منذ اليوم الذي حُبستُ فيه داخل المخزن، فَقَدتُ رغبتي في الطعام تمامًا.
وفي أحد الأيام، ظهرت السيّدة جولييت فجأة تبحث عنّي من جديد.
“لقد ظللتُ في غرفتي طوال اليوم، الجوُّ خانقٌ للغاية. جولييت ستخرج لتتمشّى قليلًا، لذا رافقيني بهدوء.”
كانت تلك نزهةً في الحديقة.
تذكّرتُ حينها وصيّةَ كبيرة الخادمات: مهما كانت مهامي، فإنّ أوامر السيّدة جولييت تأتي أوّلًا.
وبما أنّه لا يحقّ لي الرفض، أطعتُها في صمتٍ وساعدتُها في تجهيز نفسها.
“اليوم سأجدِلُ شعري ضفيرةً طويلةً واحدة.”
ارتدت جولييت ثوبًا خفيفًا، وجدلت خصلات شعرها الفضّي الطويلة في ضفيرةٍ واحدةٍ أنيقة، ثمّ وضعت قبّعةً فوقها.
“ليت الطقس لم يكن سيئًا بهذا الشكل…”
نظرت بأسفٍ إلى مظلّتها الدانتيل التي تعتزّ بها كثيرًا.
‘يبدو أنّ المطر سينهمر في المساء.’
حين التفتُّ نحو النافذة، لاحظتُ الغيومَ الداكنة المتجمّعة في السماء. لم يكن المطر قريبًا بعد، لكنّه بدا محتومًا قبل نهاية اليوم.
ويبدو أنّها أدركت ذلك، لذا اختارت القبّعة كي لا تتبلّل مظلّتها المفضّلة.
“الحديقة واسعة، فاحرصي على أن تتبعيني جيّدًا. وإن ضِعتِ في الطريق، فلن أعود للبحث عنك.”
“حاضر، سيّدتي.”
ثمّ انطلقت تمشي بخُطواتٍ واثقةٍ رشيقة.
وربّما لأنها تعرف القصر أكثر منّي، فقد كانت تسير وكأنّها تحفظ كلّ زاويةٍ من الحديقة.
“هل تتذكّرين ما قالته جولييت لكِ آخر مرّة؟”
حين وصلنا مدخل الحديقة، توقّفت فجأة. ظللتُ صامتةً أحاول تذكّر أقوالها العديدة.
“قالت إنّ من الأفضل لكِ ألا تقتربي من كبيرة الخادمات.
لا بدّ أنك لم تنسي نصيحة جولييت بهذه السرعة، أليس كذلك؟”
“بالطبع كلا، ما زلتُ أذكرها جيّدًا.”
رغم أنّ الوقت الذي مضى لم يكن قصيرًا، فضّلتُ ألا أعلّق.
“جيد أنّك تذكّرتِ. إذًا، هل تُريدين نصيحةً أخرى من جولييت؟”
استدارت إليّ واضعةً ذراعيها على صدرها كما لو كانت تمنحني معروفًا.
“لا تقتربي كثيرًا من الخدم هنا.
جولييت جرّبت ذلك بنفسها، وصدقيني، لا خير في التودّد الزائد إليهم.”
يبدو أنّ الآنسة جولييت لا ترغب في أن أنشئ صداقاتٍ مع الخدم.
“تفهمين ما أعنيه، أليس كذلك؟ إذًا اتبعيني كما يجب.”
بدأتُ بالمشي وراءها.
وبينما كنتُ أرافقها عبر الحديقة، رأيتُ مناظر خلّابة كثيرة.
أشجارٌ مورقةٌ تتمايل أوراقُها، وعشبٌ مشذَّب بعناية، وأزهارٌ متفتّحةٌ بألوانٍ زاهية.
‘كانت هناك شجرةُ كاميليا في ذاك الركن… لكنها لم تعد موجودة.’
تسلّل إليّ هذا الخاطر بينما كنتُ أتأمّل جمال الأزهار والأشجار.
…شجرة كاميليا؟ هل وُجدت حقًّا هنا؟ هذه أوّل مرّةٍ أدخل فيها الحديقة، فلماذا بدا المشهد مألوفًا؟
حتى في منزلي السابق، لم تكن هناك شجرة كاميليا. فما الذي جعل ذاك الاسم يخطر ببالي؟ كان إحساسًا غريبًا ومُربكًا.
“جولييت ستستريح هناك.”
أشارت بيدها إلى مقعدٍ بعيد.
ومضت بخطواتٍ سريعةٍ حتى تجاوزت البستانيّ من غير أن تلاحظ وجوده.
‘ربّما يجدر بي تحيّته بدلًا عنها؟’
فكّرتُ في الأمر؛ فعلى الرغم من أنّني أمضيت شهرًا كاملًا في هذا القصر، إلا أنّها كانت المرة الأولى التي أرى فيها البستانيّ.
‘سألقي عليه تحيّةً سريعة ثم أعود إلى السيّدة جولييت.’
وبما أنّي كنت أعلم المكان الذي ستجلس فيه، لم أجد في ذلك ضررًا.
لكنّ اطمئناني لم يدم طويلًا، إذ لم تكن المشكلة في السيّدة جولييت…
بل في البستانيّ.
‘……؟’
كانت السماء ملبّدةً بالغيوم، لكن الشمس كانت تُطلّ أحيانًا لبرهةٍ قصيرة.
وفي كلّ مرةٍ تشرق فيها، كما في المخزن تمامًا، لم يكن للبستانيّ ظلّ.
أما ظلّي أنا فكان واضحًا على الأرض.
آه، لا شكّ أنّ الأمر بسبب قلّة النوم.
‘ليت الصيف يأتي سريعًا.’
حينها سأحظى بإجازةٍ أستطيع فيها أن أرتاح حقًّا.
وبينما كنتُ أسترسل في هذا التفكير المريح، نادتني السيّدة جولييت من بعيد، فنسيتُ تمامًا أمر التحية وعدتُ إليها على عجل.
—
「📜<أنظمة العمل في قصر روزيبينا>
المادّة الرابعة: إذا صادفتَ “خادمًا بلا ظلّ”، فعليك الحذر.
إنّهم من “الآخرين” الذين تعرفهم، لكنّهم أكثرهم مكرًا.
لذا، إن التقيتَ أحدهم، عامله بلُطف كما تعامل أيّ خادمٍ عاديّ.
غالبًا ما يملؤهم الإخلاصُ في أداء واجبهم أكثر من أيّ أحدٍ آخر، ومادمتَ لا تُعيق عملهم، فلن يؤذوك.
لكن إن تسبّبتَ في تعطيلهم، فنوصيك باتّباع الآتي:
أولًا: أكّد لهم أنّ ما حدث لم يكن مقصودًا وأنّك لم ترغب في التدخّل.
ثانيًا: اعتذر بصدقٍ عمّا حدث، حتى لو لم يكن ذنبك.
ثالثًا: إن لم يقبلوا اعتذارك، فاعرض عليهم المساعدة.
رابعًا: أثناء مساعدتهم، امدح عملهم؛ فـ”الظلّيون” أكثر من يتأثر بالكلمة الطيّبة، وسرعان ما يتحسّن مزاجهم إذا امتدحتهم.」
—
“هل تعرفين كيف تصنعين إكليلًا من الزهور؟”
حين وصلتُ إليها بعد أن تجاوزنا البستانيّ، بادرتني بالسؤال.
“أعرف، لكن… لِمَ تسألين، سيّدتي؟”
لسببٍ ما شعرتُ بالقلق.
قلتُ إنّني أستطيع لأنّني أجيد ذلك فعلًا، لكن ربما كان الأجدر بي أن أُنكر.
ففي بعض الأحيان، يسألك أحدهم إن كنتَ تجيد أمرًا ما، ولأنّك تملك خبرةً بسيطة فيه تجيب بصدق… لتجد نفسك تتولّى كلّ ما يخصّه بعد ذلك.
لم أظنّ جولييت من هذا النوع، لكن شعورًا غير مريحٍ راودني.
“إذن، اصنعي لجولييت إكليلًا من الزهور.”
وكعادتها، لم تُخطئ نُذرُ السوء.
“وبعد أن تُنهي الإكليل، اقطفي بعض الورود أيضًا.”
“ورود؟”
“نعم. سأضعها في مزهريّة للزينة.
أليست غرفة جولييت كئيبةً مؤخرًا؟ لا بدّ من إنعاشها ببعض الألوان.”
لم تُضَف إليّ مهمّةٌ واحدة… بل اثنتان.
“ما الذي تنتظرينه؟ ألم تقولي إنّك تعرفين كيف تصنعينها؟”
كانت حازمةً في كلامها وكأنّها تذكّرني بوعدٍ قطعته.
“ولا تختاري أيّ أزهارٍ عشوائيّة، فالإكليل سيكون على رأس جولييت نفسها، لذا يجب أن تختاري الأزهار التي تحبّها جولييت.”
يبدو أنّها قرأت نيّتي باستخدام أيّ زهورٍ متاحة، فأضافت شرطًا آخر.
“استمعي جيّدًا، هناك خمسة أنواعٍ من الأزهار تُفضّلها جولييت.”
وذكرت أصنافًا تُعرَف بجمالها.
أصغيتُ إليها بصمت، ثم بدأتُ أبحث عن الأزهار المطلوبة.
‘آسفةٌ يا بستانيّ، لكن عليّ كسب رضا السيّدة لأعيش.’
أحسستُ ببعض الذنب وأنا أقطف الأزهار من حديقةٍ غُنّاء كهذه، لكن لم يكن أمامي خيارٌ آخر.
“هل هذا مناسب، سيّدتي؟”
بفضل تذكّري لطريقة صنع الإكليل، أنهيتُ العمل بسهولةٍ نسبيّة. تناولتْه من يدي بسرعةٍ وأمعنت النظر فيه.
“ليس سيّئًا.”
ولحسن الحظ، بدا أنّها راضيةٌ عنه.
‘لم يبقَ سوى الورود للزينة.’
إن لم تخُنّي ذاكرتي، فقد كانت الورود مزروعةً قريبًا. تركتُها خلفي وذهبتُ للبحث عنها.
‘ها هي ذي.’
وجدتُ مكانًا تغمره الورود الرائعة.
‘كلّها حمراء.’
رغم تنوّع ألوان الورود، إلا أنّ جميعها هنا كان أحمرَ قانيًا. بدأتُ أقطفها واحدةً تلو الأخرى، حتى مددتُ يدي لآخر وردةٍ فحدث ما لم أتوقّعه.
“آه…”
تسلّل أنينٌ خافت منّي. لقد وخزتني شوكةٌ في إصبعي أثناء قطف الوردة.
كان الجرح عميقًا بعض الشيء، وخرجت منه قطرةُ دمٍ صغيرة. لم يكن نزيفًا خطيرًا، لكنه مؤلمٌ بما يكفي. سأحتاج إلى مرهمٍ حين أعود إلى غرفتي.
“ما الذي حصل؟”
لاحظت السيّدة جولييت تجمّدي أمام الورود، فتقدّمت نحوي بملامح قلقة.
“…وخزتني شوكة أثناء قطف الوردة، لا تقلقي.”
لكنّ ردّ فعلها كان مبالغًا فيه.
“لا تقولي إنّكِ نزفتِ هنا؟!”
ولأنّها أصابت الحقيقة، أومأتُ برأسي، فشحب وجهها في الحال.
“توقّفي! لا تقتربي منّي! لا تقفي بالقرب!”
بدأت تتراجع بخوفٍ واضح.
يبدو أنّ السيّدة جولييت تخاف الدمّ بشدّة.
“ل-ليس دمُ جولييت! إنّه دمُ تلك الفتاة!”
لكنّها لم تكن خائفةً من الدمّ ذاته، بل ممّا حولنا.
بوجهٍ شاحبٍ مرتعب، صاحت بأعلى صوتها وسط الحديقة التي لم يكن فيها سواي وسوى البستانيّ:
“جولييت ليست لذيذة!”
هل أعاد الدم إلى ذهنها ذكرى مرعبة؟
بينما كنتُ أفكّر في ذلك، قبضت قبضتيها بعزم.
“أيّ حماقة هذه؟ أتظنّين أن جولييت ستُؤكَل من نباتاتٍ حقيرةٍ مثلكنّ؟ مستحيل!”
ثمّ استدارت راكضةً مبتعدةً بسرعةٍ حتى غابت عن ناظري.
‘ما الذي أصابها؟’
كنتُ أنا الجريحة، ومع ذلك بدتْ هي الضحية.
‘عندما أعود إلى غرفتي، سأبحث أولًا عن المطهّر والمرهم.’
لكن قبل ذلك، يجب أن أجمع الإكليل الذي تركتْه والورود التي قطفتُها.
لو تركتُها هنا، لغضبت طويلًا.
وبينما كنتُ أجمعها في حضني، شعرتُ فجأةً بأنّ أحدًا يراقبني.
‘……؟’
هل كانت الأزهار… تنظر إليّ؟
نظرتُ حولي، فرأيتُ عشرات الأزهار وقد التفتت جميعها في اتجاهٍ واحد…
نحوي، كما لو أنّها تُحدّق بي بثبات.
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 9"