حين أدرت ظهري لكيليان واتجهت نحو الشخص الذي يقف خلفه، لم أستطع إلا أن أندهش من المشهد الذي رأيته.
‘منذ متى لم نلتق؟ آخر لقاء يبدو وكأنه كان منذ نصف عام.’
رأيت أمامي وجهين صغيرين يرمقانني بعينين براقتين كأنهما لا تصدقان ما تراهما.
إلى اليسار وقفت ليري، شعرها الأشقر مضفر بعناية فائقة،
أما إلى اليمين فكانت جين، شعرها الداكن انساب حتى كتفيها، يحمل لمحة من الغموض الرقيق.
كانت ليري بعينين بلون النعناع وملامح تنضح باللطف، وتصرفاتها لا تقل عن ذلك جمالًا.
أما جين، فالنمش على جسر أنفها أضفى عليها سحرًا خاصًا، ومظهرها الصارم للوهلة الأولى يخفي روحها الطيبة تمامًا مثل ليري.
قالت ليري وهي تضع يديها على فمها بدهشة:
“يا إلهي! هل أنتِ حقًا أنتِ، يا آنستي؟”
أما جين، فكانت تقرص ظهر يدها لتتأكد هل هي في حلم أم يقظة.
مددت ذراعي للفتاتين مؤكدة أنني حية وبخير، وناديتهما باسميهما:
“ليري، جين، تعالوا إليّ.”
اندفعت ليري نحوي مسرعة وقالت بفرح غامر:
“الحمد لله أنك بخير، يا آنستي! لكن كيف صار مظهرك هكذا؟ أنتِ مغطاة بالرماد والتراب!”
تجمدت قليلاً، ونظرتا إليّ من أعلى رأسي إلى أخمص قدميّ،
لم أرَ وجهي، لكن صدمتهما كانت كافية لمعرفة أن منظري ليس حسناً.
قالت ليري بلهفة:
“ليس هذا وقت الوقوف هكذا! يجب أن تستحمي فورًا، دعيني أحضر كل شيء.”
لم تمهل نفسها لحظة قبل أن تدور بسرعة، بينما تابعتها جين تحاول ترتيب ما يجب إحضاره أولًا.
تحركتا في عجلة، كأن مظهري أصبح أهم من فرح لقائنا، وتركتاني واقفة كما لو نسيت كيف أضمّهما.
سمعت كيليان خلفي يقول:
“إذا هاتان هما الفتاتان اللتان كنت تتحدثين عنهما.”
التفت نحوه وقلت بابتسامة:
“نعم، وهما تمامًا ما قلته لك عنهما.”
قال وهو يفيض ثقة باختياره:
“حين كانت إيفينا تزور هذا القصر، كانت تستقبلهما دائمًا ببهجة، فظننت أن وجودهما سيمنحك الراحة، ويبدو أن ظني كان صائبًا.”
وافقت على رأيه، فوجود ليري وجين إلى جواري يمنح القلب سكينة لا يمنحها أحد غيرهما.
ثم سألني بنبرة مترددة:
“أعلم أن السؤال متأخر… لكن لماذا كنت تحبينهما إلى هذا الحد؟”
قلت بصراحة:
“لأن شكلهما وتصرفاتهما لطيفة إلى حد يجعلني أريد قضم خديهما.”
وكان جزء من محبتي لهما أنهما أصغر مني بثلاث سنوات، وكنت أراهما كأختين صغيرتين.
اقترب كيليان ووضع ذقنه على رأسي وقال بلهجة معاتبة:
“وماذا عني؟”
قلت ضاحكة:
“أتغار من هذا أيضًا؟”
أكملت مبتسمة:
“ليري وجين لطيفتان لأن بيننا فرق في العمر، أما أنت… فلطيف لأنك رجلي.”
ثم أبعدته قليلاً وقلت:
“لكن توقف، سمعت ما قالته ليري وجين، أنا مغطاة بالغبار والتراب، فلا تقترب حتى أستحم.”
اندهش كيليان بشدة حتى كاد يبدو وكأن البرق ضرب خلفه.
وفي اللحظة ذاتها، ركضت ليري نحوي وهي تنادي:
“آنستي! كل شيء جاهز!”
لوحت لكيليان ثم اتجهت مع الفتاتين إلى الحمام، حيث كانت مجموعة من الخادمات تنتظر.
تكفلت كل واحدة منهن بالعناية بي، من تقليم الشعر إلى العناية بالبشرة والزيوت العطرية وبتلات الورد،
حتى ملأن المكان بكل ما يجعلني أشعر وكأنني ولدت من جديد.
اقترحت ليري أن أستلقي في حوض الماء الدافئ وأغمض عيني،
ووعدتني أنه حين أستفيق، سيكون كل شيء قد اكتمل.
استسلمت للنعاس في الماء،
وحين فتحت عيني، كنت على فراش ناعم، والشمس في كبد السماء.
تمتمت بدهشة:
“إنها الظهيرة.”
ثم دخلت ليري تقول بقلق:
“لقد نمت ثلاثة أيام كاملة يا آنستي، كنا نخشى عليك جدًا.”
ثلاثة أيام؟ يا للصدمة!
ثم هرعت لتحضير الطعام، بينما جاءت جين لمساعدتي على ارتداء ثياب مريحة،
وسرعان ما عادتا ومعهما طبق من الطعام الذي أحبه.
بعد أن انتهيت من الأكل وشعرت بأن كل شيء عاد إلى مجراه، قلت لنفسي:
“حان وقت التأكد من أمر ما.”
فسألت الفتاتين:
“أين كيليان؟”
فقالت ليري:
“إن كان الدوق فهو في مكتبته.”
رافقتني جين حتى الباب، ثم طرقت لتعلمه بوصولي،
وما إن دخلت حتى رفع كيليان كتابه وقال:
“انتظرت طويلاً حتى تستيقظي، كان علي أن آتي إليك بنفسي.”
اقترب مني وقبل أطراف شعري وقال:
“أظن أن لديكِ ما تريدين سؤالي عنه.”
حدقت في عينيه وقلت:
“نعم، وقد جئت لأعرفه الآن.”
التعليقات لهذا الفصل " 87"