عندما دخلتُ المهرجان بعد أنْ غيّرتُ مظهري بالكامل، شعرتُ وكأنّي انزلقتُ إلى عالمٍ آخر.
’حقًّا، يبدو كعالمٍ آخر.’
لمْ أجدْ على أيِّ وجهٍ هنا أثرَ القلقِ أو الهمّ. الجميعُ يضحكُ ويبتهجُ لأتفهِ الأمور، ولمْ يلحظْ عينيَّ أيُّ عبوسٍ على الإطلاق.
’لعلَّ هذا هو الأقربُ إلى الواقع الطبيعي.’
نعم. فذَلكَ القصرُ الذي أعملُ فيه، وتلكَ الأرضُ التي ينتمي إليها، تبدو الأقلَّ واقعيّةً، أليسَ كذلك؟
إنّه فضاءٌ عامرٌ بالمستحيل، لا تتغيّرُ فيه الفصول. وبمجرد الخروج منه، يمكن العثورُ بسهولةٍ على أماكنَ عاديّة، بما فيها موقعُ المهرجان.
’إذا طالت إقامتي هنا، فلنْ أستطيع التأقلمَ عند عودتي إلى القصر.’
خَطرَتْ لي هذه الفكرة فجأةً.
هذا المكان طبيعيٌّ جدًا ومفعمٌ بالحياة، ولأنه يتناقض مع ذَلك القصر في كل شيءٍ من ألفه إلى يائه، ربما أتمنا البقاء هنا أطولَ فترةٍ ممكنة.
وبما أنّها أمنيةٌ مستحيلة، سأحتفظُ بذكرى هذا المكان حتى يوم استقالتي بعد عودتي إلى القصر.
بينما كنتُ أفكّر في ذلك، سألني شخصٌ بجانبي:
”هل هناك شيءٌ يأسِرُ انتباهكِ؟”
كانَ الرجلُ الذي طلب مني مرافقته في الخروج.
أظنُّ أنّ اسمهُ كيليان؟ بالتأكيد، هذا الاسم يتناسب مع مظهره الأصلي أكثر من مظهره المتغير.
’الآن أتذكّر. كان هذا الاسم الذي لم يخطر ببالي حينها.’
بعد أن تعرّفتُ عليه وبدأت أردد اسمه، خطرت لي فجأةً ذكرى قديمة.
في الماضي، حين رأيتُ ليون، ظننت أنّ هناك اسمًا آخر يناسبه، لكن الوقت مرّ ولم أتذكّر. يبدو الآن أنّه اسم هذا الرجل.
’ربما كانت صدفةً، فالأسماء متشابهة.’
ليون، الذي لن نتمكّن من رؤية وجهه بسهولة بعد استقالته، وكيليان، الذي سيبقى ضيفًا في القصر لبعض الوقت، يشتركان فقط بجزءٍ صغير من الاسم، ولا يمكن إيجاد أوجه تشابه كثيرة بينهما.
كان ليون لطيفًا مع الجميع، أما كيليان فلم يكن كذلك.
”بما أنّك لم تجيبي، يبدو أنّ لا شيء أسركِ بعد.”
قال ذلك عرضًا، وكأنّه يستنتج الأمر وهو يواصل السير.
يجب ألّا أنسى أنّ سببَ لطفه معي الآن يعود إلى أنّني أشبه شخصًا آخر.
”على النقيض من ذلك، هناك الكثير مما أسَرَ انتباهي.”
أنهى حديثه دون انتظار إجابتي.
”هل هذه المرة الأولى التي تأتي فيها إلى المهرجان؟”
عادةً، إذا أسرت الأشياءُ انتباه شخصٍ ما، فهذا يدل على أنّها المرة الأولى وأنّ الأمر جديد ومثير.
بما أنّه مهرجان يمكن للجمهور الاختلاط فيه بسهولة، فمن المؤكد أنّ ابن أسرة نبيلة مثله لم يأتِ إلى مكان كهذا من قبل.
’لا. ربما العكس هو الصحيح، إذا كانت ذاكرتي سليمة.’
هناك شيءٌ كدت أنساه: في الذكريات التي تظهر أحيانًا، يظهر زوج من ذكرٍ وأنثى. وكانت المرأة إيفينا روزيفينا، والرجل على الأغلب هو نفسه الذي بجانبي.
’إذا كان هؤلاء هم نفس الأشخاص الذين ظهرت لي ذكرياتهم، فربما…’
ربما كانا شاهدا الألعاب النارية معًا؟
ماذا لو كان معتادًا على المهرجان، ولذَلِك أسَرَت انتباهه هذه الأشياء كلها؟
’يجب أن أوقف نفسي عن التخيل. لا يمكنني تأكيد شيء، لذا دعيني أتوقف.’
قطعتُ الإنكار على الشكوك المتزايدة، ونفيتها بقوة.
حتى لو صحّت أفكاري، فلن يكون للأمر أي علاقة بي.
”ليست هذه المرة الأولى، فقد كنت أزور المهرجان هنا كل عام.”
كل عام؟ يبدو أنّه يحضره كل سنة دون انقطاع، ولا بد أنّ لديه ذكريات خاصة به عن هذا المهرجان.
”في الأصل، لا أحب الأماكن كهذه، لكن عند زيارتي لها، تركت لي ذكرى جميلة، ولأجل ذلك أعود إليها رغبةً في صنع المزيد من تلك الذكريات.”
شرح لي كل شيء بالتفصيل، حتى ما لم أسأل عنه.
بهذا الزخم، بدا وكأنه على وشك أن يروي كل شيء عن أول زيارة له لهذا المكان.
”إذن، لا شيء يخفى عنك في هذا المهرجان.”
حوّلت اتجاه الحديث فجأة قائلةً إنّي سأستمتع بفضله، فأجاب دون أي علامات دهشة.
”أستطيع أيضًا أن أمنع الشخص الذي يرافقني من الشعور بالملل.”
بدأ يتقدم في السير، واثقًا من نفسه.
تبِعته بهدوء حتى لا أضيع في المهرجان الذي أزوره لأول مرة.
’في النهاية، هل هذا لأن الأمر طبيعي؟’
بفضل مظهري المتغير، اندمجنا بسهولة بين الناس.
لم يتعرف علينا أحد، بل اقتربوا منّا وقدموا لنا خريطة المهرجان.
ظننت أنّه من الجيد التحقق منها قبل التجوّل، فأمسكت بها بإحكام.
”تفضلي.”
كنت أحمل الخريطة في يد، وفي الأخرى كبابًا على سيخ كان قد أعطاني إيّاه.
”أخبِريني إذا كان هناك مكان تريدين الذهاب إليه. بما أنّني أتي كل عام، فلن يبقَ مكان لم أزرْه.”
بدا وكأنه يعدّني بأن يأخذني إلى أي مكان أريده.
’حتى الآن يزور المهرجان متنكّرًا هكذا، لذا من المؤكد أنه كان يتنقّل بحرية دون لفت الانتباه.’
أشرت إلى مكان واحد على الخريطة.
”لديك عين ثاقبة. هذا المكان يُشاد به الجميع. كيف اخترتِه مرة واحدة؟”
كنت سأقول ربما لأنني محظوظة، لكنّي توقفت.
لو كنت محظوظة حقًا، لربما كنت أعمل في مكان آخر غير ذاك القصر، لكن على الأقل لم أكن لأعاني من أحداث غريبة هناك.
”من هنا سيبدأ الازدحام، لذا لا تتركي يدي وتابِعيني.”
شدّ يدي بقوة، مؤكّدًا أنّ المكان الذي سنزوره يعجّ بالناس. أومأت برأسي، وسرنا بخطى سريعة.
بعد طول السير بين الحشود، ظهر مشهد أسره الأنظار.
”تغيّر منذ خمس سنوات تقريبًا. كان مليئًا بالورود الحمراء، لكنه تحول بالكامل إلى زرقاء.”
الورود الزرقاء تزيّن التماثيل المختلفة، والمكان كله يغمره اللون الأزرق، كأنّه يريد ملء ساحة المهرجان بأكملها.
”الشخص الذي أعرفه أحب هذا المشهد، مثل كل الشخصيات الأخرى. الآن فقط وُضع كل شيء في مكانه.”
لو كنت أكثر ثقافة، لوصفتُ ما هو جميل في كل جزء، لكنّني لم أستطع.
”إنه جميل جدًّا.”
قلتُ ذلك بصراحة.
”جميل لدرجة أنني أود رؤيته مرة أخرى إذا سنحت الفرصة.”
خطرت لي فكرة أن أعود لرؤيته بعد أن أتوقف عن العمل.
”يسعدني أنه أعجبكِ.”
ابتسم بعينيه واقترح الذهاب إلى مكان آخر.
قبلتُ الاقتراح واخترتُ المكان الثاني الذي أرغب في زيارته، وتبعني باقتناع.
المهرجان مليء بالمشاهد التي تأسر الأنظار، وكنت أحاول أن أستمتع بكل شيء رغم أنّي أرافق ضيفًا.
استمرت هذه الحال حتى بعد أن غابت الشمس.
’مر وقت طويل منذ أن نظرت إلى النجوم بهدوء كهذا.’
في ذلك الوقت لم يكن لدي وقت كافٍ للتوقف والتأمل، لكن الآن كان لدي وقتٌ كثير. رفعت رأسي إلى السماء المرصعة بالعشرات من النجوم، بلا أيّ سحب، فتجلّى القمر بوضوح.
”سيكون المنظر أروع لو سقط نيزك، لكن لا بوادر لذلك، لذا توقع شيئًا آخر.”
قال وهو ينظر للسماء، واقفًا بجانبي بين الحشود.
”شيء آخر؟ مثل ماذا…؟”
سألته، خافضة رأسي، فبدل أن يجيب، بسط يده: إصبع واحد، إصبعان، ثلاثة.
ومع فتح ثلاثة أصابع بالضبط، سُمِعَ صوت صفير، وكأنّ شيئًا انطلق بعد الإشارة.
’هذا صحيح. كان يقصد ذلك.’
عدد الناس لم يقلّ رغم اقتراب انتهاء وقت المهرجان، والسبب كان هذا المشهد.
بوم!
الألعاب النارية تزيّن سماء الليل، وجعلتني أُبقي عيني على المنظر المبهر الذي أسرّ الجميع.
”ظننت أنني سأشاهدها وحدي هذا العام، لكن بفضلك لست وحيدًا.”
تحدث وكأنّه ينقل كلمات يجب إيصالها وسط ضوضاء المفرقعات.
’كنت على وشك أن أشكره على السماح لي بمرافقته، لكنّني لم أستطع.’
”لا تُبالغي في التفسير، الأمر يعني أنّني أستطيع المجيء مرة واحدة في السنة لأستريح.”
كانت ذكرى مختلفة، واضحة بشكل خاص، وظهر وجه الشخص الذي تحدث، إيفينا روزيفينا، المرأة التي تكرهها الآنسة جولييت.
”إذن كل عام، هذا أمر مفرح جدًّا.”
الشخص الذي أجاب كان نفس الرجل أمامي: كيليان رودريغو، الرجل الذي أرادت الآنسة جولييت.
”هل هناك شيء على وجهي، يا الآنسة إيفون؟”
لكن لا يزال هناك شعور أكثر إرباكًا من الذكرى التي خطرت لي فجأة.
’لماذا؟’
لماذا ظهرت لي هذه الذكرى؟
لم أستطع أن أخبره أنّي اكتشفت ذكرياته وذكريات الشخص الذي أحبه بطريقة تعسفية.
التعليقات لهذا الفصل " 73"