ارتجف صوته وهو يحدّق في هيئتي، كأن الكلمات تعثّرت عند شفتيه أمام ما رأى.
ولم يكد يُتم عبارته حتى انحنى نحوي، يتفحّص مظهري المرهق بقلق مُلحّ يشبه من يسعى لالتقاط الحقيقة من بين دخان الشك.
كان شعري الطويل الأشقر، بلون زهرة الفريجيا، متشابكاً كما لو أنّ العاصفة مرّت بي، وملابسي مبعثرة كمن خرج لتوّه من كابوس طويل.
ومضت نظراته من رأسي حتى قدميّ كأنها تتلمّس حافّة الانهيار.
قال بصوت خفيض يقطر أسى:
لقد فعلتُ كل ما أستطيع كي لا تعودي لتواجهِي هذا.
وقبض على ذراعي بيد مرتجفة، خشية أن أفلت من بين أصابعه.
‘لقد جاء لينقذني.’
تمنّيت أن أرفع يدي، أن أزيح شعري المبعثر عن وجهه، أن ألمس وجنته التي توتّرت بالحزن، لكنّ جسدي كان خاوياً، فاقد القوّة تماماً.
همس باسمي كما لو يتلو صلاة:
ايفنيا.
ولمّا ارتطم الاسم بقلبي، أدركت في تلك اللحظة أنّي ما زلت حيّة، وأنّ هناك طريقاً للعودة.
تمتمت باسمه، مترددة، ضعيفة الصوت:
كيليان…
ما إن خرج الاسم حتى اتسعت عيناه، كأنه يسمع شيئاً كان يظن أنه فُقد إلى الأبد.
‘كان هذا الاسم يليق به دائماً… كيف نسيته؟’
تدافعت الأسئلة في رأسي:
لماذا كنت أعمل هنا بلا ذاكرة؟
ولماذا كان كيليان يعيش متخفّياً تحت اسم مستعار؟
ولماذا بدا كل شيء في هذا المكان مقلوباً؟
لكنّ لساني بقي عاجزاً عن الكلام.
في الخارج، كانت الأصوات تعلو وتختلط بالفوضى.
سمعت أحدهم يقول:
الخير أنّ النار لم تصل إلى بقية الغرف، لكن الدخول يكاد يكون مستحيلاً.
وتلاه آخر:
يجب إخراجها أولاً مهما كلف الأمر.
عندها، بدا أن كيليان استعاد توازنه.
ربما فهم كل ما لم أتمكن من قوله لمجرّد أني ناديت اسمه.
قال بحزم:
هذا المكان لم يعُد آمناً.
ثم جذبني إلى صدره، ورفعني بذراعين ثابتتين لا ترتجفان.
أردف بصوت منخفض:
مسألة استعادة ذاكرتك… سنؤجلها.
من الآن فصاعداً… سأتصرف وحدي.
سامحيني يا ايفنيا.
وفي غمضة عين، انبثقت من الأرضية شعلة ضوء خاطفة.
نقشٌ سحري أخذ يتوهّج تحت أقدامنا، شبيه بما رأيته في القبو، يشق الدخان بنورها المتصاعد.
هبّت ريح قوية من الأسفل، فارتفع شعرنا نحو السقف كما لو أنّ الهواء يُحاول اختطافنا.
قال:
تمسّكي بي جيداً يا ايفنيا.
وحين أطعت، بدأت الغرفة تتلاشى.
لم يعُد ذلك المكان المحترق، ولا تلك الجدران التي فقدت ملامحها.
كانت تفاصيل أخرى تتشكّل ببطء… مكان أعرفه.
وضع كفه فوق عيني وهمس:
استريحي… وحين تستيقظين، سيكون كل شيء قد انتهى.
حاولت مقاومة النعاس، لكن الظلام ابتلعني رويداً رويداً.
—
كان الحلم كالهوّة التي تنفتح على الذاكرة. بابٌ عميق يعيد ترتيب الزمن بوجعٍ لا يرحم.
وحين عادت الذكريات… عادت كلها دفعة واحدة.
أول ما رأيته كان لقائي الأول بكيليان.
‘لقد نسيتُ هذا كلّه.’
أتذكّر أن ذلك المشهد لمح في خاطري عندما كنت أعيش كإيفون، لكن إيفينا لم تستدعِ منه شيئاً يوماً.
ولدت بين والدين صارمين لكن محبين.
وفي تلك الأيام، تقرر فجأة عقد خطوبتي على رجل لم أعرفه قط.
اختنقتُ بفكرة أني مجرّد جزء من قرارات الآخرين.
فبدّلت ثيابي مع ابنة المربية وهربت… وهناك التقيت بكيليان.
شهدنا الألعاب النارية… وداويت جرحه…
ثم تلاشت ذاكرتي بعد ذلك.
وعقب مهرجان الألعاب، وقع الحادث الذي مزّق حياتي.
كنت مع والديّ في الطريق للقاء عائلة روزيفينا.
رجوتهما أن أصحبهم… ولو لم أفعل، لربما عاشا.
وقع الحادث أمام عيني.
رحلا.
وبقيت… وانمحى كل شيء في داخلي.
‘لذلك نسيت وجوههما… ونسيت الشخص الذي كان يقف إلى جواري في تلك الليلة.’
كبرت وأنا أقود شؤون العائلة بصلابة، متسترة على الذاكرة الناقصة التي لا يلاحظها أحد.
ووسط ذلك كله… عاد كيليان.
عاد الرجل الذي اختفى بعد الألعاب.
وعاد لأنه علم بما حدث… فعاد إليّ.
‘كان طيباً… صبوراً… مخلصاً.’
كنت جافة، حادة، أضع مسافة بيني وبين العالم.
ومع ذلك، كان يتقدم… خطوة بعد خطوة… حتى ذاب جليدي أمام دفئه.
وكيف لا؟
من غيره تذكّر أعيادي؟
من غيره قدّم الورود في أيام لم أكن أحتمل فيها النظر إلى نفسي؟
من غيره هبّ لنجدتي كل مرة دون أن أطلب؟
وحين فقدت ذاكرتي ثانية، ظلّ إلى جواري… في هيئة ليون.
يراقبني.
يحرسني.
ويُعيد لي خطواتي التي ضاعت.
والآن… أريد أن أعرف كل شيء.
لماذا أخفى هويته؟
وما علاقة ذلك بالقصر الذي تغيّر؟
وبالذكريات الممحوة؟
وبالنقوش السحرية؟
‘أريد أن أستيقظ…’
أريد أن أقول له الشيء الذي حبسته سنوات.
أنني… أحبه.
منذ أول لقاء.
ومع هذه الرغبة، شعرت بثقل جفوني ينسحب…
وحان وقت العودة.
—
انطفأ الضوء تحت قدميه، وهدأت الرياح التي كانت تعصف بالغرفة.
ظهر القصر الذي عاش فيه دهوراً، وعلى صدره تنام إيفينا، هادئة كطفلة.
كانت تستلقي في نوم صاغه سحره بنفسه.
فكّر:
هل ستنهض إيفون؟
أم ستعود إيفينا؟
لا شيء مؤكد.
وتذكّر كيف نطقت اسمه الحقيقي.
ذلك الاسم الذي لم يسمعه منها منذ زمن بعيد.
كان سماعه أشبه بالعثور على نفسه من جديد.
فكّر بعمق:
إن استيقظت إيفون… سأصلح ما يجب إصلاحه.
وإن استيقظت إيفينا… فسيكون لنا حديث طويل، لن ينتهي بسهولة.
هو مستعد… لأي شيء.
لأن يجيب عن كل أسئلتها.
ولأن يمنحها كل ما ترغب.
‘لقد اكتملت استعدادي… فمتى تنتهي رحلتك الطويلة يا إيفينا؟’
رحلتها في استرجاع الذاكرة لم تكن قصيرة.
كانت مساراً يلتهم العمر.
ربما ما حدث اليوم كان الشرارة الأخيرة التي أعادت لها كل شيء.
لم يبق سوى الانتظار.
الانتظار حتى تفتح عينيها… وتختار من تكون.
وأثناء ذلك، تدفقت في ذهنه ذكرياتهما القديمة… كما لو أن الزمن يعود ليحكي من جديد.
التعليقات لهذا الفصل " 82"