.”
ماذا تظنّني بالضبط؟
وهي تتمتم لنفسها، خرجت ماديسون إلى حديقة القصر.
وكما قالت بيتي، ما إن وصلت إلى الحديقة حتى رأت أنواعًا مختلفة من الطيور، منشغلة بشدّة في نقر الأرض بمنقارها لتناول الحبوب.
وفي وسط تلك الطيور كان سيد واقفًا، ممسكًا بطعامها.
كانت تلك أول مرة تراه منذ عدّة أيام، ومع ذلك لم تشعر بأي انفعال خاص.
كلّ ما دار في ذهنها هو أفكار من قبيل:
‘يبدو حقًّا أنه جاء من الريف، فقد اعتاد التعامل مع الطيور.’
‘حسنًا، على الأقل ما زال حيًّا.’
توقّفت ماديسون تراقب الطيور من الخلف بصمت حتى لا يلحظها.
من الحمام إلى العصافير، إلى الغربان والزرزور، بدا أن منزلها قد صار مطعمًا شهيرًا لطيور الحي بأسره.
‘عليّ أن أطلب من هدسون تنظيف فضلات الطيور لاحقًا.’
ومع ذلك، لم تفهم مطلقًا سبب حبّه للطيور…
‘لا، ليس وقت هذه الأفكار.’
لقد جئتُ لأراقب سيد، لا لأتأمل الطيور.
أعادت ماديسون تركيز ذهنها بعد أن كادت تتيه في أفكارها، وذكّرت نفسها بهدفها الحقيقي من القدوم إلى هنا.
شيئًا فشيئًا، ضاق بصرها وهي تراقب المشهد بدقّة.
الطيور لم تدرك حتى اقترابها، وكانت منهمكة تمامًا في نقر الطعام، لا تُبدي أيّ اهتمام لا بماديسون ولا بسيد الذي يطعمها.
كانت تأكل بجنون كما لو أنّها لم تذق الطعام منذ زمن طويل.
وبعد بضع دقائق، خلصت ماديسون إلى نتيجة واحدة:
‘ما زلت لا أفهم شيئًا.’
فأصوات الطيور، وخطواتها الصغيرة، وريشها المتطاير، وعيونها الغامضة التي لا يُدرى ما تفكّر فيه، كانت جميعها تُثير فيها الخوف لا غير.
هل يمكنها أن تتعرّف إلى من يطعمها أصلًا؟
رافق هذا التساؤل البريء ارتخاء ملامح ماديسون تدريجيًا.
فالطيور الآن كانت منهمكة إلى درجة تجعلها لن تلاحظ حتى لو خرج ذئب أمامها فجأة.
وقفت هناك تراقب لبرهة، ولم تلحظ أيّ إشارة تدلّ على أنّ سيد ينوي ارتكاب تصرف مجنون مثل التحدّث إلى الطيور.
‘إنّها مجرّد طيور حقًا.’
وبينما كانت تشاهد تلك المجموعة التي تدفن مناقيرها في الأرض بنهم، بدأت تشعر بالحرج لأنها شكّت فيه أصلاً.
في النهاية، الناس العاديون لا يحاولون التحدّث مع الطيور.
ربما هو فقط رجلٌ يحبّ الطبيعة والحيوانات.
استدارت ماديسون بهدوء وغادرت الحديقة،
وقد حدّدت في ذهنها أنّ زوجها، الذي لم يمضِ على زواجهما سوى أسبوع، ليس سوى كسول يعيش بلا هدف.
***
“اخفض نظرك.”
همس سيد بين أسنانه وهو يجزّ عليها بشدّة.
فهم الغراب كلامه، فأدمعت عيناه، وغرز منقاره أعمق في التراب، كما لو أنّه يوشك على أكل الطين نفسه.
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى 🩷
							Chapters
							Comments
														
								
							
						
						- 2 - الفصل الثاني منذ 6 ساعات
 - 1 - الفصل الأول 2025-10-31
 
									
التعليقات لهذا الفصل " 2"