⸻
فتح إدريك عينيه بتثاقل.
لم يكن هناك أحد في الثكنة، وكان ضوء المصباح خافتًا.
كان وقت العشاء، بحسب الرائحة القوية للطعام والضوضاء القادمة من الخارج.
“ذلك الخادم ليس هنا.”
آخر مرة رآه كانت في النهار، وكان يبتسم بخجل.
تراجع واختفى في مكان ما، قائلاً إن رائحته سيئة.
لذا، لم تتح له الفرصة ليسأله عن مصدر المال في وقتٍ سابق.
ضم إدريك العكازات إلى صدره بتعبير معقّد.
“هل كانت تلك المرأة من جهّزت هذا”
لكنه هز رأسه بعد ذلك.
على الرغم من أنه لم يكن يملك معرفة كبيرة بكيفية عمل المجتمع الأرستقراطي، إلا أن الأمر كان مستحيلاً.
فلو أنه رمى مال الدوقة في سلة المهملات، لكان ذلك إهانة عظيمة حتى بين عامة الناس.
“إذًا هل هو مال روفيل؟ لا يمكن، ربما نصفه فقط”
لم يستطع أن يفهم الأمر إطلاقًا. كان من الغريب جدًا أن يحمل خادم هذا القدر الكبير من المال معه أثناء العمل في كل الأوقات.
لم يكن يعلم من أين حصل روفيل على المال. لكن الأهم من ذلك أن روفيل أنفق مبلغًا كبيرًا عليه.
“أنا لا أملك هذا القدر من المال، فماذا أفعل”
وأثناء تفكيره، سمع أحدهم يقترب من الثكنة.
وبعد قليل، ترددت خطوات خفيفة واثقة في أرجاء الثكنة.
بات يعرف من يكون فقط من سماع ذلك الصوت.
“إنه روفيل.”
أغلق إدريك عينيه تلقائيًا وتظاهر بالنوم.
ذلك لأنه لم يكن يعرف كيف يواجه روفيل الآن.
سيكون الأمر محرجًا إن أظهر انزعاجه كعادته، وسيكون مؤلمًا لكرامته أن يشكره. علاوة على ذلك، كان يشعر بعدم الارتياح لطرح الأسئلة.
“لا يزال نائمًا.”
بعد تثاؤب كبير، سمعه يلتقط شيئًا ما.
ثم صوت فرد بطانية على الأرض.
أصغى إدريك بانتباه شديد.
السيدة التي قتلت والدته في الماضي استغلت فرصة كهذه لتجهز السمّ.
“لو فعلتَ شيئًا، سأصرخ فورًا.”
ومع ذلك، ورغم توقّعه، لم يفعل روفيل شيئًا مريبًا هذه المرة.
كل ما سمعه كان صوت حركة بجانب سريره، ثم رائحة طعام لذيذ تقترب منه. كانت رائحة مألوفة.
“هل يجهز وجبة؟”
لم يبدو وكأنه يرغب في إيقاظه فورًا.
كانت هذه عادة اكتشفها مؤخرًا لدى روفيل. رغم أنه يبدو وكأنه يحب فرض الأمور، إلا أنه في الواقع لم يكن كذلك.
ومع ازدياد رائحة الطعام، بدأ لعابه يسيل. لم يأكل منذ الغداء ومعدته كانت خاوية. كان جائعًا جدًا.
وكان ذلك أيضًا لأنه صاحب شهية صغيرة.
“لكن لا بد أنه سيأكل هذه، أليس كذلك؟”
“….”
“في المرة الماضية، خاطرت بحياتي، وهذه المرة، حتى أنني تناثرت بماءٍ قذر.”
وبشكل ما، هبطت شهيته فجأة.
شعر بالانزعاج والاشمئزاز في داخله. لكن روفيل تثاءب بكسل مرة أخرى.
وسماع ذلك جعله يشعر بالإرهاق.
“ما الذي فعلته لتكون متعبًا هكذا”
توقفت مشاعر إدريك المُرّة.
ركبتا روفيل الملطختان بالتراب من الركوع على الأرض، وشعره المبلل بالعرق، وقميصه الأبيض المبلل بالعرق، كلها خطرت في باله تباعًا.
لم يفكر كثيرًا في الأمر وقتها لأن روفيل كان يبتسم بذلك الوجه المشرق. لكن، لم يكن ذلك بالأمر الهين.
لابد أن روفيل كان مرهقًا حقًا، لأنه نام فورًا بعد أن تمدد.
“آه”
بعد أن استمع إلى شخيره لفترة، جلس إدريك جزئيًا على سريره.
ورأى روفيل مستلقيًا على بطانية على بُعد قليل. كان قد غطّ في النوم بالفعل.
ثم حوّل إدريك نظره إلى جانب السرير.
وجبة مرتبة بدقة على صينية خشبية، مغطاة بقطعة قماش بيضاء.
“….”
بعد تردد قليل، أمسك إدريك بالشوكة.
وفي الثكنة الهادئة، امتزج صوت نوم روفيل وصوت مضغ الطعام بتناغم لطيف.
*****
ما إن لامس رأسي الوسادة، حتى غرقت في النوم. لكنني استيقظت في منتصف الليل.
نهضت وأنا أفرك النوم عن عينيّ.
ظهرت لي ملامح الثكنة المألوفة ببطء تحت ضوء المصباح.
وكالعادة، كان السيد الصغير نائمًا في زاوية.
“هل أكل؟”
تسللت بهدوء ونظرت إلى جانب سريره. كان هناك وعاء نصف فارغ.
“لقد أكل جيدًا.”
هذا أمر يبعث على الارتياح.
إذًا، حان دوري لأشعر بالطمأنينة.
بعد أن حدّقت به للحظة، التقطت زجاجة الدواء الفارغة ببطء.
ثم لعقت الداخل كما يُلعق غطاء الزبادي.
“أهمم. هل هذا طعم الطبقة العليا؟”
ربما لأنه يحتوي على غذاء ملكات النحل، كان مذاقه طيبًا جدًا.
“ربما هو مجرد وهم، لكنني أشعر وكأنني أستعيد طاقتي—”
كنت أجهد نفسي لآخذ آخر ما تبقّى، وبدأت وجنتاي تؤلمان قليلًا.
“….!”
هاه!
عندما أعدتها لمكانها، كانت هناك عينان جميلتان تنظران إليّ. كانتا متسعتين لدرجة لا يمكن أن تتسعا أكثر.
كان ينظر إليّ وكأنني مخلوق غريب لا يجب أن يوجد في هذا العالم.
شعرت ببعض الإحراج لأنني ضُبطت متلبسًا—.
حككت مؤخرة عنقي وأنا أفكر بما يمكنني قوله له. ثم، اتخذت قراري.
“يا سيدي، لقد قمت بعمل رائع اليوم. هل يمكنك أن تمنحني مكافأة؟”
اهتزت عينا السيد الصغير بشكل لا يُصدق من طلبي المفاجئ.
كان غريبًا حقًا أن أطلب ذلك فجأة في منتصف الليل.
ومع ذلك، كان هذا أفضل ما يمكن فعله بعد تلك اللحظة المحرجة.
انحنيت نحوه وقدّمت خدي.
“من فضلك، فقط خد واحد.”
“….؟”
“رجاءً، صَفَعْني على هذا الخد.”
ثم، بدلًا من صوت الصفعة المتوقع، سُمِع صوت فرقعة.
****
أخيرًا، انتهت الرحلة القصيرة.
عند عودته، استقبلت الدوقة بليڤان.
“أنا سعيدة لعدم حدوث شيء مميز. أحسنت يا بليڤان.”
أومأ برأسه بإيجاز وتبادل معها بضع كلمات أخرى.
كانت أمورًا تافهة.
مثل أن السيد الصغير أُصيب ببعض دوار الحركة في العربة.
وعندما أخبرها عن العكازات، بدا عليها الحزن والندم بشكل واضح.
“العكازات. هذا صحيح. كان ينبغي أن أتأكد أولًا مما إذا كان قد نسي شيئًا سأحرص على الاعتناء بكل شيء من الآن فصاعدًا .”
تمتمت وكأنها قد عقدت العزم على أن تكون أفضل.
وبعد إنهاء عمله، خرج بليڤان من المكتب وتوجه إلى قاعة التدريب.
مر عبر الممر الخلفي ليتجنب من يخشونه. لذا، لم يكن الخدم يمرون به كثيرًا.
لكن هذه المرة، سمع جلبة في ذلك الممر الهادئ دائمًا.
وعندما استدار في الزاوية، رأى السيد الصغير بالعكازات، ويبدو منزعجًا، وخادمًا نحيفًا بجانبه.
“يا سيدي، إن انحنيت كثيرًا، ستُصاب. سأريك الوضعية الصحيحة. أعطني يدك. حسنًا، اليد. أو هل أحتضنك؟”
“ابتعد عن طريقي. سأهتم بالأمر بنفسي!”
وقف بليڤان خلف أعمدة الممر يراقبهما.
كان وجه السيد الصغير مفعمًا بالألوان لأول مرة.
يحاول التقدّم خطوة بخطوة، وكان يُظهر أخيرًا براءة سنّه.
“آه، حقًا. هذه ليست الوضعية الصحيحة.”
“إذًا جرّبها أنت!”
انتقل نظر بليڤان إلى العكازات القديمة.
كان غرضًا بدائيًا لابن دوقٍ أن يستخدمه.
ومع ذلك، بدا أن إدريك يعتز به ككنز ويحمله معه في كل مكان.
تساءل بطبيعة الحال.
“لماذا لم يأمرني بالبحث عن تلك العكازات؟”
مما رآه، كان إدريك فتىً ذا كبرياء كبير ولا يحب إظهار ضعفه.
هل لم يتحدث إلى الدوقة عن العكازات بسبب كبريائه؟
لم يكن متأكدًا من ما يجب أن يفكر فيه.
وغامت عينا بليڤان بتأمل.
“أو— ربما لم يكن يستطيع الأمر بذلك؟”
*****
لم يستخدم إدريك العكازات التي استعادها.
لأنه لم يكن يرغب في أن يلفت الأنظار في مكان يعجّ بمن يراقبونه أصلاً.
لكن ذلك الخادم قاطعه مجددًا.
“يا سيدي، يا سيدي. دعنا نذهب إلى الحديقة.”
“لا أريد.”
رفض بشدة.
لكنه كان شخصًا ساعده في استعادة هدية والدته، لذا لم يستطع أن يعامله بخشونة كما كان يفعل سابقًا.
على الأقل، في خمس مرات من أصل عشر، كان يتمكن من الرد عليه بدلًا من رمي الأشياء.
ومع ذلك، التقط روفيل ذلك بسرعة واستغل الفرصة على الفور.
لم يكتفِ فقط بالتطفل على غرفته، بل كان يُصرّ على أمرٍ ما.
كان روفيل يسند ذقنه قرب الوسادة ويسأله بإلحاح.
“إذًا، إلى أين تريد أن نذهب؟”
“….”
“فكّر في الأمر. لا بد أن هناك مكانًا واحدًا على الأقل ترغب بالذهاب إليه.”
لا شيء. يمكنك أن تذهب وحدك.”
“بلا قلب.” تمتم روفيل بشكوى.
إدريك، الذي كان مستلقيًا بظهره إليه، تذكّر أمرًا لطالما تساءل عنه.
كان مصدر المال الذي استُخدم لشراء العكازات.
“من أين جاءت كل تلك العملات الذهبية بحق خالق السماء؟”
لم يستطع أن يسأل في السابق لأنه كان يشعر بأنه إن سأل، سيقع في أمر مزعج حقًا.
إن كان مالًا شخصيًا، أو إرثًا، أو ما شابه، فقد كان متأكدًا من أن روفيل سيتصرف بغرابة مجددًا وهو يتفاخر به.
بعيدًا عن مصدر ذلك المال الكثير، فإن سبب مساعدته له ظلّ يدور في ذهنه.
كان فضوليًا لمعرفة الإجابة، لكنه في الوقت نفسه لم يكن يريد أن يعرف.
كان الأمر معقّدًا، لذا أطلق تنهيدة صغيرة. ثم سمع صوت “هممم” من خارج البطانية.
وبعدها مباشرة، سمع كلمات غير متوقعة.
“تلك العملات الذهبية كانت المال الذي أعطتني إياه السيدة حين اشترتني.”
“….”
“هذه الأيام، الجميع يسألني عنها كلما رأوني. وظننت أن سيدنا الصغير سيكون فضوليًا أيضًا.”
كان هناك ضحك خفيف مرح يتناقض مع الجوّ الثقيل.
لم يكن يفهم إطلاقًا.
لماذا أنفق المال عليه بعد أن تم شراؤه؟
وكان من الغريب جدًا التحدث عن أمر كهذا بهدوء.
وبشكل ما، شعر إدريك وكأن روفيل يسخر منه ويضحك عليه في الخفاء.
أنزل البطانية ونظر إلى وجه روفيل. وعندما تلاقت أعينهما، اتسع فم روفيل وعيناه بسعادة.
لم يكن هناك أي أثر لنوايا خبيثة. بل، كانت تلك أدفأ ابتسامة رآها في هذا القصر.
أمال روفيل رأسه أكثر نحو السيد الصغير المرتبك وقال:
“لم يكن بوسعي إلا أن أقبل. لو رفضت، لكانت ستشكّ بي. فظننت أنه سيكون من الحكمة أن نقبل ونستخدمه بشكل جيد. وبالنظر إلى النتيجة، أظن أنني أبليت بلاءً حسنًا.”
ما معنى “نحن”؟
وعندما ضيّق إدريك عينيه، مال روفيل برأسه وكأن هذا كان هو الجواب.
“في ذلك الوقت، كنا بقلب واحد وعقل واحد. أنا أيضًا أردت العكازات، وكنت أكره أولئك الأوغاد كثيرًا. رغم أنه كان قذرًا، لكنه كان منعشًا جدًا، أليس كذلك؟”
وكما قال، فإن أول انتقام في حياته منحه شعورًا لطيفًا ومنعشًا.
ابتسم قليلًا حين فكّر في أولئك الأشخاص الذين ظلوا طوال اليوم عالقين في سلة القمامة وهم يحاولون إخراج تلك العملات الذهبية القذرة واحدة تلو الأخرى.
ومع ذلك، دون أن يُظهر رضاه، أعاد إدريك البطانية عليه.
لم يكن يريد أن يمر بتجربة مؤلمة مجددًا؛ أن يثق بشخص ثم يُخدع.
مرة واحدة في حياته كانت كافية.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 12"