“……!”
انطلقت شرارة النار من شمعة وحيدة، امتد اللهيب إلى البطانية واللحاف، ثم ارتقى في لحظة خاطفة إلى الستائر.
فاررر.
كأن الخطوط المشتعلة رُسمت كفتيل طويل، امتدت بسرعة جامحة، فيما كانت الأشياء التي طلبتها الآنسة جولييت لتدفئتها تزيد اللهيب شراسة وقوة.
النار تتسع شيئًا فشيئًا.
‘يجب أن أهرب.’
كان رأسي يدق جرس الخطر بلا توقف، يصيح بأن البقاء هنا هلاك، لكن جسدي ثقل، مكبل، لا يستجيب، كأن فكرة مشؤومة تخنقه من الداخل.
لم يتحرك جسدي.
‘غريب… هذه أول مرة أمر بها، ومع ذلك…’
كأنني سبق وأن انجرفت في كارثة مماثلة، فصرت عاجزة عن التقدم أو التراجع.
‘بهذا الشكل سأحترق داخل الغرفة.’
حتى لو ملأت دلواً بالماء وسكبته على اللهيب، فلن يجدي شيئًا.
وبنظرة ثابتة، كان واضحًا أن إخماد الحريق بسرعة ضرب من الاستحالة.
‘يجب أن أتجنب الدخان.’
رفعت كم ثيابي وغطيت فمي قدر استطاعتي.
‘أرجوك… تحركي… أرجوووك!’
الذعر والرهبة شلّا قدماي، فصرخت في داخلي على ساقين ترتجفان وكأنهما ليستا لي.
كان يجب أن أتحرك. يجب أن أحيا.
لم أرغب أن أموت ظلماً في هذا اللهيب.
كان هناك ما يجب أن أفعله… شيء مهم…
‘ما هو؟ ما الذي كان علي فعله؟’
لم يكن مجرد أداء الواجب أو العمل بجد، بل كان شيئًا أكبر.
لكن التفكير لم يعد مجديًا، فالمهم الآن النجاة.
جمعت شتات عزيمتي، ودَفعت جسدي دفعًا.
‘أخيرًا…’
تحركت.
ربما كان دافع الحياة، ربما مجرد غريزة، المهم أن قدماي تحركتا.
كنت أظن أنني سأضطر للزحف جراً، لكني وقفت، فتنفست بارتياح متوتر.
“حريق!”
دوّى صوت من الخارج.
“حريق؟ من أين؟”
“من غرفة الآنسة جولييت! اندلع فيها الحريق!”
“والآنسة؟ أين هي؟ لا تكون بالداخل؟”
كان القصر المعتاد على السكون يضج الآن بالقلق والصراخ.
“الآنسة هنا! هي بخير!”
وصل الصوت من بعيد، عاليًا جهيرًا.
“لاااا! لا أريد الموت! جولييت لا تريد الموت! لن تموت هنا!”
بلغني صوتها مذعورًا، وقد نجحت فيما يبدو في الفرار.
“إذا فالغرفة خالية. ركزوا على إخماد النار.”
لا… ليس صحيحًا. أنا هنا. كنت هنا طوال الوقت.
مع أن صرختها تكررت مرارًا، لم ينطق أحد بأنني ما زلت في الداخل.
لم ينتبه أحد لوجودي.
ربما ظنوا أنني خرجت قبلهم، أو أنها هي التي أمرتني بالذهاب فافترضوا نجاتي.
لكن تلك التفاصيل لم تعد مهمة.
الذي كان يهم هو أن اللهيب يزداد ضراوة.
‘يجب أن أصل إلى الباب.’
لم يكن للغرفة سوى منفذين: الباب، والنافذة.
اتجهت إلى الباب كما لو أن الأمر بديهي.
ولحسن الحظ، لم يبلغ الحريق الباب بعد.
‘مغلق.’
تكلت. تكلت.
يا إلهي!
حركت المقبض مرارًا، لكنه بقي صلبًا لا يتحرك، كأنه تعطل تمامًا.
‘نعم… إنه معطل. لقد قالت إينيس ذلك.’
تذكرت بوضوح مؤلم أنها كانت تبقي الباب مواربًا عمدًا، وأن جولييت أثارت فزعها حين أغلقته مرة.
كيف نسيت هذا؟
ربما شوش الخوف ذاكرتي.
“حريق!”
تكرر الصراخ من الخارج.
“حريق!”
“إذا لم يفتح الباب… فهل يمكنني الوصول إلى النافذة؟”
مستحيل.
‘حتى الاقتراب منها مستحيل.’
كانت الستائر المشتعلة تحجب الطريق.
‘حتى لو لم تكن مشتعلة، لما استطعت.’
فقد كان البرد قد جعل الآنسة جولييت تحكم إغلاق النافذة، وربما أقفلتها بإحكام.
لم تكن هناك نافذة للنجاة. لم يكن هناك أمل.
‘أنا خائفة.’
خائفة حتى الارتجاف، حتى العض على شفتي حتى نزف الدم.
‘لا أريد الموت.’
لم يعد هناك مهرب. كل ما تبقى هو انتظار أن تنطفئ النار—أو أن تبتلعني، أيهما أسرع.
نظرت إلى النيران التي التهمت المكان وسقطت أرضًا.
‘أريد أن أعيش.’
كان هناك شخص أريد أن أراه. شخص يجب أن أراه.
لكنني لم أكن أعرف من هو.
والنار لم تخمد، وجسدي ينكمش من شدة الرعب.
“حريق!”
صوت الناس في الخارج، وصوت النار في الداخل، والحرارة تلفني.
“……!”
فجأة اخترق رأسي ألم شديد، كأن يدًا غليظة شدت شعري وارتطمت به بالجدار.
قبضت على رأسي وأنا أحاول ألا أستنشق الدخان.
‘كفى… أرجوك… يكفي.’
وعندما بلغت الآلام ذروتها…
[أنت جميلة للغاية يا آنسة إيفينا.]
توقف الألم.
وانطلق صوت مألوف.
رفعت رأسي ببطء نحو مصدره.
[كما توقعت… كل شيء فيك كامل يا آنسة إيفينا.]
إيفينا روزيفينا، تلك التي اختفت يوم اشتعل القصر، لم يجدوا جثتها، لم يعرفوا مصيرها، بين من صدق موتها… ومن أراد بقوة أن تبقى حية.
[يبدو أنني أزعجتك. اليوم مهم… ولا بد أن تحتاجي إلى بعض الهدوء. سأخرج.]
أعرفه، وأعرف من كان يخاطبه.
‘ليس وهمًا.’
كان ذكرى، جزءًا من ماضيّ.
نسيت اللهيب ونهضت كأن ساقي لم تخذلاني قبل لحظات.
نظرت حولي.
‘لا شيء.’
لا دب محشو، لا صندوق موسيقى، لا أثاث قديم، لا شيء.
وهذا طبيعي، فقد كانت غرفتي… وصارت لغيري الآن.
[حريق!]
لم يكن صوتًا واقعيًا، كان من الذاكرة.
[أين هي الآنسة إيفينا؟ لماذا لا يراها أحد؟!]
تذكرت.
كلما خف الصداع، عادت التفاصيل.
كنت محاصرة، وهم يبحثون عني.
[أنا أعرف! خرجت قليلاً وحدها… لكنها لم تعد!]
نعم… هذا الصوت.
صوت المرأة التي غادرت غرفتي بعد أن أثنت عليّ بجنون.
[هيا! أطفئوا النار! الآنسة ما زالت بالداخل!]
[لكن النار تبتلع القصر! لا نستطيع الاقتراب!]
كانوا يحاولون… لكن دون جدوى.
وكانت ‘أنا’… تموت.
‘إذن… كنت حقًا على وشك الموت.’
وبينما كانت الذاكرة تتجمع كقطع فسيفساء…
‘من كنت؟’
“إيفون.”
“إيفون؟”
“إيفون!”
كانوا ينادونني به مرارًا وطويلاً، فظننته اسمي.
لكنني تذكرت الآن.
‘ليس اسمي.’
لقد كان لقبا، اسمًا مدللًا.
‘اسمي الحقيقي… إيفينا.’
إيفينا روزيفينا.
ابنة سيدة ملكية من بلاد أخرى، وريثة آل روزيفينا.
أنا.
‘لكن… كيف أنا حية؟’
كنت محاصرة بالنار في آخر ذكرى، كنت أموت.
والآن… ها أنا في الحريق ذاته… مرة أخرى.
‘لقد رأيت شخصًا… في اللحظة الأخيرة.’
كان أحدهم هناك، لم أتذكر وجهه.
فاررر.
امتد اللهيب إلى السرير وكل ما حوله.
لم يبق شيء إلا والنار التهمته.
‘انتهى كل شيء.’
جلست منهارة، كأنها نهايتي الثانية.
عندها…
“إيفينا!”
اخترق الصوت دخان الغرفة ولهيبها.
رفعت رأسي لاهثة.
‘كنت أنت…’
أنت من أنقذتني… في الماضي.
ظهر رجل وسط عالم أحمر مشتعل.
الرجل الذي اتبعته، الرجل الذي منحني الحب.
التعليقات لهذا الفصل " 81"