لَمْ أَدرِ ما الّذي أزعجهُ في الرّجلِ، لكنِّي افترضتُ أنّهُ يفضّلُ عدمَ البقاءِ ساكنًا أمامَ الدّرَجِ، فتقدّمتُ بِثِقَةٍ نحوَ الأمامِ.
خُطوةٌ واحدةٌ، خُطوتانِ.
كلّما اقتربتُ، تَجلّتْ ملامحُ وجهِه بِوضوحٍ أكبر، ومع ذلك، لمْ يَبدُ أن حاجِبَيهِ سَينفَرِجانِ أبدًا.
’هلْ هو سَيِّئٌ إلى هذا الحدّ؟’
كانتْ نَظراتُه تتنقّلُ صعودًا وهبوطًا، كما لو أنّهُ يَتفحّصني، ويَبدو أنّهُ يُريدُ الاعتراضَ على مَلابِسي.
لكن، حتى لو اعترض، فماذا يُمكِنُني أن أفعل؟ حتى لو اخترتُ ثوبًا آخرَ مما أملكُ، فلن أستطيعَ إرضاءَ عينيه، ولن أخرجَ أبدًا بِزيّ الخادِماتِ.
تمنّيتُ فقط أنْ يوجّهَ هذا الاستياءُ نحوَ مكانٍ آخرَ سريعًا.
”لَحسنِ الحظِّ، لم نتأخّر.”
عندما وقفتُ على مَسافةٍ مناسبةٍ، بادَر الرّجلُ بالكلامِ.
ارتسمَ على وجهه تعبيرٌ هادئ، كما لو أنّ حاجِبَيهِ لم يعبسا قط، ولحسنِ الحظِّ، بدا أنّهُ نوى تجاوزَ مسألةِ مَلابِسي بِهدوءٍ.
”من الجيّد أن نذهبَ مباشرةً دونَ إضاعةِ المزيدِ من الوقتِ، لكن، ينبغي لنا أن نهتمّ بشيءٍ واحدٍ.”
أوه. لا، يبدو أنّني كنتُ مخطئة. هل كان عازمًا على الاعتراضِ على مَلابِسي بعدَ كلِّ شيءٍ؟ لقد ألقى نظرةً أخرى من الأعلى إلى الأسفلِ.
”هلْ لباسِي لا يُعجبُك؟”
بما أنّ الأمرَ سَيؤولُ إلى الاعتراضِ على أيّ حالٍ، سألتُهُ ظنًّا منّي أنّ المبادرةَ بالذكرِ أفضل، فَنطقَ بكلامٍ خالفَ توقعاتي.
”لا أحبّه بقدرِ ما أجدُ لباسًا آخرَ قد يُناسبُك أكثرَ.”
ثوبٌ آخرُ قد يُناسبني أكثر؟
تساءلتُ عن مغزى كلامِه المفاجئ، فأملتُ رأسي، فبدأ يشرحُ لي بِوضوحٍ:
”أليس من الجيّد أن تكونَ الروحُ منتعشةً والجسدُ منتعشًا، خصوصًا وأنها خُرجةٌ مُتعمّدةٌ وسَنذهبُ إلى مكانٍ يُقامُ فيهِ مهرجانٌ؟”
حسنًا، ما الّذي يربطُ هذا بِملابسي؟
في اللحظةِ التي شعرتُ فيها أنّهُ ينبغي له أن يشرحَ بشكلٍ أدقّ:
”أولًا، هكذا.”
طقطقَ الرّجلُ بأصابعه، فشعرتُ أنّ شعري الطويلَ الممسوح إلى وسطِ خَصري قد ثُبّتَ بشكلٍ صلب، فرفعتُ يدي بلا وعيٍ إليه. لم يعد الشعرُ الأسودُ منسدلًا طويلاً، بل صار مضفورًا بأناقةٍ في ضفيرةٍ واحدة.
”ثمّ، هكذا.”
لم يترك لي الرّجلُ مجالًا للإعجاب، وطقطقَ بأصابعه مرةً أخرى.
ما الّذي سيحدثُ هذه المرة؟
بمجردِ أن حركتُ رأسي محاولةً التحققَ من شيءٍ ما، خلقَ الرّجلُ مرآةً أمامي وعرضها بِوضوح، كما لو أنّه يُنبهني ألّا أضيّعَ الوقت في مكانٍ خاطئ.
مرآةٌ طويلةٌ وكبيرة.
كأنّهُ سحرٌ.
’سحرٌ؟’
آه، صحيحٌ. سببُ وجودِ مرآةٍ أمامَ عينيّ دون أن يذهب ليأتي بالمِرآةِ في الغرفة، وسببُ تغييرِ تسريحةِ شعري بحريةٍ، كلّ هذا كان بسببِ السحرِ الذي يقومُ به الرّجل.
في الواقع، لم يكن شعورُ الانصياعِ لهذا السحرِ سيئًا أبدًا.
”انظري إلى الأمام. كيف تبدو هيئتُك الآنَ.”
طلبَ مني أن أرفعَ رأسي وأنظرَ إلى الأمام، كما لو أنّه يطالبني بالتعبيرِ عن إعجابي بسرعةٍ.
بمجردِ أن أذعنتُ لطلبه بسهولةٍ، انعكسَ في المرآة مظهرٌ مخالف تمامًا لمظهري عند خروجي من الغرفة لأول مرة.
’كلُّ شيءٍ يبدو غاليًا.’
الشعرُ المضفورُ بأناقة كان أوّلَ ما لفتَ نظري، ثمّ تبعهُ فستانٌ لم يكن ليكونَ في خزانةِ مَلابِسي.
لم يكن الثوبُ فخمًا أو مُلفتًا للنظر مقارنةً بفَساتين السيّدةِ جولييت، لكنّه كان ثوبًا جيدًا.
كان لباسًا ذا خامةٍ ممتازة يمكن لشخصٍ من عائلةٍ نبيلةٍ ذات مكانةٍ ليست رفيعة أن يرتديه. وفوقه، دبّوسُ زينةٍ على شكل فراشة.
”هل يمكنني أن أرتدي هذا؟”
ظَللتُ أحدّقُ بصمتٍ إلى نفسي المنعكسة في المرآة، ثمّ حوّلتُ نظري قليلًا نحوَ الرّجل وسألته.
”بالطبعِ.”
أجابَ الرّجل بـ “نعم” دون ثانيةٍ واحدةٍ من التردد.
”نحن لا نذهب إلى حفلةِ رقصٍ، بل إلى مجرد مهرجانٍ، ألن يكون من الملائم ارتداءُ شيءٍ مثل هذا؟ لن يكون من الصعب الاختلاطُ بالناس.”
بالطبع، لن يكون من الصعب الاختلاطُ بالناس بهذا المظهر.
”والثيابُ ستسعدُ لقاء صاحبِها.”
لم أفهم معنى الكلمات الأخيرة التي سمعتها.
هل لأنّ تعبيرَ وجهِ الرّجل كان حزينًا إلى حدّ ما؟ لم أستطع أن أسأله لماذا قال ذلك.
’لربما لم يقصد شيئًا خاصًّا.’
لربما لم يكن لهذا الفستانِ صاحبٌ منذ البداية، ولأنّي أول من ارتداه، فقد عبّر عن الأمر بهذه الطريقة.
افترضتُ ضمنيًا أنّه ليس أمرًا خاصًّا، واخترتُ الصمت.
”إذن، الآنَ…”
يبدو أنّه كان يريدُ أن يسألني عمّا إذا كنتُ سأذهب معه.
قبل أن يُنهي الرّجل كلامه، مادًّا يده، قاطعَ شخصٌ ما حوارنا فجأةً.
”ألَمْ تكن مقرّرًا البقاءَ في قصرِ جولييت؟ إلى أينَ تذهب؟”
التفتُّ إلى الخلف بسبب الصوت الحاد، فرأيتُ الآنسةَ جولييت.
لم يكن مستغربًا أن يصلَ خبر خروجنا إلى مسامعها.
’بالطبع، كم هو عدد الأشخاص الذين يرون ويسمعون في هذا القصر.’
إذا أرادت الآنسةُ جولييت، يمكنها أن تعلم كلّ شيء يحدث في هذا القصر.
وهذا الوضع كذلك.
”قصرُك؟ أليس هذا خطأً؟ حسب علمي، فإنّ والديك هما من استولا على هذا القصر، وليس أنتِ.”
لكن يبدو أنّ شيئًا ما أزعجَ الرّجل، فقد اعترض أوّلًا.
”لهذا السبب أتكلم! بما أنّه ملكٌ لوالدي جولييت على أي حال، فسيكون قصرًا لجولييت…”
أرادت أن تقول إنّ هذا شيءٌ طبيعيّ، لكنها لم تستطع إكمال كلامها، وكأنّها لم يُجز لها أن تُكمِل ما تقول.
”بغضّ النظر عن ذلك، لم تُجب بعد، لذا أسألُ مرةً أخرى، إلى أينَ تذهب وتتركُ جولييت وحدها؟”
يبدو أنّ الآنسةَ جولييت لم يُعجبها أنّ الرّجل قرّرَ الخروج دون التشاور معها وأنّي سأرافقه.
شعرت أنّها قد تطلب مرافقتَنا إذا أرادت.
’إذا كان الأمر كذلك، أريدُ أن أَنسحب.’
إذا رافقتنا الآنسةُ جولييت في خروجنا، لم أكن واثقة أنّني سأنجو بين الشخصين المتواجدين كالرّمح والدّرع.
علاوةً على ذلك، فإنّ واحدًا منهما يكرهني كثيرًا، أليس كذلك؟ لذا، حتى لو أكلت شيئًا في الخارج، لن أعرف إن كان يدخلُ من فمي أم من أنفي.
كانت هذه اللحظة التي كنتُ أتخيّل فيها مثل هذا الوضع المرعب.
”صحيح أنّني نزيلٌ، لكن لم أكن أعلم أنّه يجب أن أستأذن لكل خروجٍ. لا أعلم متى أصبحت علاقتنا تتطلب كلّ هذا الاستئذان.”
تلعثمت، ارتجفت أطرافُ أصابعها، وعضّت على شفتيها بقوّةٍ كإضافةٍ.
”لا يهمّ حتى لو قلتِ لا. لستُ طفلًا صغيرًا، وقد تجاوزتُ سنّ الحصول على إذنٍ لمثل هذه الأمور.”
هزّ كتفيه بخفةٍ، وكأنّه يقول: ليست هناك مشكلة.
”ودعيني أقول شيئًا آخر، لن آخُذك معي حتى لو قلتِ أنّك ستذهبين.”
الكلام الذي تلا ذلك كان إعلانًا من طرفٍ واحد، لم يكن هناك مجالٌ للشكّ أو التراجع.
”كما ترين من ملابسنا، نحن لا نذهب لنلفت الانتباه. سنختلط بالناس، وإذا ذهبتُ معك، يجب أن أتخلّى عن ذلك.”
بالطبع، كان هذا صحيحًا.
أحبّت الآنسةُ جولييت التفاخر بنفسها أمام الآخرين، ولهذا السبب كانت دائمًا تزيّن نفسها بأجمل المَلابس، حتى عندما كانت مُنغلقةً على نفسها في هذا القصر.
من أجل الضيوف الذين قد يأتون فجأةً في أي وقت، حتى لو لم يكن لديها شيء لتخرُج إليه، ولتُظهر نفسها للعاملين في هذا القصر الذين يعملون تحت إمرتها.
فهل يُعقل أن ترتدي الآنسةُ جولييت التي تريد ذلك لباسًا مُهذّبًا وتتصرّف بطريقةٍ لا تَلفت الانتباه لتختلط بالناس؟ هذا مستحيل.
’هذا إن طلعت الشمس من الغرب.’
لا، كانت هناك طريقةٌ أسهل.
لربما توافق الآنسةُ جولييت أخرى على ارتداء ملابس مهذّبة والتصرّف بطريقةٍ لا تلفت الانتباه.
”آه، مع ذلك، حتى لو تبعتِنا لإفساد الأمور بسبب شعورك بالغضب، فلن تجدينا.”
طقطق بأصبعه مرةً واحدة وأزال المرآة، ثم اقترب مني وسحبني قريبًا من حضنه.
”لأننا سنغيّر مظهرنا من الآن فصاعدًا بشكلٍ لا يمكنكِ العثور علينا.”
قبل أن أسأله عمّا يعنيه، تغيّر المشهد المحيط بنا في لمحِ البصر.
لم يعد القصر المعتاد، بل منظرٌ غريبٌ لم أرَه من قبل، منظرٌ لا تظهر فيه تعابير الآنسةِ جولييت المرتبكة، بل منظرٌ يبدو أنّ لا أحد قريبٌ منه.
عندما رمشت بعينيّ بسرعةٍ:
’أين أنا هنا؟’
لم يعد القصرُ.
”ذلك هو مكانُ المهرجان. لذا سنغيّر مظهرنا هنا ونذهب.”
انتزعَ الرجلُ فرصة ارتباكي، فأشار بسرعةٍ إلى مكانٍ ما وقال:
نغيّر مظهرنا؟ كيف؟
في وسط الوضع الذي لم يكن سهل الفهم، ابتسمَ الرجل ابتسامةً بريئة وطقطق بأصبعه، فتغيّر مظهره، تغيّر كثيرًا.
’إنه عادي.’
الرجل الذي أمامي لم يعد يملك وجهًا يجذب أنظار الجميع. لم يكن لديه أيّ شيء جذّاب يلفت الانتباه ليختلط بالناس العاديين المارين، كان وجهًا يُمكن رؤيته بشكلٍ شائع.
بالطبع، تغيّر لون الشعر ولون العينين إلى ألوانٍ شائعة.
”هل تغيّرت أنا كذلك؟”
لكن، بما أنّ المظهر الخارجي لهذا الرجل تغيّر إلى هذا الحد، أليس هذا يعني أنّني أثّرت بذلك كوني كنت معه؟
سألته خوفًا من المفاجأة، فأومأ برأسه، وفي الوقت نفسه، استدعى مرآةً أخرى أمامي.
’لقد تغيّرت بالفعل.’
كان من الصعب العثور على مظهري السابق في الصورة المنعكسة في المرآة.
تحوّل وجهي بشكلٍ عام إلى انطباعٍ مستدير ومريح، وتغيّر شعري الأسود الحالك إلى شعرٍ بني فاتح وعينين بنيتين.
حتى لو خرجت الآنسةُ جولييت للبحث عنا، فلن تستطيع التعرّف علينا أبدًا بهذا المظهر.
”هل نستمتع بالمهرجان رسميًا الآن؟”
اقترح الرجل بصوتٍ مبتهج، ومدّ يده نحوي مرةً أخرى، كما فعل في القصر.
التعليقات لهذا الفصل " 72"