طوال الطريق إلى القصر الإمبراطوري، لم يتبادل الاثنان أي حديث. باستثناء الأوقات التي كانت فيها ماديسون تطرح فجأة أسئلة عشوائية لاختبار زوجها.
فكلما مرّت العربة بجانب مبنى، كانت تخطر في بالها أسئلة فورية وتلقيها عليه كيفما اتفق. كان ذلك بمثابة اختبارٍ خاص من نوعها.
“حين نصل، هل عليك أن تقف إلى يميني أم يساري؟”
“إلى اليسار.”
“وأول شخص يجب أن تلقي عليه التحية في القصر؟”
“جلالة الإمبراطور.”
استمرت سلسلة الأسئلة حتى وصولهم.
وحين بلغت العربة أبعد نقطة يُسمح بالوصول إليها، توقفت بهدوء. وعندما همّا بالنزول، مدّ سيد يده نحو ماديسون بعفوية.
“هل تمنحينني شرف مرافقة زوجتي الكريمة…”
“لا داعي لكل هذا الكلام الرسمي.”
وضعت ماديسون يدها في يده وهي تردّ بنبرة متدلّلة.
“لسنا غريبين عن بعض، نحن نعرف بعضنا، بل ومتزوجان أيضًا. هذا النوع من المجاملات يصلح مع سيدات لا تعرفهن… لا، في الحقيقة، لا تفعلها مع أي امرأة غيري! أبدًا!”
“لن يحدث ذلك.”
“أنا جادّة! لا أريد أن يُقال إن زوجي لعوب!”
ألقى سيد نظرة عليها وضحك بخفة.
“اطمئني، لن يحدث شيء من هذا، هيا بنا يا عزيزتي.”
“…….”
‘ما الذي يضحكه هكذا؟’
اكتفت ماديسون بزمّ شفتيها واضعةً يدها فوق يده، بدلاً من أن تقول له أن يتوقف عن الابتسام بتلك الوقاحة.
الآن ليس وقت التفكير في زوجها الجامح، بل وقت تذكير نفسها بسبب وجودها هنا.
حفل التنصيب.
اليوم الذي ستُصبح فيه ماديسون بارونة روزبوند.
‘صحيح… وجود هذا الرجل بجانبي كان كله من أجل هذا اليوم.’
تنفست بعمق، ثم تقدّمت بخطوة واثقة.
لكن بدايتها الطموحة تعثّرت منذ اللحظة الأولى.
“ماديسون روزبوند!”
رنّ صوتٌ قوي في أرجاء القاعة، فالتفت سيد بسرعة نحو مصدر الصوت. وهناك، رأى امرأة تندفع نحوهما بعزم واضح.
كانت امرأة بشعر أشقر لامع يتطاير خلفها، ويكفي النظر إلى وجهها لمعرفة مدى غضبها. وبينما علت على وجه سيد ملامح الاهتمام والفضول، أغمضت ماديسون عينيها بإحباط.
فهي تعرف تمامًا من صاحبة ذلك الصوت.
“…آريا فيلمن.”
خرج اسمها من بين شفتي ماديسون مصحوبًا بزفرة.
التفتت نحو سيد الذي بدا عليه الفضول الشديد وهمست بسرعة:
“زميلتي من الأكاديمية، لكن علاقتي بها ليست جيدة.”
“أوه، ولماذا؟”
“القصة طويلة.”
ثم أضافت بنبرة حذرة:
“فقط تجاهلها قدر الإمكان.”
لكن يبدو أن سيد سمع كلامها وكأنه إعلان عن حدثٍ ممتع قادم.
“كيف يمكنني تجاهل صديقة زوجتي؟”
تقلّصت ملامح وجه ماديسون وهي ترى نظرات الفضول المتّقدة على وجه زوجها.
“أنت…”
لكن لم يكن هناك وقت لتمنعه، إذ وصلت آريا إليهما بالفعل.
‘انتهى الأمر.’
“أنتِ!”
تبدّل وجه ماديسون على الفور لتتظاهر باللطف المصطنع.
“آه… وأنا سعيدة برؤيتك أيضًا يا آريا.”
لكن آريا لم تكن مهتمة بالتحيات اللطيفة.
أمسكت بذراع ماديسون فجأة وهي تصيح:
“سمعت أنكِ تزوجتِ!”
“نعم.”
أجابت ماديسون بهدوء، رافعة يدها لتريها خاتمها اللامع في إصبعها الرابع. فتدلت فكّا آريا من الصدمة.
“حتى لو كانت حفلة زفاف سرّية، كيف تجرئين على عدم دعوتي؟!”
“لم نقم بحفل زفاف أصلاً.”
“ماذا؟!”
“سجّلنا الزواج فقط.”
بدت على آريا صدمة لا يمكن وصفها، حتى إنها كادت تعضّ لسانها وهي تشير إليها بعنف.
“لا تقولي لي إن هذا بسببي؟!”
تأخرت ماديسون قليلًا في الرد من شدّة الدهشة.
“…بسببك؟ ماذا؟”
صرخت آريا بحدة وقد احمرّ وجهها:
“أيُعقل أنكِ لم تقيمي حفلة لأنكِ خفتِ أن أبدو أجمل منكِ؟!”
“…….”
“…….”
في تلك اللحظة، أدرك سيد فورًا سبب قول ماديسون سابقًا إن علاقتها بها “ليست جيدة”.
“هل خفتِ أن أبدو أجمل منكِ في حفل زفافك؟”
“هل كنتِ تشربين منذ الصباح؟”
“لا تتهرّبي! أجيبي بصدق!”
لم تكن تمزح، بل كانت تؤمن بذلك حقًا. كانت مقتنعة تمامًا بأنها لو حضرت الزفاف، لكانت “صديقة العروس الأجمل” وخطفت الأضواء من الجميع.
ارتسمت على وجه سيد ملامح حيرةٍ عجيبة، لا يعرف هل عليه أن يضحك على هذا الوهم الكبير أم يُعجب بولائها الغريب لصديقتها.
وبينما كان وجه ماديسون يزداد عبوسًا، تابعت آريا بحماسة:
“أم أنكِ احتجتِ إلى المال؟”
عقدت ماديسون ذراعيها وقالت بنبرة باردة:
“أي مال؟”
“أرباح إمارتك الصغيرة لا تكفي لشيء، أليس كذلك؟”
“هاه، أن تعرفي أوضاع إمارتي بهذا الشكل مثير للإعجاب.”
“لو كنتِ بحاجة للمال، كان بإمكاني إقراضك!”
“شكرًا، لكن لا حاجة لي بذلك.”
كان سيد يستمع بصمت، يجمع المعلومات.
فقد فهم من حديثهما أن مصدر دخل عائلة روزبوند هو الضرائب من إمارة صغيرة، وهو مبلغ لا يمكن أن يجعلهم من أثرياء الإمبراطورية.
لكن تذكّر حينها المبلغ الهائل الذي حصل عليه فور توقيع عقد الزواج معها.
‘من أين جاءت بكل ذلك المال؟ هل سرقته؟’
ثم هزّ رأسه داخليًا. ‘لا، مستحيل.’
وأثناء تفكيره، كانت آريا تواصل هجومها:
“وإلا، كيف تتزوجين من رجل من عامة الشعب مجهول الأصل دون أن تقيمي حفلاً حتى؟!”
وهنا شعر سيد أنه لا بد من التدخل. فقد بدأ الكلام يتجاوز حدّه.
“لا أعرف من ذلك المتسكع الذي خدعكِ، لكن…”
“عذرًا لمقاطعتكِ.”
توقّف الجميع.
التفتت كلتا المرأتين نحوه في اللحظة نفسها.
مدّ سيد يده قليلاً بإيماءة هادئة.
“أقترح أن تهدئي قليلاً. لسنا وحدنا هنا.”
وبالفعل، بدأ الناس يلتفتون إليهم ويتابعون المشهد بفضول متزايد.
بدت آريا وكأنها لاحظت وجوده للمرة الأولى، فنظرت إليه من أسفل لأعلى بعينين مليئتين بالريبة والانزعاج.
“ومن تكون أنت؟”
ابتسم سيد برقة، ورفع يده ليُظهر خاتمه المطابق لخاتم ماديسون.
“أنا المتسكع المعنيّ.”
“……!”
“…….”
فتحت آريا فمها من الدهشة بعد أن أدركت من هو، حتى إنها نسيت كل آدابها.
أما ماديسون فهزّت رأسها متعبة وهي تفرك ما بين حاجبيها. لكن سيد تجاهلها، ووضع ذراعه حول كتفها برفق وجذبها نحوه.
“أعتقد أن كلماتكِ كانت قاسية بعض الشيء تجاه زوجتي. لم تفعل شيئًا خاطئًا… سوى أنها وقعت في حبي.”
‘لم يقل أحد إنني ارتكبت خطأ أصلًا!’ فكرت ماديسون بغيظ.
“أنا من أحببتها أولًا، و استمريت ألاحقها ليلاً ونهارًا. قلبها رقيق، فبعد شهرٍ من المطاردة المتواصلة، منحتني أخيرًا فرصة لتناول العشاء معها.”
كانت ماديسون عاجزة حتى عن تحديد من أين تبدأ بالاعتراض، بينما قالت آريا بدهشة:
“هي… قلبها رقيق؟ هي؟!”
“هل هذا أول سؤالٍ يخطر في بالك؟”
“أظن أن زوجك مخدوع بكِ تمامًا.”
“أنتِ…”
لكن سيد سبقها بالكلام.
“صحيح، لقد خُدعت.”
ثم تظاهر بمسح دمعة خيالية وقال بصوتٍ متهدّج:
“بالحب.”
“…….”
“…….”
وبينما حدّقت فيه المرأتان مذهولتين، مدّ يده أخيرًا بابتسامة مهذّبة.
“أوه، بالمناسبة، أنا سيد روزبوند.”
***
غادرت آريا فيلمن أسرع من أي مرةٍ التقتها فيها ماديسون من قبل. كانت خطواتها متعثّرة وملامحها مضطربة، وهي تتمتم بكلمات غير مفهومة بين الإعجاب والغضب.
وقفت ماديسون تمسك رأسها المرهق وهي تتابعها.
أما بالنسبة لسيد، الذي أنهى الموقف كله ببضع كلماتٍ، فلم تعرف ماديسون إن كان يستحق الشكر… أم الصفع.
أما سيد، فما إن أدارت آريا ظهرها حتى عاد في لحظة إلى ملامحه اللامبالية المعتادة.
وبينما كانت ماديسون تراقب وجهه وهو يتبدّل بكل سهولة وكأنّ شيئًا لم يحدث، وجدت نفسها تمسك رأسها مجددًا بإحباط.
ربما أدخلت إلى حياتها شخصًا ليس بالهيّن كما كانت تظن.
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى
التعليقات لهذا الفصل " 10"