كان ذلك مذهلًا بحق.
لم يصدق إيدريك ما يحدث. الخدم الذين كانوا يتظاهرون بعدم السماع حين كان يتوسل إليهم لإخراجه، صاروا الآن يستعدون فعليًا للرحيل.
حتى وهو يراقب القصر يتضاءل في الأفق، لم يكن مصدقًا ما تراه عيناه. لقد كان يعود فعلًا إلى مسقط رأسه.
وفي مركز كل هذا، كان الخادم روفيل، يبتسم ابتسامة هادئة.
“من الأفضل أن نغادر بمجرد أن نكون مستعدين، أليس كذلك؟”
كان روفيل قد سأله هذا فور حصوله على الإذن بالخروج.
حين رأى ما كان يفعله، ظنّ أنه سيستغل الفرصة ليطلب شيئًا، لكن نبرته كانت خفيفة وعادية، كما لو أنه يتحدث عن حالة الطقس.
ولذلك لم يسعه إلا أن يكون متشككًا.
لقد بادر بنفسه وتصرف كأنه مهتم لأمره. أليس هذا وضعًا مثاليًا له وللدوقة كي يحيكا شيئًا معًا؟
(ذلك الخادم هل يحاول أن يجعلني أُسقط حذري بأمرٍ من تلك المرأة؟)
رغم شكوكه، لم يعد يتصرف باندفاع كما في السابق.
والسبب أن التذكار الذي تركته والدته لا يزال في مسقط رأسه.
لقد احتمل كل هذا حتى الآن لأنه كان يدرك أن مجرد كلمة واحدة لتلك المرأة قد تُفسد الأمر بأكمله.
لكن الآن وقد حصل على الفرصة، فعليه أن يذهب ويستعيده مهما كان الثمن.
صحيح، لم يكن واثقًا من أنه سيجده عندما يصل، لكنه لا يستطيع أن يتراجع.
فهو الأثر الوحيد المتبقي من والدته في هذا العالم.
(وإن أخبرت هذا الخادم، فسيصل الخبر إلى مسامع الدوقة لا محالة.)
انعكست ملامح روفيل المتحمسة على زجاج نافذة العربة.
وحين رأى تعابير الحماس تلك على وجهه، شعر بضيقٍ أكبر.
(يظن أننا ذاهبون في نزهة، أليس كذلك؟)
ابتسم إيدريك بسخرية وحدّق خارج النافذة.
عندما جاء أول مرة إلى قصر الدوق، كانت السماء تمطر بغزارة. وكان في حالة مزرية، فلم يكن لديه ما يدفعه للاستمتاع بالمنظر.
أما الآن، فقد بدت الأرض دافئة وجميلة، كما يقال عنها، جنة الجنوب الشرقي.
لكن هذا لا يعني أنه كان مرتاحًا.
شعر بدوار، وكأن طلاءً أخضر قد سُكب على عينيه. كل شيء أصبح باهتًا ومشوشًا في نظره.
في تلك اللحظة، سمع صوت روفيل يقول:
“سيدي الصغير، لدي أمر أود قوله.”
(على الأرجح مجرد هراء جديد)
واصل إيدريك التحديق بصمت من النافذة.
لكنه، رغم ذلك، بدأ يشعر بشيء غريب. فكرة العودة إلى مسقط رأسه كانت تُحرك شيئًا في داخله.
شعر وكأن شيئًا ما يحترق في صدره. كان ساخنًا وباردًا في آنٍ معًا.
لكن الكلمات التالية التي سمعها، محت كل أفكاره.
“في الحقيقة… أنا من قامت الدوقة بشرائه.”
ما الذي سمعه للتو؟
أدار إيدريك رأسه، ناسيًا كل ما كان يفكر فيه قبل لحظة.
ما الذي جرى الليلة الماضية؟ رأى روفيل يبتسم ابتسامة شريرة، ونظرة خبيثة تلمع في عينيه.
“السيدة أمرتني أن أبلغها بكل ما يفعله السيد الصغير، بلا استثناء. فوافقت.”
“….”
لقد صُدم بشدة حتى عجز عن الكلام.
لكن، كعادته، لم يبدُ على ذلك الغبي أي اهتمام بردة فعل سيده.
اقترب منه بجسده العلوي، وغطى فمه بإحدى يديه، وهمس وكأنه يخبره بسر:
“لكن لا تقلق، نحن في الفريق نفسه. سأهتم بكل شيء من الآن فصاعدًا. فقط واصل الثقة بي كما تفعل الآن، ولا تواصل التذمر”
(الفريق نفسه؟)
تلك الكلمات أيقظته فجأة.
“لا تكن سخيفًا! متى أصبحت أنا وأنت في فريق واحد؟!!”
انفجر غاضبًا حتى برزت ثلاث أو أربع عروق خضراء على عنقه الطويل والنحيف.
عندها، قال روفيل “هاه” بفتور، ثم اعترض كما لو كان يشعر بخيبة أمل:
“ماذا؟ هل اكتشفت للتو أننا في الفريق نفسه؟”
كان إيدريك لا يزال غارقًا في الشك.
“كفّ عن هذا. من يدري من يحاول التخلّص مني عبر جعلي أُسقط حذري بهذه الطريقة مجددًا؟”
وكان ذلك مفهومًا.
فالشخص الوحيد الذي وثق به غير والدته، هو من سمّمها وخان ثقته.
وقد اختبر هذه الخيانة في سن صغيرة جدًا. فلا عجب أن ثقته بالناس تلاشت.
كان من المؤسف أنه لم يكن يعلم شيئًا عن كل الجهد الذي بذلته لأجل هذه الرحلة. لقد كنت أركض ذهابًا وإيابًا ليلًا ونهارًا. لكنني أتفهم شعوره.
مع ذلك، لم يستطع إيدريك أن يُخفي غضبه.
“ألا تملك شيئًا من الكرامة؟ حتى وإن كنت تكرهني، حتى وإن كان وجودي يزعجك، لا تزال تفعل كل هذا.”
كيف أتعامل مع شخص لن يصدقني مهما قلت؟
نظرت إلى عيني السيد الصغير بشيء من الصعوبة.
“نعم. كلا الأمرين صحيح.”
لقد أكدت ما قاله.
“لا أملك الكثير من الكرامة، لأني لا أملك شيئًا. ولا أحب السيد الصغير أيضًا.”
“….!”
“فكر بعقل. كيف يمكن أن يحب شخصٌ ما شخصًا مثلك؟ شخص يصرخ ويقذف الأشياء في وجوه الناس بدعوى الغضب؟ حسنًا، إن كان السيد الصغير يحب ذلك، فيمكنني فعلها الآن.”
وما إن أنهيت كلامي، حتى تظاهرت بأنني سأرمي عليه وسادة، فحدق بي بحدة.
أرأيت؟ أرأيت؟
هو نفسه لا يحب ذلك.
ضممت الوسادة إلى صدري وقلت:
“كنت أمزح فقط. قلتها لأنك لا تصدق شيئًا مما أقول، بل تصدق عكسه دائمًا.”
“….”
“وأنت لا تكفّ عن الشك بي بسبب علاقتي بالدوقة. أرجوك، لا تفعل ذلك. أنا أيضًا إنسان، ألا يحق لي أن أُفضّل من أشاء؟ أنا لا أحب الدوقة.”
هذه المرة، بدا على إيدريك الذهول الحقيقي.
ففي قصر دينكارت، كان الناس يتعاملون مع كل كلمة تنطق بها الدوقة كما لو كانت وحيًا من قديسة.
لكنني حقًا أكره هذا النوع من الناس.
“أفضل شخصًا سيء الطباع وصادقًا، مثل السيد الصغير، على الدوقة.”
“لا تضحكني.”
“هذه المرة، أنا جاد.”
رغم أنها كانت أكثر جملة صادقة قلتها في حياتي، إلا أنه لم يبدُ عليه أنه صدقني.
بل فتحت النافذة على وسعها، وكأن مزاجي قد تحسن فجأة.
كانت قسوة من نوع خاص. لم أرمِ الوسادة، لكنني ألقيت عليه قنبلة من الحقائق.
ابتسمت وأنا أنظر إلى السيد الصغير، الذي رغم وقاحته، كان صادقًا على الدوام.
هبّت نسمات لطيفة من النافذة، فرفرفت خصلات شعره، كاشفة عن جبينه النقي.
عيناه الخضراوان، اللتان لطالما خيّم عليهما الحزن، أضاءتهما أشعة الشمس الناعمة، فبدتا أجمل حتى من الطبيعة الممتدة خارج النافذة.
لكن أسلوبه لم يتغير:
“سأتخلص منك فور عودتنا.”
“لا، لا يمكنك فعل ذلك يا سيدي.”
“…!”
“أنا خادم وُظفت براتب من السيدة، أليس كذلك؟ ما لم أستقِل أو تطردني هي، فلن يُجدي ذلك نفعًا. حسنًا… ربما كبير الخدم يمكنه ذلك.”
“….”
لم يردّ السيد الصغير على كذبتي الصريحة فورًا.
بدت عليه الحيرة، بل وحتى عينيه ارتجفتا.
تنهدت في داخلي.
(كنت أعلم أن هذا سيحدث.)
السيد الصغير… جاهل.
في الماضي، لم يتلقَ تعليمًا لأنه وُلد في عائلة فقيرة، وحتى بعد أن أصبح نبيلًا، لم يتلقَ تعليمًا أرستقراطيًا حقيقيًا.
كانت طريقته في الحديث مع كبير الخدم رسمية فقط لأنه يقلد النبلاء الآخرين، لكنها كانت متكلفة وغريبة.
وأضف إلى ذلك أنني من أقنعه بالخروج في هذه المرة، لذا بدا مستعدًا لتصديق أي شيء.
وفي الختام… كانت هذه فرصة لي.
هل يجب أن أبدأ بمحاولة التقرب منه حقًا؟
“على أي حال، إن كنت تريد التخلص مني بهذا الشكل، فعليك أن تتعافى بسرعة وتصبح الوريث الرسمي. عندها، يمكنك أن تفعل ما تشاء، بما في ذلك طردي.”
وقبل أن أنهي كلامي، أغلق عينيه وكأن الاستماع إليّ أصبح عبئًا.
لكن إن أنهيت حديثي بهذه البساطة، فلست ابن تاجر حقيقي.
واصلت البحث عن فرصة للحديث.
وفي هذه الأثناء، وصلنا إلى موقع التخييم. طرق ريمسون الباب الخارجي للعربة بلطف، منتظرًا أن ننزل.
لكن بدلًا من النزول، فتحت الباب على وسعه وأشرت إلى المشهد الواسع خارجًا.
“انظر إلى الخارج. أليس مذهلًا؟ عروق منطقة إلكين، وجبال روكسان، وكل هذه الأراضي الشاسعة… كلها ملكك.”
“….”
“وأيضًا كل أولئك الفرسان العظماء سيُقسمون بالولاء لك. أين يمكنك رؤية شيء كهذا؟ بل يمكنك حتى أن تلتقي بأي شخص يعجبك.”
“ماذا؟ من سيلتقي من؟!”
…هاه؟
أطبقت شفتي فورًا وقد شعرت بالحرج.
لم يكن إيدريك يبدي اهتماما بأي احد.
لو لم تكن العلاقة المتكررة مع ولي العهد، لما كان التقاه أصلًا. وحتى حين التقاه، لم يفتح قلبه بسهولة.
لكن المهم الآن هو إنقاذ الموقف.
سارعت إلى اختلاق الأعذار، بينما كان يحدق بي مجددًا وكأني فقدت صوابي.
“أقصد، أيًّا كان! يمكنك لقاء من يعجبك بحرية، طالما أنك وريث آل دينكارت! أليس بإمكانك لقاء أفراد العائلة الإمبراطورية وحتى عدة أشخاص في الوقت نفسه!!!!”
(حُذفت كم كلمة من كلامها لانه خايس وماله داعي)
كنت أشرح بسرعة، لكنها كانت الحقيقة، دون أي مبالغة.
فبهذا الوجه، وتلك الخلفية، وتلك الشخصية… من عساه يرفضه يومًا؟
لا غرابة في أن يكون له قائمة من الشخصيات الثانوية تتقاتل عليه… هاه، بدأت أغار فجأة.
لكن في تلك اللحظة، أطلق ريمسون، الذي كان واقفًا قرب باب العربة المفتوح ويحبس أنفاسه، صوتًا خافتًا كأنما اختنق، “آخ”.
آه، صحيح.
هذا الهيونغ ما زال لم يغادر بعد.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل "6"