ارتجف صوته وهو يحدّق في وجهي، كأن الكلمات تهرب من شفتيه أمام ما يرى.
ولَمْ يكد يتم عبارته حتى انحنى نحوي، تتفحّص عيناه مظهري المنهك بحيرة وخوفًا.
كان شعري الطويل الأشقر، كزهرة الفريجيا، مبعثرًا، وملابسي فقدت ترتيبها كما لو اجتاحتني عاصفة مفاجئة.
ونظراته كانت تنساب من رأسي حتى أخمص قدمي، تبحث في كل تفاصيل جسدي المتعب، كمن يقرأ لغة الألم والصمت.
‘له جانب بريء… كطفلٍ صغير، كما في الماضي.’
تذكّر كيليان بلا وعي طفولة إيفينا، روحها الصافية حين كانت بلا خوف، وقلوبها مشرعة دائمًا، تفيض طيبة وعطفًا بسهولة.
‘في صغرها، كانت تتوق للحب بشغف.’
نشأت تحت ظل والدين غافلين، لا يكترثان لمشاعرها، ولم يبتسما لها حتى عند تحقيق أعلى الدرجات في امتحانات المعلم الخاص.
مهما شغفت بالحب، لم تتلقه، وعندما بدا كل شيء بلا معنى، رتّب لها والدها خطوبة.
‘حينها التقيت بها لأول مرة.’
كان الفضول دافعه.
رغب أن يعرف إن كانت شخصيتها قد تشوّهت بفعل البيئة أم بقيت نقية.
فزارها بهدوء، بلا سابق إنذار، لمجرد إلقاء نظرة على وجهها، وفوجئ بمواجهتها خارج القصر.
‘كان من المستحيل ألا أتعرف عليها.’
عندما رآها لأول مرة، أخبرته بأنها ابنة المربية، وأن الآنسة مريضة، فاقترحت الذهاب معها إلى المهرجان.
مهما حاولت التمويه، لم تستطع إخفاء هالة النبل، فتعرف عليها على الفور.
‘كانت المرة الأولى… شخص يمد لي اللطف بلا سبب.’
في ذلك اليوم، بينما الألعاب النارية تضيء السماء، عالجت إيفينا جرحه.
رغم ارتجالها، شعر بالصدق في رغبتها بعدم إيذائه، وجعلته يشعر بأنها مختلفة.
‘لو لم أغادر للدراسة، ربما كنت قد منعت كل هذا.’
كان لقاؤها الثاني بعد فترة طويلة.
بعد اللقاء الأول، بدأ والديه يمنحانه بعض الاهتمام، قبل أن يرسله للدراسة في الخارج، ولم يكن لديه سبب للرفض.
وعند عودته بعد انتهاء الدراسة، كانت الأحداث قد سبقت: فقدت إيفينا والديها، وأصيبت ذاكرتها بصدمة الحادث، وكأن الزمن الذي قضته معه قد تلاشى.
فقرر أن يرافقها ليعينها على إدارة القصر بمفردها.
‘كنت أظن أن الذكريات ستعود يومًا ما، وأنه يمكننا إعادة بناء الأوقات الجميلة.’
كانت تلك فترة أمل صافٍ، إذ بذل جهده لإسعاد إيفينا، في المهرجانات والرقصات، وإهدائها الهدايا في كل مناسبة، مهما صغرت.
احتفظت بكل هداياه في غرفة خاصة، واستمتعت بالاستماع إلى الموسيقى الجميلة فيها، تكريمًا لكل لحظة قدمها لها.
‘لو لم يحدث الحريق، لكنا عاشقين للسعادة ببطء.’
لكن الشؤم جاء بلا إنذار.
كانت إيفينا محاصرة في غرفتها عندما شبّ الحريق.
تصرفه السريع، بحمل الهدايا والتوجه لغرفتها عبر سحر النقل، كان قرارًا حاسمًا أنقذها.
حتى مع اندلاع النار، لم تمتد النيران إلى الجناح الجانبي، وتمكن من حماية الأشياء الثمينة بسحر الحفظ.
‘لكنها فقدت كل ذكرياتها عن نفسها.’
بعد النجاة، لم تتذكر إيفينا شيئًا عن هويتها.
فقرر كيليان العمل معها في القصر نيابة عنها، ليحميها ويعيد لها مكانتها، مهما كلف الأمر.
—
ارتفعت جفونها المثقلة، وفتحت عينيها ببطء، كما لو كانت حلزونًا يستفيق.
“…ما زال وقت الاستيقاظ مبكرًا جدًا.”
سمع صوتًا مرتعشًا قريبًا، ممتلئًا بالارتباك.
أول ما رأته كان سماءً مظلمة تتلألأ بالنجوم، ثم القصر الكبير بدل الغرفة المشتعلة، وأخيرًا، الرجل الذي يحتضنها بحنان.
‘آه… كما توقعت.’
تداخل وجه كيليان مع صورة ليون التي اعتادت رؤيتها، في كل حركة وكل تعبير، حتى لم تصدق أنها لم تلاحظه من قبل.
رمشت ببطء، لكنه لم ينطق بكلمة، فتح فمه مرات عديدة دون أن يخرج صوتًا.
ربما لم يعرف إن كان يناديها “إيفينا” أم “إيفون”، لكنه كان يعلم أن الشخص الذي أمامه هو نفسه.
‘حتى وإن عادت إلى اسم إيفينا، ذكريات إيفون ما زالت جزءًا مني.’
مدت يدها لتلمس خده، وهمست باسمه الذي طالما حرمت من نطقه.
كبرت عيناه فور سماعها.
“…إيفينا. هل أنتِ حقًا؟”
صوت مملوء بالرهبة والحنين… عاشقها المحبوب، كيليان.
‘لطالما بدا واثقًا، لكن له هذه الوجوه أيضًا.’
في الماضي كان يظهر بلا خوف، أما الآن، فكان كطفل صغير بحاجة للطمأنة.
“إذا كنتِ حقًا….”
تساءلت وهي تشعر بفيض الحنين في قلبها.
“ليست حلمًا.”
احتضنته بكلتا يديها، مسحت دموعه، وأحسسته بوجودها، بأنها كانت دائمًا بجانبه، وأخبرته:
“أنا هنا، أتذكر كل شيء، منذ اللحظة الأولى وحتى آخرها.”
حتى فقدان والديها لم يكن إلا جزءًا من ذكرياتنا، كلها محفوظة.
“أنا، التي أمامك الآن، تحمل ذكريات إيفون أيضًا.”
ابتسم مستندًا إلى كتفه، وأجاب:
“كنت أنتظر عودتك طوال الوقت، إيفينا.”
التعليقات لهذا الفصل " 83"